أبيض وأسود
تتجلى إشكالية الحكم، الناتجة عن الفشل في تحقيق دولة المواطنة، بكل مراراتها، فيما كابدته الشعوب الإثيوبية خلال قرون عديدة من تأريخها الحديث والمعاصر،حيث استُنفِدت مقدرات الأمة الإثيوبية في صراع المغالبة الداخلية أو محاولات التوسع الخارجي، وعاشت الشعوب الإثيوبية عصورا ممتدة من تأريخها محاصرة في نفق آسن مظلم يملؤه الفقر والجوع والتشتت والحرمان، لا لشح في موارد البلاد، وإنما بسبب الصراعات الدموية على الحكم بين المجموعتان الإثنيتان الشهيرتان في البلاد، الأمهرا والتيجراي، وبهذا حُرمت الشعوب الإثيوبية من حقها في الحياة الكريمة وضاعت عليها فرصة اللحاق بركب الأمم المتقدمة، ومن أبرز وأسوأ ما خلفته حقبة الصراع الدموي المتطاول بين المجموعات الإثنية في إثيوبيا أنها أدت إلى بروز أجيال مقهورة ومشوهة التفكير تسامحت عقولها مع العسف باعتباره نوع من الحزم والشجاعة ، وبالتدريج انقلبت بعض الرذائل الآدمية إلى فضائل ، حيث أضحى الكذب ذكاءا واعتبر اللص وقاطع الطريق فارسا ، وهنا يصبح الحاكم معترفا بحكمه ومُهابا بقدر ما يمارسه من سلب ونهب واستبداد، وليس بقدر ما يبسطه من عدل ومحبة وسلام.
ومن سوء حظ الشعب الأرتري، أن شريحةً مهمة من مكونات دولته الحالية، عاشت قرونا طويلة من تأريخها في خضم مستنقعات الصراع الدموي والحروب الأهلية التي دارت رحاها في إثيوبيا، بل كانت جزءا أصيلا وفاعلا في تلك الصراعات التي مرت بها الشعوب الإثيوبية، فمعظم أمراء الحرب وجامعي الضرائب في الهضبة الإرترية لم يكونوا يعملون إلا تحت إمرة كبار الإقطاعيين وقادة الجيوش في إثيوبيا، لا سيما أشقائهم في إقليم التيجراي، حتى أن بعضهم تصدر صفوف القيادة وتمكن من اختراق دائرة النخبة الحاكمة في إثيوبيا وصار قائدا ملء السمع والبصر، وهنا نتحدث عن مئات السنين وليس عن عشرٍ أو عشرين ، وما يعنيه ذلك من تجارب تأريخية وتراكمات مفاهيمية كفيلة بتشكيل الهوية القومية بكل ما تحمله من خصائص ذاتية أومكتسبة من حيث نظرتها للآخر المختلف قبولا أو رفضا.
لا جدل في أن العدل أساس الملك، وأن الشعور الجمعي للمواطنين بالرضى والأمان ضمن كيانهم الوطني أو القومي يضمن وقوفهم يدا واحدة لبناء وتطوير هذا الكيان بإخلاص وتفان فطري ، والذود عنه بأغلى ما يملكون إذا ما تعرض للتهديد، وهو ما نسميه حب الوطن والدفاع عنه ، وعلى النقيض من ذلك ،فإن شعور الرعايا ،أو بعضهم، بالتمييز والإقصاء والإستبداد ، ينزع عنهم الفطرة السليمة في تعظيم شأن الحاكم كما ينزع عنهم الثقة في حكم القانون ، بل ويخلق فيهم روح الأنانية والنزوع إلى العنف لتثبيت حقوقهم أو الدفاع عنها، ومن ثم يتطور لديهم شعور جارف بالإحباط فيتمردون على الحاكم ويخرجون على حكمه ويثورون عليه حتى يستبدلوه طال الزمن أم قصر، وللشعوب مذاهب في أسلوب وطريقة خروجها على الحكام، فمنهم من يثور دفعة واحدة ومنهم من يثور بالتقسيط دفعة إثر أخرى ، كما أن معظم الحكام بدورهم يدركون ذلك فيزيدون جرعة الإستبداد والحرمان على طائفة بعينها ويمدون يدهم لطائفة أخرى حتى يشعر أفراد الطائفة أو المجموعة الأخيرة بنوع من التميّز والقرب من الحاكم فيحجمون عن التمرد عليه وربما يصل بهم الأمر إلى الدفاع عن الحاكم ظنا منهم أنهم يدافعون عن مكانتهم وعن مصالحهم في الدولة، وهنا يأتي دور فزاعة الوحدة الوطنية ، فالحاكم لا يرى في تفضيله لطائفة على أخرى تهديدا للوحدة الوطنية بينما يرى ذلك في مطالبة الطائفة أو الطوائف المظلومة بحقوقها فيصدر القوانين ويجيّش الجيوش دفاعا عن الوحدة الوطنية، والنتيجة الحتمية هنا هي ضمور الروح الوطنية عند أفراد الطائفة مهضومة الحقوق ، فهم يحبون وطنهم ولكنهم يكرهون الحاكم، بينما يختلط الأمر على الطائفة المحظية فتفشل في التمييز بين حب أو كراهية الوطن والحاكم ، وهنا يصبح الحاكم هو الوطن، فمن يقترب منه بسوء يهدد الوحدة الوطنية ومن ينشده الأشعار ويتغنى بإسمه يرتقي إلى أسمى مراتب الوطنية، وهكذا تنهمك الطائفتان أو الطوائف في صراع مرير يتحول تدريجيا إلى صراع بين من يحبون وطنهم ويدافعون عنه وبين من يهددون وحدته ويتآمرون عليه، إنه تصنيف كيفي يُجانب حقيقة المعطيات الواقعية ، وهو في جوهره نتاج لتصورات نمطية تغذيها أدوات الإعلام الدعائي الموجه، والنتيجة دائما هي تحكم مجموعة إثنية أو دينية بعينها بأدوات السلطة والمال مما يؤدي إلى إصابة هيكل الدولة بتشوهات بنيوية واعتلال عام، ويظل الحاكم يتربع على عرشه تحت حماية ” الجيش الوطني” الذي تتشكل قياداته العليا من أبناء الطائفة أو الطوائف الحاكمة ، وأن النتيجة الحتمية لهكذا صراع هي تبديد موارد الدولة وتدمير اقتصادها وتقزيم دورها ، إلى أن تتهالك الدولة ويضمحل اقتصادها ويجوع شعبها ويعجز جيشها عن حماية حدودها فتنقض عليها مليشيات الطوائف التي ظلت مهمشة فتقضي على ما تبقى من هياكلها وتقيم مكانها حكما جديدا يختلف بإختلاف درجة الوعي وتقدير الموقف وبُعد النظر للحكام الجدد، وهكذا تدور آلة الحرب وما يرافقها من فقر ولجوء ومجاعات بين شعوب تراضت ” من حيث المبدأ” على أن تعيش في ظل دولة واحدة وتحت علم واحد ولكنها عجزت عن التوصل إلى صيغة حكم رشيد يبسط العدل ويساوي بين المواطننين في الحقوق كما في الواجبات،ويعتبر المواطن عضوا أصيلا في منظومته ومحورا تدور حوله كافة مشاريعه ، وذلك بكفالة حقوق متساوية لجميع المواطنين في التعليم والتوظيف والتأهيل والتمكين والمشاركة في الحكم وفي التمتع بخيرات البلاد على قدم المساوات.
في عام 1966م ودًّع أسياس أفورقي مدينة أديس أبابا والتحق بجبهة التحرير الإرترية، مقاتلا وثائرا، وبما أن قيادة الجبهة كانت تتألف في معظمها من أبناء المنخفضات المنحدرين من بيئة اجتماعية مسالمة ومتسامحة، وبما أن جل اهتمام هذه القيادة كان ينصب في اتجاه جمع كل أبناء الوطن الإرتري حول هدف واحد هو تحرير إرتريا ، أضف إلى ذلك أن جميع قيادات الجبهة دخلت معترك السياسة بعقلية “الثوري المتصوف” فإنهم لم يترددوا عن فتح أبواب الثورة الإرترية لأسياس أفورقي ومن على شاكلته، لم يحققوا في الخلفية الإجتماعية التي انحدر منها هؤلاء، وليْتَهُم فعلوا ، وهنا لا بد من رسم علامة تعجب كبرى أمام من يتهمون قيادة الجبهة بالتهميش والإقصاء وأولهم أسياس أفورقي الذي خرج عن الصف الثوري وتمرد على الجبهة بدعوى أن قيادة الجبهة مارست التهميش والإقصاء ضد أبناء المرتفعات، بينما التفسير المنطقي المنصف يقول ، لو أن قيادة الجبهة كانت تفكر بنفس عقلية الصراع المناطقي والتمييز العنصري الذي كان يفكر به أبناء التجرينيا (سابقا ولاحقا) لتجاهلت أسياس أفورقي وأمثاله ولتركتهم يتسولون في شوارع كسلا حتى تنقطع بهم السبل ويعودوا من حيث أتوْ ، لكنها فعلت العكس، فاحتضنتهم وفتحت لهم باب المجد والتمكين على مصراعيه وأطلقت أيديهم يبطشون بها كيفما شاءوا حتى انقلبوا عليها وداسوا على قفاها، ورموها وراء الحدود، وبقية القصة معروفة للجميع، وإن كان البعض يتهم قيادة الجبهة بأنها كانت تمارس التهميش والإقصاء دون وجه حق، فإن البعض ولا سيما أبناء المنخفضات يلومون قيادة الجبهة لأنها لم تكن تفكر بمنطق الصراع الحقيقي وتشعباته الداخلية والخارجية وأن قيادة الجبهة تساهلت وفرطت في حقوقهم الجوهرية ثم فرت القيادات بجلدها وتركتهم على قارعة الطريق نبها للكلاب الضالة.
نعم، التحق أسياس أفورقي بالثورة الإرترية جسدا، لكن عقله ظل معلقا بتفاصيل الصراعات الدموية في إثيوبيا، وصحيحٌ أنه ولد وقضى جزءا كبيرا من حياته في إرتريا، إلا أنه تربى في بيئة تسبِّح بحمد أباطرة إثيوبيا وتتطلع إلى مقاماتهم السامية بإجلال وإكبار، وبالتالي فإن بناؤه العقلي صُمم على قالب أمير حرب حبشي وليس رجل دولة ، ويتجلى ذلك بوضوح في الطريقة التي أدار بها شؤون البلاد منذ تولى سدة الحكم في إرتريا، إن كل ممارساته وأساليب حكمه هي تطبيق حرفي لكل ممارسات الأباطرة الأحباش في عصور الظلام في إثيوبيا، وحتى الصفات الشخصية من غرور أجوف وقسوة لا متناهية واعتماد الكذب وخيانة العهود واسترخاص النفس البشرية كل هذه الصفات رضعها إسياس أفورقي من تلك البيئة الوحشية الهمجية التي تربى عليها.
لا غرابة إذًا ، عندما يتعمد إسياس أفورقي ( الإمبراطور الواهم) إلقاء تمريرة ذكية على أتباعه أثناء وقفته الأخيرة فوق حطام الدولة الإرترية في عيد ميلادها الثالث والعشرين ( 24 مايو 2014م) عندما قال في إحدى رسائله المشفرة التي درج على توجيهها إلى أتباعه ومريديه ( إن البطولات والأمجاد التي حققها الشعب الإرتري في ” هذه السنوات” تضاف إلى تاريخ المائة عام من البطولات)، وبتقليب صفحات التاريخ الإرتري، الأسود منه والأبيض، لن تجد أي أمجاد أو بطولات حدثت قبل مائة عام من “هذه السنوات”، إلا إذا كان الشعب الأرتري هو من قاد الحرب العالمية الأولى وانتصر فيها ونحن لاندري، هناك طبعا أحداث ذات مغزى قصد أفورقي الإحالة إليها وعلى رأسها، الأحداث الكبيرة التي شهدتها إثيوبيا قبل مائة عام من وقفة أسياس أفورقي الأخيرة بالتمام والكمال ، ومن أبرز هذه الأحداث، المؤامرات والدسائس التي مهدت الطريق لصعود الإمبراطور هيلي سلاسي إلى عرش الإمبراطورية الحبشية (1913-1916م) حين تم تنصيبه وصيا على العرش الإمبراطوري وأصبح بذلك حاكما فعليا للإمبراطورية الفقيرة، وقد حدث ذلك بالتوازي مع التطورات التي أدت تفاعلاتها إلى إزاحة الإمبراطور غير المتوَّج “ليج إياسو” عن عرش الإمبراطورية الحبشية بعد أن اتهمته الكنيسة بمهادنة أبناء عمومته المسلمين الإثيوبيين ، لأنه وعد المسلمين بمنحهم بعض الحقوق ، كما اتهمته الكنيسة بمغازلة الإمبراطورية العثمانية فسلطت عليه أتباعها حتى تمكنت من خلعه عن العرش، قبل أن يستريح المسكين من وعثاء سفره نحو المجد قليلا، وأضحى ” ليج إياسو” طريدا، بعد أن أفلح في الهروب من بين مخالب الوحوش الضارية، وظل هائما على وجهه فترة طويلة حتى مات لاجئا منفيا في الصحراء العفرية، وقد حدث كل هذا بتحريض وتمويل من هيلي سلاسي شخصيا.
يدرك أسياس أفورقي جيدا أن الدولة الإرترية تلهث تحت قديمه طريحة بين الحياة والموت، ويدرك أيضا أنَّ مَن أوصلها إلى هذا الدرك ليس أحدٌ سواه، ويدرك أكثر، أنه لا يملك القدرة ولا الرغبة في تقديم أي شيئ آخر غير الجوع والمرض والموت، سواءا لأتباعه أو لأعدائه ، فهذه ثقافته التي تشربها عقله الباطن بسماعه المتكرر لسيرة أسلافه يوهنس ومنيليك وهيلي سلاسي وغيرهم من أمراء الحرب الأحباش، فهم أيضا لم يقدموا لشعوبهم وأتباعهم غير أدوات الخراب البدائية ( سيوف ورماح وفؤوس) ممزوجة بالفاقة والجوع والمرض ناهيك عن أعدائهم، وهذا ما ظل يقدمه سليلهم إسياس أفورقي منذ أن وضع قديمه على الأرض الإرترية، ماذا يمكن أن ننتظر من إنسان لم يجد في طفولته من يسرد عليه حكايات ما قبل النوم، عن الفضائل الإنسانية كالأمانة والشهامة والمروءة والعدل، ماذا يمكن أن ننتظر من شخص تخرج من روضة الثقافة الوحشية الهمجية في أبشع صورها، إذْ لم يكن لعائلته المسكينة المنحدرة من بيئة تمبين الفقيرة في إقليم التيجراي ما تُطَبْطِبُ به على جبين صغيرها من حكايات التنويم، غير قصصٍ عن جنود الملك وهم يقتحمون القرى وينتهكون حرمة البيوت ويرتكبون الفظائع دون تمييز، وحكاياتُ أخرى عن جنود الملك وقد تحلَّقوا حول طفل صغير في قرية من قرى الأرومو الأشرار ” المسلمين” وقد أخذوا يقذفون به عاليا في الهواء يتراهنون بشربة كأس على من يخرقه برمية رمح وهو لا يزال طائرا في الهواء، على هذه الحكايا تربى أسياس أفورقي وقد أسعفه القدر فوجد ميدانا مارس فيه ما هو أشد فظاعة من تلك الحكايات.
وفوق هذا وذاك، يدرك أسياس أفورقي أن رسالته المشفرة هذه ستصل حتما إلى أتباعه، وأنها لن توقظ الكلاب النائمة، وبتفكيك الرسالة المشفرة أعلاه نجد أن أسياس أفورقي يقول لأتباعه ” قديما تمكنت الإمبراطورية الحبشية من طرد المسلمين الأشرار عندما حالوا الإقتراب من عرشها قبل مائة عام، كما فعلنا نحن في ” هذه السنوات” بطرد من حاول الإقتراب من سلطتنا، وهنا لا يقصد أحدا آخر غير حركة الشهيد سعيد على حجاي التي حاولت قلب الطاولة على رأسه ولكنه غافلها برغبته في التفاوض ومن ثم انقض عليها وأجهضها وهي في طورها الأخير كما هو الحال دائما، والأغرب من كل هذا، أن أتباع هذا الإمبراطور الواهم ومريديه يدركون جيدا أنه لا يملك تقديم أي شيئ غير الموت والخراب، ويدركون أن المدن الأرترية التي دخلها فاتحا ليلا مزهوًّا بمليشياته المتوحشة فوجد شوارعها مضيئة قبل أكثر من عشرين عاما سيرحل عنها وهي تغص في ظلام دامس، وهذا مبلغ إنجازاته، ولذلك تجدهم يستعصمون عنه بالبعد، ويتشبثون بالإقامة في دول الغرب التي قدمت لهم ” لحسن الحظ” ما حلموا به وما لم يحلموا به من خيراتها الوفيرة، ومن هناك يهتفون ويتراقصون” عاش الملك عاش الملك” وتأبى نفوسهم ” الغالية طبعا” أن تقترب خطوة واحدة من لهيب ناره الموقدة، إنها الغطرسة الجوفاء والعنصرية المقيتة.
ما لم يدركه أسياس أفورقي وهو يخاطب رعاياه في أسمرا ولاعقي أحذيته في بلاد الشتات، هو ،أن الشقيقة الصغرى لتلك الشرارة، التي انطلقت قديما من أرض المنخفضات الإرترية واشتعلت لاحقا ثم امتدَّ لهيبها حتى أحرقت عرش سيده هيلي سلاسي في أديس أبابا، اشتعلت من جديد ولكنها هذه المرة ليست في ألوان قوس قزح كما في المرة السابقة، إنها بالأبيض والأسود هذه المرة وعلى مبدء لكم أرضكم ولي أرضي.
إن هذه الشرارة تتمثل قطعا في رابطة أبناء المنخفضات الإرترية التي أعلن عن تأسيسها في لندن بداية هذا العام، والملفت في توقيت الإعلان عن هذه الرابطة أنها ظهرت إلى العلن في وقت وصلت فيه الدولة الإرترية حد الكساح القاتل والشلل الكامل ولم تعُدْ تقوى حتى على توفير الطاقة الكهربائية المستمرة لتلفزيونها القومي، بينما أمراء الحرب يحومون حول كرسي الحكم في تنافس محموم، ويكدسون الأتباع والسلاح استعدادا للدخول بالبلاد إلى مرحلة جديدة من الصدام الدموي، اجترارا لصراعات أسلافهم القدماء في إثيوبيا، ويبدوا أن الأمور في إرتريا اليوم تسير في اتجاه التصفيات الجسدية بين لوردات الحرب ومليشياتهم البربرية، والكل يمهد الطريق لنفسه للصعود إلى كرسي الحكم حال خلوه، فالجنرال فليبوس بإعتباره أحد لوردات الحرب المحتمل صعودهم إلى سدة الحكم “إن لم يكن يلعب دور المحلل لأبرهام ابن أفورقي” أخذ بالفعل يتخذ خطوات عملية لتصفية كل من يعتقد أنه يمثل تهديدا على مستقبله، وهناك الكثيرين يتحفزون للسطو على السلطة لأن رائحة الموت بدأت تفوح من نوافذ القصرفي أسمرا.
إن ظهور رابطة أبناء المنخفضات في هذا التوقيت هو بمثابة قطرة الماء الباردة التي تسقط على شرارة النار فتطفئها قبل أن تحرق الدار، إنها إذًا حركة التأريخ، .ولكن كيف لمنظمة مدنية نشأت على بعد آلاف الأميال من ميدان الحدث أن يكون لها تأثير على أوضاع ملتهبة ومعقدة كالتي تشهدها إرتريا اليوم؟، إن هذه الرابطة وإن بدت خجولة وسلمية ودون مستوى الطموح باعتبارها منظمة مجتمع مدني في بلد يكاد يحترق، إلا أنها تملك رصيدا بشريا هائلا يمكن أن يقلب الموازين لصالح الشعب الإرتري عموما، ولصالح مجتمع المنخفضات الإرترية على وجه الخصوص، بشرط أن تحسن التعبئة والقيادة والتوجيه، وإن تجاربنا التاريخية سواء في مرحلة الكفاح التحرري المسلح أو في مرحلة الدولة وما أفرزته من مظالم وإحباطات، كفيل بتحولها التدريجي إلى عملاق قاهر يكتسح مليشيات الشفته الهمجيةالتي أثبتت عدم أهليتها بتسيير دفة الحكم في البلاد.
وهذا ما أشار إليه زميلنا العزيز الأستاذ على سالم، الأب الروحي لحركة أبناء المنخفضات (قبل أن يصرخ ” خلف در”) ، حيث عبر في إحدى مقالاته بموقع عواتي الإلكتروني عام 2009م ، عبر عن امتعاضه وإحباطه الشديد من المنهجية الثورية التي سارت عليها جبهة التحرير، وأن من أكبر الأخطاء الإستراتيجية التي وقعت فيها جبهة التحرير هي أنها عجزت عن تطوير آلياتها وخطابها السياسي حتى يرقى إلى مستوى مقارعة الخطاب النازي المتطرف الذي تبناه سلفي ناتسنت، وكان عليها أن تضيف حرف ( إل) إلى إسمها العتيق لكي يصبح ( إي إل إل إف) Eritrean Lowlands Liberation Frontجبهة تحرير المنخفضات الإرترية ( انتهى كلام الأستاذ).
إن الخبرات التراكمية التي اكتسبها الإخوة القائمين على قيادة رابطة أبناء المنخفضات كفيلة بجعلهم قادرين على فهم ما تتطلبه المرحلة من خطاب وآليات تضمن نجاح الفكرة، فقط عليهم أن يتذكروا أن القبول والتعاطف الجماهيري الواسع لا يعني شيئا، إذا لم يحسنوا عملية القيادة والتوجيه والسيطرة، والتجارب السابقة وعلى رأسها تجربة التنظيمات الإسلامية في إرتريا بادية أمامنا جميعا، فالبرغم من أنها وجدت قبولا وتعاطفا شعبيا واسعا مكنها من التعملق بسرعة كبيرة، إلا أنها بالمقابل خطت خطوتين إلى الأمام ثم تراجعت إلى الخلف ثم ولت الأدبار واختصرت انجازاتها في أنها أعطت العدو مبررات كافية لزيادة جرعات القهر والإنتقام من شعبها.
الإستعداد للحرب يمنع وقوع الحرب، وامتلاك الحق لا يغني عن امتلاك القوة، لا سيما في عالم اليوم، الذي لم يبق فيه للضمير الإنساني مكان، ودونكم شعوب وأمم تمكنت منها السباع الضارية وأخذت تنهش لحومها وتتقاسم أشلاءها على مرئى ومسمع من العالم، لم يأت أحد لنجدتها، مع أنها على حق، ولم يكن ليحدث لها ما حدث لو أنها تنبهت في وقت مبكر ولملمت أطرافها وعملت على الإستعداد ليوم الكريهة.
إن الإحباط والقلق، والإحساس بمرارة الخذلان، الذي ظل محبوسا في أفئدة أبناء مجتمع المنخفضات، انفجر أخيرا بالشكل الذي شاهده الجميع، وهذه هي المرحلة الأولي، وهي مرحلة الحشد والتوجيه المرن، تليها مرحلة البناء الداخلي ومن ثم الإنطلاق بثبات نحو الأهداف السامية التي من أولى أولوياتها، كبح جماح الجنون الطائفي الذي تقوده عصابة الشفته وإيقافه عند حده، تليها مرحلة ضمان وحماية الحقوق لكافة أبناء الشعب الأرتري وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال حشد وتجميع أطراف الكتلة الصلبة، القادرة على معادلة كفة الميزان لصالح الجميع، وعلينا جميعا عدم الخوف والتوجس من هذه الموجة لأنها تنشد الخير والسلام والإستقرار لجميع أبناء الشعب الإرتري انطلاقا من بناء وتقوية مجتمع المنخفضات.
حامد سلمان
للتواصل مع الكاتب: articlesforeritrea@gmail.com
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=30985
مقال مهمم جدا جدا يجب ان يقرءوه اهل المرتفعات والمنخفضات كي يعرفو اين وصلت الاءمور في دولة لا تستحق إلا السلام والعدالة الاءجتماعية والديمقراطية بكل سهولة والحكم عبر صناديق التصويت.
في بلادنا ( صراع ) لا يفهمه المنادون بالوحدة الوطنية فهم يتمسكون بقشور الوحدة الوطنية
بدون الإنتباه إلى أن اللب قد فسد و تعفن في العقدين الأخيرين و الفضل كل الفضل يعود إلى
أهل المرتفعات و للعلم فإن القوم قد أخذتهم العزة بالإثم و ما زالوا في غيهم يعمهون .
ذكر في بعض كتب التاريخ الإرتري أن ” ملاكي سلام قشي ديموطريوس ” قال : ( السماء لا عمد لها
و المسلم لا أرض له ) فلا بأس في أن نخوض هذا الصراع بمبدأ ( لكم أرضكم ولي أرضي )
و عندها سنكون مدافعين عن حقنا المشروع أمام ( شريك النكد ) الذي أتلف هو الوحدة الوطنية .
تسلم يا حالمد مقالك تحليلي؛ تحليل نفسي وتربوي للدكتاتور واسلافه اباطرة الحبشة الطغاة .وفيه سرد تاريخي شيق. ..!
مقال رائع جدا ويستحق القراءة