أحـــداث اليـمــــن هــــل تغير استراتيجية الدول العربية في المنطقة؟
أسوء ما في الحرب عندما تكون بين أبناء وطن واحد، وتكون نتائجها كارثية على الناس والاقتصاد حينما تأخذ أشكالا طائفية وقبلية، وقد تفكك وحدته الى أجزاء تتلاقفها الدول الطامعة في مشاريع توسعية في المنطقة. وأبرز مسببات مثل هذه الصراعات هي الأنظمة الديكتاتورية الفاقدة لدعم المجتمع، متحالفة مع قطاعات من الشعب لتحتمي بها، إما باسم الضرر جراء سياسات حكم الأكثرية ، أو لدرء الضرر الذي يمكن أن يلحق بهم إذا ما سيطرت على الحكم. وما يحدث من حولنا هو نتائج عملية لأنظمة إنتهازية ثارت عليها الشعوب تريد إعاقة مسار الاصلاح وإستغلال ضعف التحول السياسي من الوضع القديم الى نظام جديد يحترم الحقوق العامة للمجتمع وتأسيس نظام سياسي دستوري. الصورة تتجلى بوضوح اليوم في الحالة اليمنية عندما يتحالف بقايا نظام سابق لفظه الشعب، مع مجموعة صغيرة كانت تمثل له عدواً بالأمس حيث وثق علاقته لمواجهة إرادة الشعب اليمني و افشال عملية التحول السياسي برمتها. وبالتأكيد ما يجري في اليمن له تداعيات على المنطقة وتأتي أرتريا في مقدمة الدول التي لها دور واضح في الأحداث، كما تتأثر بها أيضا تأثيراً مباشرا.
أرتريا البلد الصغير وذات مقدرات محدودة، مرت عليه فترات استعمار طويلة حرمته من الاستقلال والإستقرار الإجتماعي حيث كرس الأرتريون في تلك المرحلة جهودهم للتحريرونيل الإستقلال، فقدموا إمكانيات بشرية ومادية كبيرة حتى تمكنوا من تحقيقه في تسعينيات القرن الماضي، ولكن لم تكن ممارسات الحزب الحاكم الوحيد منذ الإستقلال وما تبعه من الأزمات الداخلية وتأثيرها الخارجية كما انتظره الشعب ثلاثون عاماً، حلم فيها بالإستقرار والأمن، ودولة تلتقي فيها وحدة الوطن مع وحدة النضال، والنهوض به وتنمية كافة المجالات الإجتماعية والإقتصادية. والشعب الذي قدم تضحيات كبيرة في السابق، قام بعد الإستقلال أيضا بتقديم المزيد من التضحيات والجهود، إلا أن النظام أهدر تلك الجهود الى لا شيء، وأبدلها بالفقر والسجون وتكميم الأفواه وإيضاع الآلآف في السجون، وهذه كانت المكافأة لشعب عشق الحرية وأفنى عمره من أجلها، وأصبح كل شيء عشية الإستقلال أضغاث أحلام، لم تكن للأسف على دفتر أهداف الجبهة الشعبية النظام الحاكم. كانت تحمل أجندة خفية لم تمكن المجتمع بأن يعيش حياته الطبيعية في داخل بلده ، ولم يستطع السياسيون من المعارضة إستدراكها والتعامل معها بأعتبارها خطراً على مستقبل الوطن.
قد قرأ البعض عن مرحلة تقرير المصير وما جرى فيها، وهناك أشخاص عاصروا المرحلة وشاهدوا ما حدث فيها من مؤامرات ، فلم تسلم أرتريا من تجاذب المصالح الخارجية حولها مما جعلها ضحية، وربطت أخيراً باثيوبيا فدرالياً. الثورة الأرترية خرجت لمواجهة تلك المؤامرة ، ونادت بالإستقلال، فكانت الدول العربية أول من بادرت بمساندتها ودعمها بالمال والسلاح، والتاريخ سجل ذلك وفضلها الكبير في إنجاح الثورة في مراحلها المختلفة مقارنة بالموقف الإفريقي والغربي الذي كان سلبياً، وفي موقف متقدم تبنت الكويت شرح قضيتنا في أروقة الأمم المتحدة في فترة من الفترات.
أما الحزب الحاكم الذي إنشق عن الثورة ليتآمر عليها والإلتفاف عليها من الخلف لتقويضها، تنكرت لكل ما قدمته الدول العربية، فضربت بتلك المساهمات أرض الحائط. ومن باب التذكير أن الدول العربية كانت لها أدواراً كبيرة ساندت بها القضية الأرترية، في المجالات السياسية والانسانية والتعليمية. فمثلا في الجانب التعليمي يأتي جهاز التعليم الارتري في مقدمة الدعم العربي الذي أصبح في آخر عهده تحت إدارة وزارة التعليم الارترية. البعثات التعليمية للطلاب الارتريين في الجامعات العربية المختلفة خاصة السودان، المساعدات الإنسانية للآجئين في السودان واليمن، الدعم العسكري وتدريباته حتى تطور الى تحويله داخل الأراض المحررة بدلاً من إبتعاث الكوادر الى الدول العربية. كل هذه المواقف أصبحت خيانة في فهم النظام الأرتري للدول العربية وأنها لم تقدم شيئا لصالح القضية الأرترية ، بل دخل معها في حروب معروفة في كل من اليمن والسودان وجيبوتي. ليس الغريب إذاً على نظام تودد في تاريخه للغرب وإسرائيل وإعتمد على دعمها بصورة أساسية بأن يكون شوكة في خاصرة دول الجوار، وثغرة لجلب المخاطر على المنطقة بتحالفاته التي لا تدعم مصلحة شعبه، بل يلعب بها دوراً تخريبياً واضحاً في المنطقة، فالأنظمة الإستبدادية دون شك تميل الى مثل هذه الأساليب من طرق الخداع والإنكار فيما تمارسه من المتناقضات. ولكن الذي كان يشكل نقطة قوته هو صمت الدول العربية التي يعتبر أمن البحر من أمنها القومي على الممارسات المستمرة ولسنوات طويلة من قبل النظام الأرتري وتعديه في الشؤون الداخلية تارة ومحاربتها مباشرة أوبالوكالة تارة أخرى. فلم تحرك الدول العربية شيئا لتأمين حدودها وأمنها الداخلي من الأخطار التي يأتيها عبر البحر، بل الصمت كان سمة عامة وكأن ما يجري في المنطقة أمراً عادياً لا يؤثر على أمنها ومصالحها، في حين أن النظام الأرتري تحول بوجهته لإيران بعد سوء علاقته مع الغرب ليبحث عن قشة تنجيه من الإنهيارالكامل خاصة بعد الحصار المفروض عليه منذ سنوات. ومنذ العام 2009 دخلت إيران عملياً الى أرتريا، ومن الطبيعي أن تنكر بوجود أي دور لإيران في البحر الاحمر كما يتنكر بالوجود الاسرائيلي. فمن تنكر للدعم العربي ومساندة القضية الأرترية في كل المحافل، من البديهي أن يتنكر لذلك، فما أصبح الإنكار مقنعا بعد أن إنكشفت كل شيء عبر التقارير الدولية والمتابعات الإقليمية والنداءات التي أطلقتها المعارضة الأرترية مراراً من خطورة الأعمال التي يمارسه النظام الإرتري في المنظقة. وهناك مؤشرات كبيرة تؤكد ضلوعه بصورة واضحة فيما يجري في اليمن، حسب التقاير التي ذكرت تدريبها الحوثيين في معسكرات خاصة ومن خلال علاقتها بايران مقابل معونات تتلقاها لدعم اقتصادها المنهار، وللحصول على المزيد من السلاح، فالنظام يعاني نقص كبير في الميزانية لتسيير أموره الداخلية، كما أن حياة الناس في الداخل يرثى له لفقدان الدولة سياسات اقتصادية ح تدعم حياة الموطنين العادية، بل حرمت عليهم منذ فترات طويلة النشاط التجاري وحصره فقط في شخصياتها أو شركاتها التابعة لها.
ماذا يجب أن يكون عليه الموقف العربي تجاه المنطقة في ظل التطورات الأخيرة وبعد أن اتضحت الصورة كاملة في منطقة باب المندب والبحر الاحمر؟ لابد من دور واضح للدول التي يهمها الأمن والاستقرار في المنطقة، وأن تعيد رؤيتها واستراتيجيتها بطريقة مختلفة. والغريب أن بعض الدول في الجوار تبتعد كثيراً عن علاقاتها الإستراتيجية التي تسندها وتدعمها الديموغرافيا والمنطق السليم. فالإستراتيجيات لا توضع فقط لمرحلة أو مصالح مؤقتة، بل تستمد إستمراريتها من البيئة والمجتمع وتأثيره الإيجابي إذا تم وضعها بطريقة صحيحة. لذلك المطلوب من دول الجوار العربي اليوم إعادة النظرة الشاملة في بناء استراتيجياتها وعلاقاتها في المنطقة، وكيفية التفكير في إنماء المصالح المشتركة التي تساهم في إستقرار الأوضاع بشمولية المعاني في مجاله الإقتصادي والأمني والإجتماعي، وهذه العلاقات سوف تعين بالتأكيد شعوب المنطقة في الإزدهار من خلال الحركة في مجالات الثقافة والفكر، وسوف تعين الدول في تكاملها الإقتصادي والإجتماعي ، وتحفظها من الإختراق التي يتهددها باستمرار. ولن يحدث هذا إلا بعد مراجعة مدروسة وشاملة والتعامل مع الدول المؤثرة سلبا في هذا المجال.
الشعب الارتري قادر على إعادة المياه الى مجاريها، وقادر على إحداث التغيير في داخل بلده ضد نظام شتت جهود وقدرات الوطن في أشياء وهمية لا تلامس مصالح المواطن البسيط، ولكن عندما يكون محاصراً من جميع الجهات، ولا يجد الدعم والسند من الأصدقاء، في حين أن النظام يحصل على دعم من دول مثل إيران التي تريد إيجاد موطئ قدم في المنطقة. ففي مثل هذه الأجراءت يصعب على المعارضة في الداخل والخارج إحداث تغيير سريع، ومع ذلك هناك محاولات عديدة حدثت من داخل اتريا لاحداث التغيير، إلا أن طبيعة الأنظمة المستبدة والمنغلقة على نفسها، والتي تعزل الدولة عن العالم الخارجي، لم يساعد في إنجاح تلك المحاولات. ومن المعلوم أن أرتريا هي إحدى الدول الأكثر انغلاقا في العالم. فلا وجود في ارتريا لوسائل إعلام حرة أو حرية الإعلام ، ولا توجد منظمات إنسانية ودولية وغيرها من المنظمات المدنية المحلية والأجنبية، فالإنسان الأرتري يعيش اليوم في قرون حجرية ، لا تعليم ولا كهرباء ولا الإنترنت ولا خدمات صحية وبنية تحية تجعله يحس بما تعيش به مجتمعات القرن الواحد والعشرين. خرج الشباب في الآونة الأخيرة بعد أن يأس من الإنتظار الطويل في إستقرار الأوضاع الداخلية أو إصالح الوضع السياسي، وكانت نتائجه موت العشرات في البحار والصحراء.
من ناحية أخرى من الضروري على المعارضة الارترية أن تكثف دورها ونشاطها في علاقتها مع المحيط الإقليمي خاصة والدولي بشكل عام، فقضية الظلم السياسي الذي يتعرض له الأرتريون اليوم تعتبر من أعدل القضايا في المنطقة ، وهذا يحتاج الى عمل دؤوب لأجل إظهاره وتوضيحه ، ولأن الكثيرين لا يعلمون حقيقة الأمر الذي يحدث في الداخل. ومن المؤسف أن بعض الأفراد من مراكز بحثية مرموقة، وأساتذة جامعات في دول الجوار لا يعرفون حقيقة الأمر في داخل أرتريا، فيصرحون بنصف الحقيقة، وأن أرتريا لا تعاني من الظلم السياسي وشعبها يعيش في وئام وسلام، وهذا تضليل للمشاهد والمتابع. القضية أن اتريا يحكهما نظام إستبدادي لا يعترف بحقوق المواطنة والعدالة الإجتماعية، فجعل من البلد سجناً كبيراً ، لا يستطيع الشعب فيه أن يمارس حياته بصورة طبيعية مع نظام البولسة وعسكرة البلد كله. وأرتريا التي تحتفل بعد أيام قليلة بعيدها الرابع والعشرون للإستقلال، تحكم بدون دستور، ولا يوجد فيها برلمان ولا مؤسسات دولة واضحة ، فلم تجرى منذ الإستقلال إنتخابات رسمية واحدة، فهي تحكم بنظام الفرد الذي يعتمد على الولاءات من جنرالات الجيش والأمن. لذلك يتصرف بصورة غير مؤسسة في علاقاته وتعاملاته الداخلية مع المجتمع، ومع المحيط من الدول الصديقة التي يمكن أن يستفاد منها في التنمية والمصالح المشتركة. اضافة الى التصرفات التي يتعامل بها في قضية الحرب والسلام، فلا دستور يلزم الحكومة ولا برلمان ينظم العملية ، لذلك نجد قرارات مفاجئة حتى لاعضاء النظام نفسه. فهل ستغير الدول المجاورة وخاصة الدول العربية سياستها من مثل هذه الأنظمة التي لا تراعي حق الجيرة والصداقة ؟ أم الأمر أصبح طبيعياً لا يؤثر عليها لا من قريب أو بعيد؟ المعارضة الأرترية تحمل مشروعاً سياسياً لأرتريا فلماذا لا يسمع لها وهي تمثل أكبر قطاعات الشعب الأرتري؟ نتمنى لليمن السعيد الذي كان يدعم قضية إستقلالنا أن يخرج من أزمته ومحنته منصراً على من أراد أن تنكسر إرادة شعبه الكريم الذي يحلم بأن يعيش كريماً عزيزاً .
عبد العزيز احمد اسماعيل
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=34153
وهل للعرب استراتيجية حتى يغيروها