أزمة المشروع الوطني الإرتري : الجذور التاريخية
بقلم أبو فايد
الحلقة الأولى:
أعني بالمشروع: المشروع الذي تأسست عليه الهوية الإرترية، والقومية الإرترية في الخمسينيات من القرن العشرين ضمن إطار وطني شامل، أجمعت عليه النخبة الأصيلة، واستجابت له الجماهير العريضة.
ووصف المشروع بأنه وطني يعني بالضرورة أنه بني على أساس أيدلوجية ثورية نابعة من قضية الاحتكام إلى العقل والضمير الجمعي الذي تجمع بين أطرافه وحدة التاريخ والدم والآمال المشتركة، ذلك العقل الذي أعاد صياغة كل الأحداث التي سبقته، ليكون المشروع الوطني بكل مفرداته تتويجا لها، لتصبح بعد أن كانت أحداثا متفرقة تيّارا شعبيا واحدا يطالب بحق تقرير المسير، ثم حركة ثورية منظمة تمتلك زمام المبادرة في تثبيت الحق الإرتري وانتزاع الاستقلال، وتتجلى وطنية المشروع الإرتري في أعلى مراتبها في حفاظه على بنية الوعي الجمعي ومكوناته ، وتلك هي الميزة الأساسية الكبرى التي تميّزه عما سواه من المشاريع المعروفة في التاريخ ، فلم يفرط بقضية الانتماء الحضاري لشعبنا حتى في أحلك الظروف حيث القتل والنهب والذبح المدعومة من الخارج ، وفي اللحظات التاريخية المشحونة بالصراع في الداخل .
وهذه المحاولة المتواضعة تسعى لتناول موضوع الأزمة التي واجهها ويواجهها هذا المشروع بوصفه مشروعا حضاريا قادرا على حل المشكل الإرتري انطلاقا من مبدأ الشمولية والشفافية التي اتسم بها منذ ولادته .
والأزمة بطبيعة الحال إحساس شامل يستفز عقول الباحثين والمفكرين من أبناء الشعب في محاولة لإيجاد مخرج منها مهما كانت هذه المحاولة ، على أن مجرد الإحساس بالأزمة لا يعني بداية حلها وإن كان يعني وعيا ربما يقود إلى تقديم تصور قد يسهم في حل جزء من أسباب هذه الأزمة ، ومن هنا جاء الحديث عن الفيدرالية ، وقد تكون هذه المحاولة أعني الفيدرالية جادة ومفيدة ، وقد لا تكون ، وإن كانت تظل دائما دليل وعي وميسم وطنية .
إن المشروع الإرتري وبحكم أنه مشروع،لا بد أن يبحث في أزمته من خلال طرحه كشكل أزمة تأخذ أبعادها من الجذور التاريخية، فما نحن فيه اليوم لا يشكل عصرية الأزمة، بل عصرية الإحساس بها، لأن أزمة الإرتريين ومعاناتهم وبالتالي المشروع الوطني الإرتري بدأت منذ فترة ، بل لا أدعي إذا قلت إنها بدأت منذ بواكير ظهوره .
إن التحدي الذي نواجهه اليوم تحدي تاريخي لعب فيه التاريخ دورا حاسما ولا يزال، والتاريخ كما يقول : برنارد شو ” إنه يعلمنا أننا لا نتعلم منه شيئا ولا نعتبر بأحداثه ” وهذا ينطبق إلى حد بعيد على واقعنا مع إضافة حقيقة أخرى وهي أن الواقع بحد ذاته أيضا لا يعلمنا شيئا ، ويمكن الإشارة إلى أن عصا الحامية كما أحب أن أسميها ” طائفي ، قبلي ، عشائري … ” التي نُضرب بها ونُقزم بواسطتها ، ويُبخس تاريخنا ورموزنا الوطنية من خلالها كلما تفوّهنا بكلمات مثل ” الجبهة ، العدالة ، الحرية ، الرابطة الإسلامية … ” أقول إن عصا الحامية وهي تجلدنا تستخدم التاريخ ، وذلك إما بتزييف الحدث التاريخي أصلا وتقزيم وتبخيس أبطاله، أو تشويه جملة من معالمه ، أو تحريف تحليل الحدث التاريخي ليكون موائما لطبيعة المعركة وسلاحا مفيدا يستخدم ضدنا وضد موروثنا بكل ما فيه.
ومن هنا تأتي ضرورة العودة إلي التاريخ وإعادة قراءة ماضينا وصياغته وتحليله وتحليل العناصر البشرية التي ساهمت في صنع أحداثه كي نستفيد منه في تجاوز عقبات الواقع ، وفي خلق ما يمكن أن نسميه التواصل التاريخي الذي يمكننا من معرفة الأيدي الخفية والعناصر السرطانية التي لعبت وما زالت دور البرامكة أولا ، وخلق تراكم ثقافي ومعرفي يحافظ علي هويتنا وذاتنا ثانيا .
غير أن العودة إلي التاريخ ليست بالأمر الهين ، فهي تتطلب الروح الناقدة والموضوعية التي تعرف ما لها وما عليها ، وممارسة نقد الذات بكل شجاعة ، فنقد الذات علاوة علي أنه عملية علمية فإنه بداية تحديد العلاج العلمي الناجح ، وتكون عملية العودة إلي التاريخ أصعب عندما تصطدم بأشباح الفئات والعناصر السرطانية التي لا تزال قائمة تلعب دورها المعروف كما لو أنها عناصر من التاريخ الماضي .
إنّ القضية الأساس هي أنه لابد من العودة إلي تاريخنا بوعي، والوعي لا يتم إلا بفهم أنفسنا فهما جيّدا، بمعني أن نسأل أنفسنا من نكون نحن ؟ وماذا نريد ؟ وأن نحدد الذي لنا والذي علينا في إطار المصلحة العامة، أي أن نسأل من هو الشريك ومن هو الأصيل في مشروعنا ؟ لأنّ الشريك قد يفسخ عقد الشراكة حسب مصلحته الذاتية ، وتاريخنا وواقعنا يغص بتلك العناصر الانتهازية التي تبنت مبدأ الشراكة في حين أننا كنا وما زلنا نعتبرها في صفنا مقابل شركائنا التقليديين ، وعند السؤال عن من نكون نحن وماذا نريد ؟ يجب أن نحذر عن العملية السهلة والتي تنم عن هروبية والتي تضللنا بأن تقودنا إلي الماضي نبحث فيه عن هويتنا ، أو نمارس هروبية من نوع آخر تتسم بالقفز إلي المستقبل فنقذف أنفسنا في دوامة اليوتوبيا حيث نجد أنفسنا بعيدا عن مجري التاريخ .
إنّ الواقع علي ما فيه من مرارات هو موضوعنا ، وهو هدفنا بالتغيير ، ولأن الواقع يحمل معه ركام الماضي بما فيه من ثقل فإنّ تغييره يستدعي معرفة هذا الماضي أي معرفة تاريخنا حتى نتمكن من نفض الغبار الذي علق بمشروعنا الوطني ، وغسل كل المساحيق المزورة التي طلي بها وجه مسيرتنا من قبل العناصر الدخيلة حملة عصا الحامية .
إنّه لمن المذري جدا أن لا نجد كتابا واحدا يؤرخ لأبطال مشروعنا ، وملحمة مسيرتنا ، فأبناؤنا اليوم صاروا عرضة لشحن عقولهم بالأغلاط التاريخية والمنهجية غير النبيلة ، من قبل كوادر وأقلام مهمتها التشكيك في رموزنا وتضحياتنا الجسيمة وثقافتنا وحضارتنا ، وما كانت هذه العناصر البرمكية لتنجح لولا سعيها الحثيث للوصول إلي عقولنا وعقول أبنائنا مستفيدة من الفقر الفادح الذي تعانيه مكتبتنا التاريخية ، فالرابطة الإسلامية حزب طائفي لرعاة التجري التي تقابل عندهم العبيد ، والإسلام الذي عرفته إرتريا منذ بواكير ظهوره دخل في القرن السابع عشر ، وانتشر بين رعاة التجري في القرن التاسع عشر ، وحامد إدريس عواتي ” شفتاي ” قاطع طريق ، وجبهة التحرير تنظيم طائفي عشائري .
ومن المؤلم حقا أن نجد ثلة من مفكرينا وباحثينا المزعومين وقد وقعوا في وحل تلك المفاهيم التبخيسية ، بل الأدهى صارت عند البعض منهم قناعات لا تُدحض ، وأصنام تعبد من دون الله ، فانبروا يدافعون عنها كما لو أنها قرآن منزل .
إن ّ المحزن حقا أن يمارس البعض منا مازوشية حاقدة ضد نفسه فينظر إلى تاريخه وأبطاله وموروثه الثقافي والحضاري بشماتة وازدراء ، ظنا منه أن ذلك هو الموضوعية أو ربما التطور الذي يؤدي إلى التخلص من كل عقد الدونية ووهم الاستعلاء ، في حين أن ذلك يعكس في الواقع محاولة نفسية يائسة لممارسة جلد الذات … فالبعض يحاول أن يتنصل من انتمائه الحضاري وموروثه النضالي، بل حتى من أصله الاجتماعي ، والآخر يحاول وهو يعالج تاريخ الثورة أن يهاجم جبهة التحرير وأبطالها بكل ما يحوي قاموس ألفاظ الشتائم من كلمات .
وإذا كانت هذه الفئة قد غرر بها، فهناك فئة أخرى تبث سمومها عن وعي منظم ومدعوم، تلك هي الفئة المندسة أصلا في كياننا إذ أن معظمهم موجات ورواسب من بقايا الفرس والأتراك والهنود … من حيث النسب لذا فإنها تنبعث من حين لآخر مدفوعة بعدة عوامل ذاتية وخارجية للهجوم على موروثنا التاريخي النضالي وتبخيسه وتقزيم أبطاله، وليس خطر الفئة الأولى بأقل من الثانية فكلاهما السند والأداة للشرذمة الحاكمة ، والمذيع لضلالاتها الهدامة التي كُرّست لإخراجنا من دائرة الزمن والفعل .
إنّ من يعتقد أننا هزمنا عسكريا فقط فهو واهم ، لأننا في الحقيقة هزمنا نفسيا وسياسيا وحضاريا قبل أن نهزم عسكريا ، وكيف لا نهزم وقد سلّمنا مقاليد أمورنا لتلك العناصر البرمكية التي طعنت مشروعنا بحربة مسمومة من الداخل مستفيدة من موقعها القيادي المتقدم ، ومن المسلي فإن بعضا من هذه العناصر مازال بيننا، يتحدث باسمنا ،ويتاجر بقضيتنا ، وكأن المشهد صفحة من التاريخ الماضي .
إن قراءة فاحصة لواقعنا توضح بجلاء مدى تغلغل الشعوبيين لاعبي دور البرامكة ومن والاهم من عناصر بواخر سندباد البحري في جسم شعبنا، وهم جميعهم من الفئات التي ابتليَ بها الشعب الإرتري من قديم الزمان إلاّ أن خطرهم أضحى ماحقا منذ ظهور المشروع الوطني الإرتري في الخمسينيات القرن الماضي .
إننا ندرك جيدا أن واقعنا مأساوي ، وبالإمكان أن نمارس المازوشية ضد أنفسنا ما شأنا غير أن هذا الموقف وإن كان يجلب نوعا من الراحة الكاذبة إلاّ أنه لا ينقذ أبدا الجسد المتهاوي الذي تنهشه الكلاب الجبلية والضباع البحرية من كل جانب ، إذ لا بد أن نقف أمام أنفسنا مثل ما نقف أمام المرآة وصدقها لتعكس صورتنا أمامنا صادقة ، حينها فقط يمكننا الإجابة على السؤال ” من نحن ؟ وماذا نريد؟ ” حينها فقط سنتمكن من تحديد موطن الداء وبالتالي الرجوع إلى دائرة الفعل والزمن ، يجب أن نملك الشجاعة ولو لمرة ونقف على حدّ الموس ، إنني لا أطالب بموقف هارون الرشيد التاريخي إلا أنني أطالب بتمليك الحق والحقيقة كاملة لأبنائنا، علهم يتمكنوا من الاستجابة لصرخات آلاف الأرامل في معسكرات اللجوء في الخارج ومنافي ” ألبُ ” في الداخل ، لأنات الآلاف … ، لآهات الملايين….بالاختصار لقضية شعب يحتضر، وتلك مهمة عظيمة وجليلة ملقاة علي عاتق أبائنا الذين عاصروا الأحداث بكل تفاصيلها وخاصة أولئك الذين كانوا في موقع القيادة ، لأن الحقيقة وحدها القادرة علي البقاء ، وهي وحدها الكفيلة بدحض الباطل وخبث الدخلاء العملاء ، ” فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ….. ”
وبعد ….
لقد أردت من هذه المقدمة الطويلة أن أضع القارئ الكريم علي الخطوط العريضة للموضوع حيث سنحلل في الحلقة القادمة إنشاء الله جذور أزمة المشروع الإرتري الوطني من خلال جملة من المنعطفات التاريخية الحاسمة في تاريخ المسيرة الإرترية مركزين علي منعطفين مهمين هما : فترة تكوّن الأحزاب ، ودخول الجبهة .
وكل عام وأنتم في دائرة الزمن والفعل
الحلقة الثانية:
حين نقرأ أدبيات الثورات الكبرى ومشاريعها العملاقة في التاريخ ، نلاحظ أن ثمة طريقين للمعالجة : الأول ويبدأ بتقصي الحقائق التاريخية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أفضت إلى الثورة ، والثاني يبدأ برصّ الأفكار والمذاهب الفكرية التي ولدت الثورة .
وهكذا المشروع الوطني الإرتري كان من الطبيعي أنه لم يأتي من فراغ ، وإنما من منابع اجتماعية وأيديولوجية وسياسية واقتصادية ، ظلت تغلي وتغلي من مطلع الأربعينيات على أقل تقدير ، وتعمل على تغيير تركيب قوى الإطارات الاجتماعية الطارئة لتفرز من خلال ذلك قوى جديدة فاعلة في قيادة حركة التغيير التي أعادت التوازن إلى التركيب الاجتماعي المقلوب كمقدمة ضرورية وحتمية ، ثم المسير بخطى الواثق مخلفة وراءها أثقل تركة من العوائق والإحباطات الاجتماعية في تنوع متناغم الإيقاع نحو تحقيق الحلم العظيم نحو الهدف الاستراتيجي الكبير ( وحدة إرتريا وحقها الكامل في تقرير المصير) إلا أن هذا المشروع أعني وحدة إرتريا أرضا وشعبا وحقها الكامل في قرير المصير ، والمستمد قوته من التجربة التاريخية الطويلة للشعب الإرتري مع المغامرات الاستعمارية ، والتاريخ المشترك بكل مضامينه الروحية والاجتماعية والحضارية _ اصطدم بالظروف المناوئة الداخلية والخارجية التي دأبت على وأده وإحباطه _ فالحرب ضد كل مفردات المشروع لا هوادة فيها ، كما أن عمليات الإفساد – إفساد النخبة ومن ثم إفساد شرائح في المجتمع منظمة ومخططة ومنفذة .
كل تلك الظروف المناوئة مجتمعة تبلورت عن بزوغ أحزاب مأجورة تترأسها إما عناصر مغرر بها لا تشم أبعد من أرنبة أنفها كتلك التي تمثلت في قيادات الرابطة الإسلامية المديرية الغربية ، أو عناصر شعوبية ران على قلوبها وعود هيلي سلاسي الطلسمية الذي كان يعدهم بها بكرة وعشية ، كرموز الرابطة الإسلامية للوحدة مع إثيوبيا مصوع ، أو مجموعات عنصرية كنسية حاقدة رفعت شعار الوحدة أمثال ” مرقص” ومن معه من كهنة الكنسية القبطية.
اجتمعت كل تلك العناصر ووجهت حرابها المسمومة نحو المشروع الوطني كمنظومة حضارية – بما طرحه من أسس ومنطلقات وآفاق على المستويات النظرية والعملية ، لتبدأ بذلك قصة محنة المشروع الوطني.
والقصة بدأت بتأسيس جمعية “حب الوطن” عام 1942 والتي كان يترأسها جبر مسقل ولدو ، وكان من أهداف هذه الجمعية بعد انحرافها عن الخط الوطني ، وتغيير اسمها إلي حزب “الوحدة ” و بعد أن استولي عليها المأجورون : العمل لوحدة إرتريا وإثيوبيا .
وللوصول إلي أهدافه التخريبية قام هذا الحزب بأعمال تخريبية خطيرة تمثلت في الآتي :
– خلق شرخ عميق في وحدة الصف الوطني ، وذلك بنشر كل ما من شأنه أن يؤدي إلي العداء بين المسلمين والمسيحيين .
– تصفية أفراد الجالية العربية ووصفهم بالغرباء .
– تزييف الحقائق علي مندوبي الأمم المتحدة حتى لا يتمكنوا من الوصول إلي الرغبة الحقيقية للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الإرتري الذي كان يتوق إلي الاستقلال والسيادة الوطنية .
– تبني قطاع الطرق المعروفين باسم ” الشفتا “وهم كما يعرفهم تريفاسكيس : ” فريق من التنظيمات الإرترية المسيحية قامت بسلسلة من الاعتداءات علي بعض المستوطنين الطليان والمسلمين وعلي ممتلكاتهم حيث قتلوا 6 إيطاليا و15 مسلما وقطعوا رؤوس خمسة من المسلمين أمام أعين زوجاتهم وأولادهم ، وسلبوا عددا كبيرا من مواشي المسلمين في غرب إرتريا ، وكانوا يتركون في مسرح جرائمهم رسائل تؤكد إخلاصهم للإمبراطور هيلي سلاسي ، وتهدد كل وطني بالقتل ” .
وهذا الحزب خرج أساسا من رحم الكنيسة بزعامة الأب مرقص أحد أشد القساوسة تحمسا للقومية الإثيوبية ، فبتحريك من إثيوبيا قامت الكنيسة باستغلال نفوذها بين مسيحيي إرتريا ، ويصور لنا تريفاسكيس المشهد في كلمات بليغة ( بعد سنة 1943 أصبح كل راهب داعية للقضية الإثيوبية ، وأصبحت كل كنائس القرى أوكارا للقومية الإثيوبية ، وتحول كل احتفال ديني مثل : الـ “مسقل ” (عيد الصليب) إلي مناسبة لإشهار الروح الوطنية الإثيوبية ، وصارت كاتدرائيات المدن وكنائس القرى والأديرة تزين بالأعلام الإثيوبية ، وأخذت الوعظ والصلوات طابعا ومغزى سياسيا …….) .
ومن المسلي أن الوحدويين قاموا بتقديم عرائض تطالب الإدارة البريطانية بحل حزب الرابطة الإسلامية بحجة أنهم جماعات من العوام الرعاة والرحل دُفعوا إليه لأسباب دينية محضة ) والتاريخ يعيد نفسه ، فوضع حجر الأساس لأكبر كلية لاهوتية في القرن الإفريقي برعاية الرئيس أسياس وبمبادرة الأب شنودة ودعمه ، وبحضور ممثلي الكنائس العالمية والبعثات الدبلوماسية ورجال الدين الإرتريين هو مطلب شعبي وواجب قومي ، في حين فتح معهد وليس كلية للشريعة ، يعد جريمة تشكل خطرا علي الوطن ، وطموح غير شرعي للرعاة والرحل ، وعائق لجهود الحكومة التي تسعى إلي محاربة التخلف والقضاء علي أوكاره من خلاوي ومعاهد وأيديولوجيات أكل عليها الدهر كما قال سيادة الرئيس في أحد تصريحاته دُفعوا إليها من الخارج .
ومثل هذه الأفكار المنمطة كثيرا ما يرددها الشعوبيون خفافيش الظلام من أمثال المدعو الأمين محمد سعيد الذي وصف خريجي الشرق الأوسط بالمؤذنين .
وفي عام 1943 ظهرت حركة شعبية قوية أطلق عليها الوحدويون العملاء “الحركة الانفصالية ” انطلقت من ” أكلي جوزاي ” بزعامة ديجازماتش تسما أسبروم ، هدفها وحدة إرتريا وتجراي في بلد مستقل ، ولتحقيق ذلك سعت الحركة إلي جمع تواقيع وهمية في جريدة ” تجرينيا ” الأسبوعية الناطقة باسم ” مكتب المعلومات البريطاني ” والتي كان يرأس تحريرها الراحل ولدآب ولد ماريام أحد كبار منظري حركة تجراي تجرنية .
وفي سنة 1947 كونت هذه الحركة تحت شعار ” إرتريا للإرتريين ” حزبا أطلقت عليه ” الحزب التقدمي الحر ” برئاسة ولدآب ولد ماريام .
وبالرغم من الشعارات التوسعية التي نادي بها هذا الحزب إلا أنه شكل تحديا كبيرا لإثيوبيا وأداتها العميلة الأندنت وذلك لكسبه قطاعات واسعة من السكان ، ولتوافقه بل واتفاقه مع الرابطة الإسلامية على الثوابت الوطنية والتي تأتي وحدة إرتريا والاستقلال التام على رأسها .
وكإجراء على هذه التطورات المتلاحقة والتي عكست التطلعات القومية المكبوتة من أجل تقرير المصير، قام رئيس أساقفة الكنيسة بإيعاز من إثيوبيا بحرمان المسيحيين الإرتريين بمن فيهم القسيسين والرهبان من حقوقهم الكنسية ما لم يذعنوا لآراء حزب الوحدة ، رافق ذلك حملة إرهاب واسعة النطاق دلت على أن حزب الوحدة ما هو إلا حزب أقلية مأجورة ، مما يدفعه ذلك إلى اللجوء إلى الإرهاب ، ويمكن أن نستشهد كتأكيد للحالتين بمذكرة وفدي باكستان و غواتيمالا إلى الأمم المتحدة فقد ورد في الفقرة 191 ما يلي :
– (استمعت اللجنة إلى اتهامات تشير إلى أن الكثيرين من المسيحيين حرموا من حقوقهم الكنسية بسبب اختلافهم مع الدعوة السياسية لحزب الاتحاد وفي تجمعات حزب الاتحاد كان مظهر القسيسين حاملين شارات الكنسية شيئا مألوفا ، ومن الجلي أن رجال الدين كانوا يستخدمون نفوذهم للتأثير على الجماهير ، وشكا بعض القسيسين والرهبان من تهديدات رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية بإعلان حرمانهم من حقوقهم ما لم يذعنوا لآراء حزب الاتحاد) .
وورد في الفقرة 193
– (إن الإرهاب الذي نشأ في إرتريا بهدف دفع الناس إلى تأييد اتجاه سياسي معين هو من العوامل في تجمع الناس حول حزب معين وقد تعرض بعض الأشخاص الذين عارضوا الاتحاد إلى هجمات في أرواحهم وممتلكاتهم ، كما أجبر آخرون على تأييد الأحزاب المنادية بالاتحاد ، وهوجم زعماء سياسيون بارزون ينادون بالاستقلال ومن بينهم السيد ولد آب ولد ماريام … إن هذه التصرفات الإجرامية تحول دون معرفة الآراء الحقيقية لأنصار الاتحاد الذين لا يمكن التأكد من أن اعتناقهم لهذا المعتقد السياسي تم في جو خال من التهديد .
إلا أن هذه الممارسات الدنيئة ما كانت لتثنى الشعب الإرتري وقواه الحية عن التمسك بمشروعه الوطني ، مما جعل الإمبراطور يسرع في تكوين جمعية عرفت بـ ” جمعية إثيوبيا حماسين ” التي نشأة تحت إشراف وتمويل الإمبراطور نفسه وكان من أهدافها اتحاد إثيوبيا وإرتريا دون قيد أو شرط وأصدرت صحيفة صوت إرتريا الني كانت مهمتها :
1- نشر أفكار القومية الأثيوبية
2- نشر حساسيات خطرة لازلنا نعيش صداها إلى اليوم .
وما كانت هذه التدابير المكشوفة لتؤتي أكلها ، خاصة وأن بعض الأحزاب والجمعيات الإرترية انضمت إلى المشروع الوطني ،مثل : حزب ( إرتريا المستقلة ) الذي كان يتألف من الوحدويين السابقين في إقليم عنسبا و(جمعية المثقفين الإرتريين) . في إشارة واضحة إلي أن أغلبية السكان الساحقة تطالب وبحزم أكثر من أي وقت مضى بحق الاستقلال كما أكد ذلك وفدا باكستان وغواتيمالا .
فما كان من عناصر حزب الوحدة وبإشارة من الإمبراطور إلا أن يبحثوا عن حلفائهم أو بالأحرى خدمهم التقليديين ، إذ لا يستطيع أحد غيرهم تحقيق مطامع أسد يهوذ ا الكهنوتي في إرتريا ، فهم يتميزون بمواصفات خارقة لا يمكن أن تجمع إلا في مثيلهم فهم يجمعون الذكاء مع الخبث ، والحقد مع الأنانية ، مع ما فيهم من قلة التدين ونضوب في الأخلاق ، يجيدون صنعة الإلقاء والإلغاء في آن واحد وبمهارة عالية ، أولئك هم الشعوبيون الذين وجد فيهم شركاؤنا في الوطن قوالب جاهزة ذات علاقة قوية بتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا ، وعلى دراية كافية بالكثير من نقاط القوى والضعف في جسدنا وبالتناقضات الثانوية الكامنة في واقعنا الثقافي والاجتماعي . أ
وبرعاية من أثيوبيا وتشجيع من الإدارة الإنجليزية استطاع هؤلاء الشعوبيون من التغلغل في لب مشروعنا ليس على شكل قيادات سياسية وفكرية شعبية وإنما في هيئة زعماء رسميين من قبل الإدارة الإنجليزية فقد كانت عناصر منهم أعضاء من المحاكم المحلية ، وفي المجالس الاستشارية ورؤساء اللجان التربوية مما ساعدهم على الانسلاخ عن المشروع الوطني وضربه من الداخل وتكوينهم حزب الرابطة الإسلامية للاتحاد مع أثيوبيا مصوع ، كما استطاعوا أن يغرروا بالشيخ علي محمد موسى رآدآي الذي أعلن انفصاله وكون حزبا تحت اسم الرابطة الإسلامية للمديرية الغربية .
ولم يكن من الضروري لإثيوبيا وأداتها ” الأندنت ” أن تخلق هذه العناصر جماهير تمثلها لأن إثيوبيا تعرف استحالة ذلك ، المهم فقط هو إيجاد الحزب الذي يوحي للعالم وللبعثة الدولية بانقسام المسلمين وهو ما كان يتباهى به أكليلو الوزير الإثيوبي في كل اجتماعاته التي جمعته مع أعضاء البعثة الدولية ، وكمثال علي ذلك قوله بالحرف الواحد في اجتماع أديس أببا ( فقد ظهرت قوة هائلة للفئات الوحدوية في منطقة مصوع ) وهذه القوة التي كان يحرص أكليلو أن يصفها بالهائلة والتي سحقت تطلعات الشعب الإرتري تذكرنا بحادثة التزوير في قرية حرقيقوا ، لأن البرامكة لم يكونوا ليتورعوا عن التزوير والتسويف والتحايل ، ومن يطلع على وثائق الأمم المتحدة حول إرتريا سيكتشف ما يندى له الجبين ، وكمثال فقط نذكر ادعاؤهم أن ممثليهم في قرية حرقيقو هو 18445 نسمة بينما لا يتجاوز جميع سكانها 8000 آلاف نسمة ، وهم إن لم يكن كلهم فأغلبيتهم الساحقة مع الرابطة الإسلامية ، ولكن ما الذي تغير ؟ فهم نفسهم من يمثلونا أيضا اليوم ، أليس 11 سفيرا من مجموع 22 سفيرا يمثلون إرتريا في الوطن العربي والإسلامي من قرية حرقيقو ؟ والباقي أيضا في فلكهم من برامكة المناطق الأخرى لأنهم كأفعى ضخمة رأسها في حرقيقو وذنبها في جرمايك !!! فهم ما كانوا مقتصرين على مصوع بل كانوا يدعون تمثيلهم للسمهر بكامله وأتباعهم منتشرون في عصب وأكلي جوزاي وأسمرا وكرن وحتى المنطقة الغربية كما يدعون!!! والتاريخ يعيد نفسه فإن ما عانى منه أجدادنا بالأمس هانحن نعاني منه اليوم ، بنفس الأدوات ، وعلي نفس الطريقة!! فقط الأسماء تغيرت !! ألن أقل لكم أننا نعيش عصرية الإحساس بالأزمة وليس عصرية الأزمة !؟ .
وبالرغم من أنهم ثلة من العملاء والمأجورين كما يصفهم تريفا سكيس إلا أن الشرخ الخطير الذي أحدثوه في جسم المشروع الوطني أدى إلى نتائج سيئة وعكسية في تقديرات البعثة الدولية وفي تقوية الموقف الأثيوبي كما صرح بذلك وفدا غواتيمالا وباكستان ، وأومأ إليه مندوب النرويج .
وللأسف الشديد فإن بعض المؤرخين المزعومين من الإرتريين تغاضوا عن ذكر حزب الرابطة الإسلامية مصوع للوحدة مع أثيوبيا المنشق في حين شنوا الهجوم تلو الهجوم على صنوه حزب الرابطة الإسلامية المنطقة الغربية .
وإزاء هذه التطورات الخطيرة لم يكن من بد أمام القوى الوطنية الفاعلة إلا توحيد جهودها وتدارك الشرخ الذي أحدثته العناصر الشعوبية والوقوف صفا ضد كل القوى التي تستهدف المشروع الوطني ، فأثمرت الجهود عن ظهور الكتلة الاستقلالية بزعامة الزعيم الوطني الكبير مؤسس الرابطة الإسلامية الشهيد إبراهيم سلطان علي ، وقد ظهر في تلك التجربة الوحدوية المعدن الحقيقي للشعب الإرتري إذ أن معظم العناصر التي كان قد غرر بها أدركت حجم الكارثة ولجة الشقاء التي دفعها إليها الشعوبيون وأسيادهم ، إذ سرعان ما انضمت إلى المشروع الوطني لتصبح بذلك عدد الأحزاب والجمعيات المنضوية تحت المشروع الوطني ثمانية حزب وجمعية مقابل الحزب العميل الوحيد ” الأندنت ” وهي :
1- الرابطة الإسلامية
2- الحزب التقدمي الحر
3- حزب إرتريا الجديدة
4- الجمعية الإرترية الإيطالية
5- حزب المحاربين القدماء
6- حزب المثقفين
7- الحزب الوطني
8- حزب إرتريا المستقلة
وأثناء احتفال الشعب الإرتري بالوحدة ، هذه التجربة الفريدة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشعب الإرتري، كانت العناصر الشعوبية والانتهازية تنسج خيوط مؤامرة جديدة في جنح الظلام، إذ سرعان ما أسست العناصر الشعوبية في مصوع بعدما ذهبوا إلى أديس أببا وتلقوا الأوامر الجديدة حزبا جديدا أطلقوا عليه “رابطة المسلمين المستقلين مصوع للاتحاد مع أثيوبيا” ، وفي المنطقة الغربية التي التحقت بقدها وقد يدها بالمشروع الوطني أسست عناصر الردة مكان حزب الرابطة الإسلامية للمديرية الغربية الانفصالي حزبا ، أطلقوا عليه ” الرابطة الإسلامية الجديدة للاتحاد مع إثيوبيا ” كما وجدت إثيوبيا وعن طريق الكنيسة بعض العناصر الانتهازية في الحزب الليبرالي التقدمي ” وحزب ” إرتريا المستقلة ” فانشقوا عنهما وأسسوا حزبا ” الوحدة الليبرالي ” و ” إرتريا المستقلة المتحدة مع أثيوبيا” . وحزب الرابطة الإسلامية الجديدة للاتحاد الشعوبي كان الهدف منه حسب وجهة النظر الأثيوبية مع أنه ومعه حزب رابطة المسلمين مصوع ما كان يضمان في لائحتيهما إلا ثلة من المأجورين والعملاء كما قال تريفاسكيس – إظهار حزب الرابطة الإسلامية الأم حزب أقلية ،من جهة وضرب أي معالجة قد تؤدي إلى استقلال الإقليم الغربي أو ضمه إلى السودان من جهة أخرى ، لأن إثيوبيا وإن لوحت في عدة مناسبات باحترام حق المنطقة الغربية في الاستقلال إلا أنها في حقيقة الأمر ما كانت لتفعل ذلك ، والتعليق الذي أدلى به وزير الشؤون الخارجية الإثيوبي أكليلو هبتي ولد لبعثة الأمم المتحدة في جنيف يوضح ذلك . ( مادام 70 % من السكان المسلمين في إرتريا متموضعون في المنطقة الغربية فقد أفادت الحكومة الإثيوبية في مناسبات متعددة بأنها ستحترم رغبات سكان المنطقة الغربية لصالح حل منفصل لتلك المنطقة إن وجدت فيها أغلبية واضحة تطالب به )
والجملة الأخيرة لا تحتاج إلى تعليق .
وبالرجوع إلى البيان الذي أدلى به الوزير الإثيوبي أكليلو هبتي ولد في اجتماع البعثة المنعقد في أديس أببا ، يوضح مدى مصداقية هذا التحليل ، يقول الوزير ( أما المسيحيون وهم يعادلون المسلمين في العدد فمن الضروري أن نضيف إليهم مئات الآلاف من المسلمين … في رابطة مسلمي مصوع … والرابطة الإسلامية الجديدة في المديرية الغربية ، لذلك فإن المرء يواجه بأقلية تتألف من أتباع الغرازماتش إبراهيم سلطان … ولا يؤلف الجميع أكثر من 15 % على أبعد تقدير) يا للعجب عناصر برمكية ومعها ثلة من العملاء والمأجورين تساوى شعب !! أي دور خبيث لعبته هذه العناصر !! وأي دور أخبث ما زالت تلعبه !!! أي عقول تلك التي تتستر على جرائم هذه العناصر وامتداداتها اليوم التي أضعفت وما زالت المسلمين ، من الداخل بتفريخ الأحزاب الوهمية التي بددت جهودهم في سبيل توحيدها وصرفت تركيزهم عن القضايا المصيرية، ومن الخارج بالتحالف غير النبيل مع شركائنا ، والخطورة أن هذه العناصر بارعة في لعب الدورين معا وفي آن واحد ولكن لصالح الطرف الآخر!!!. هكذا كان الصراع في إرتريا في أوجه ، صراع بين الحق تتبناه الأغلبية الساحقة وباطل وتتبناه أقلية منبوذة ، وكل ميسر لما خلق له ، ولكي لا يبدو كلامنا عاطفيا أرى لزاما أن نُذكِر بحديث وزير الخارجية الأمريكي “جون دالاس “أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1952 (من وجهة نظر العدالة، يجب أخذ آراء الشعب الإرتري بعين الاعتبار إلا أن المصلحة الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في حوض البحر الأحمر، واعتبارات الأمن والسلام العالمي تجعل من الضروري ربط ذلك البلد بحليفنا الإثيوبي) فكلمة ” إلا أن ” تكشف بما لا يدع مجالا للشك بأن الولايات المتحدة والمنظمة الدولية كانتا علي علم برغبات الشعب الإرتري الحاسمة في تقرير المصير .
وفي هذه الأثناء المشحونة بالصراع كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تعقد اجتماعها ألـ 315 وافقت فيه بعد مناقشات حامية بدأت في الساعة 10:45 وحتى الثالثة ظهرا علي مشروع القرار 390 (أ) الذي يقضي بإقامة اتحاد فدرالي بين إرتريا وإثيوبيا دون استشارة الشعب الإرتري ، وهو المشروع الذي كانت تتبناه أمريكا، مقابل أربع مشاريع دولية كلها تبنت منح الاستقلال للشعب الإرتري مع اختلافها في الأسلوب والتوقيت .
وهكذا دخلت إرتريا في مرحلة الحكم الذاتي بالشراكة مع إثيوبيا في جو يسوده العنف والإرهاب من قبل عناصر ” الشفتا ” ضد ألوف الضحايا الإرتريين الأبرياء في شوارع ” أسمرا ” وسهول ” سرايي ” و” أكلي جوزاي ” وسهول ” سيتيت والقاش ” … واغتيالها رموز الحركة الوطنية علي رأسها الشهيد عبد القادر كبيري .
ولا نريد أن نتقصى في هذه العجالة الجرائم التي ارتكبتها مجموعات ” الشفتا ” أداة حزب الأندنت ، وإنما نود أن نؤكد علي شيء نساه البعض وتناسته العناصر التي لا تحب أن يقرع سمعها شيء يتعلق بتلك الأيام الغبراء ، وهو إبعاد معظم القيادات الوطنية الفعالة عن البرلمان الإرتري الصوري وجلب تلك العناصر الانتهازية العميلة التي مهدت الأرضية الملائمة لضم إرتريا إلي إثيوبيا نهائيا ، فقد كان ” تدلا بايرو ” رئيسا للجمعية العامة ، وهو الرئيس السابق لحزب الأندنت ، و” علي محمد موسى رآدآي ” نائبه وهو الرئيس السابق لحزب الرابطة الإسلامية المنطقة الغربية المنشق ، و” أسفها ولد ميكائيل ” رئيسا للوزراء ، وهو الزعيم السابق لحزب الوحدة للرعايا الإرتريين المقيمين في إثيوبيا ، والجنرال ” تدلا عقبيت ” رئيسا للشرطة ، وهو أحد أبرز كوادر حزب الوحدة ، والمدعو ” ديمتروس قبر مسقل ” نائب رئيس الجمعية الإرترية لاحقا ، وهو الزعيم الروحي لحزب الوحدة .
ورغم هذه الظروف البائسة ، فالتاريخ سجل مواقف مشرفة للرموز الوطنية داخل البرلمان وخارجه ، وملحمة الصراع المرير من أجل تثبيت اللغة العربية والتي استمرت 38 يوما لمن أجل الأحداث التي حفرت عميقا في الذاكرة الإرترية .
وهكذا وئد المشروع الوطني وذهبت معه تطلعات الشعب الإرتري إلي الحرية والاستقلال ، فما أن خرج الإرتريون من ذلك النفق المظلم البرلمان الذي وضعتهم فيه القوى والعناصر العميلة بكل أحزابهم الاستقلالية والانضمامية وكان ذلك في 14 نوفمبر من عام 1962 في الساعة 11:20 صباحا ، وجدوا أنفسهم في قفص محكم الإغلاق لم يستطيعوا الخروج منه إلاّ مشيا على الأقدام بين صفين من الجنود المسلحين ، فأسقط على يد العناصر الشعوبية ، وأظهرت الندم ولات ساعة مندم .
وأمام هذا الحدث الجلل لم يكن أمام الشعب الإرتري وقواه الوطنية في سبيل الحفاظ على المشروع الوطني الحضاري سوى إعلان الكفاح المسلح بقيادة الشهيد مفجر الثورة الإرترية حامد إدريس عواتي ، فالتفَ الشعب حول ثورته التي حققت الانتصارات تلو الانتصارات ، أمّا القوى العنصرية الحاقدة ( الأندنت) فقد تحولت إلى عناصر “شفتا” جديدة تحت اسم جديد هو ( الكماندوس ) .إلاّ أنها وبعد أن لفظها الشعب وتبيّن لها أخيرا كذبة الوعود التي كان يمنَيها بها الإمبراطور الكهنوتي ثم ما أصابها من خيبة أمل على يد خلفه الدرق الماركسي الذي كان يعيش صدمة انهيار جيشه العتيد تحت ضربات جيش التحرير الإرتري، لم يكن لهم من خيار إلاّ الانضمام إلى المشروع الوطني ، فاحتضنتهم الثورة دون حساب أو عقاب ، بل وقلدتهم مناصب قيادية وعلى أعلى المستويات!!. يا لطيبة هذا الشعب!! ألم يقل فرديناندو مارتيني ( إن الإرتري المسلم طيب ومتسامح بطبعه ، وليس بأدنى من الإيطاليين ، إلاّ أنه لا يملك حس الانتهازية المشوبة بالحقد ) .
لكن ماذا كانت النتيجة ؟؟ هل التحقوا بالثورة ليلعبوا لعبتهم القديمة ؟؟ أم تابوا توبة نصوح مستفيدين من أخطائهم الماضية ؟؟. أم هي القاعدة المأثورة لديهم ( ذي برقت طحاينا وذي نقس نقوسنا ) ؟؟؟ وأين كان موقع البرامكة من هذا المشهد ؟؟ وقبل الإجابة على هذه التساؤلات في الحلقة القادمة ألا يحق لنا أن نتساءل : هل يستطيع الفهد إبدال جلده الأرقط ؟؟.
خاتمة ونتائج :
1- إنّ الطغمة الحاكمة في أسمرا هي عين الشرذمة التي ضربت مشروعنا الوطني ” حزب الأندنت ” والشعوبيون وفلول الإقطاعية وكهنة “الديربي ” الذين لبسوا ومازالوا زورا وبهتانا عباءة الإسلام والإسلام منهم براء .
2- إذا كان ظهور بعض الأخطاء والممارسات أمرا طبيعيا في مسيرة الحركة التحررية الإرترية كغيرها من حركات التحرر وكل المفكرين الإرتريين الأسوياء يدركون هذا جيدا فإن واضعي المشروع العنصري الحاقد حرصوا كل الحرص وعن طريق خفافيش الظلام العناصر الشعوبية على إظهار القبلية والعشائرية والطائفية كأكثر أشكال التعبير عن المشروع الوطني وضوحا وذلك لقطع الطريق أمام المشروع الحقيقي التعددى.
3- رغم التسامح الكبير الذي أظهره ومازال يظهره الشعب الإرتري ، فإن العناصر الشعوبية – ابتداء من قيادات حزب الرابطة الإسلامية المنشق للوحدة مع إثيوبيا ومعهم شرا زم مغرر بها، ومن جاء بعدهم من لم تمت عندهم نظرية عصا الحامية التي تعتمد على التبخيس والتجزئة والتفكيك – لازالوا كدأبهم مستمرين على تأجيج هذه النار الفظيعة ببعض الأغصان الميتة ، ككتابات الشعوبي القلقة ( حمدان ) وكتاب “الدفع والتردي” للمتردي الأمين محمد سعيد ، وهو بالرغم من الجو المخادع للمصداقية التي ترفرف بين سطور مقدمته إلاّ أن تحريف الحدث التاريخي ، والحكم المسبق يتجلى في أوضح صوره عندما ينسب كل شيء تافه وحقير وبأسلوب أشد تفاهة وحقارة إلي أولئك الذين يقول عنهم عشائريين قبليين، والانطباع الذي يخرج به أي قارئ هو أن صاحبه يعاني من عقدة الدونية ، فكانت هذه المحاولة البائسة لتشويه تاريخ نضالات الشعب الإرتري المتمثلة في الحركة الوطنية أولا وفي جبهة التحرير والفروع الأخرى من التنظيمات الإرترية لاحقا ، وكان أفضل عنوان يستحقه ذلك الكتاب هو ( السيرة الذاتية لمجموعة نحنان علامانان وحلفائهم ) وهكذا اصبح كل وطني غيور سعى ويسعى لاسترداد حقوقه المدنية ، أو كشف المشروع العنصري لطغمة ” هقدف ” عرضة للقتل والتعذيب أو لهراوة الحامية التي يستخدمها الشعوبيون لكي يجبروا خصمهم على وجهة نظر أسيادهم كأمر واقع أو التزام الصمت .
4- قد يقول البعض يجب الاحتراس من إصدار أحكام بعقلية هذا الزمان على رجال الماضي ، إلا أن من حقنا أن نقول لرجال اليوم إن كانوا رجالا أنتم في خطأ عندما يرتكبون الخطأ نفسه وعلى الطريقة نفسها، وهنا يكمن التحدي الحقيقي الذي يجب على كل المثقفين والغيورين الإرتريين أن يعلنوه ، ويقولوا للمخطئ أنت مخطئ ولكن دون عدوانية لا مسوغ لها .
5- إنّ التاريخ أثبت إن التصرف كقعر كيس واسع يتلقى ويمدد كلما دخلت إليه عناصر من الخارج سياسة فاشلة ، وبالتالي يجب على الشعب الإرتري الاعتماد على قواه الأصيلة والحقيقية ، ولفظ كل العناصر المنفعية التي أدمنت لعبة تفريخ الأحزاب ( وإن كنا نطلق عليها أحزابا تجاوزا) وفتح حوار حقيقي يلامس لب الأزمة وأسبابها ومسبباتها بين الشركاء الحقيقيين ، لأننا اليوم حقيقة نعيش واقعا من سماته أن النخبة والمثقفين من كلا الجانبين المسلم والمسيحي لا يقرؤون لبعضهم! ولا يتداولون أفكار بعضهم!! بل حتى المسلمين فيما بينهم ، وإن فعلوا ذلك فلعلاقة خاصة لا تخرج أبدا من إطار التوافق في الدين أو الحزب ، لذلك أخذ الحوار في واقعنا شكلين لا ثالث لهما، وهما حوار السجون والعنف واغتيالات الظلام كما هو الحال في الداخل ، أو حوار التقزيم والتسفيه والاتهام كما هو الحال في الخارج.
إن الذين يرون أنّ أزمة إرتريا والإرتريين ووحدتهم تكمن في أسياس وأعوانه ، ويظنون أن بمجرد زواله ستنعم إرتريا في بحبوحة الحرية والخير والنماء والازدهار واهمون ، لأن أسياس في الحقيقة ما هو إلاّ محصلة لصيرورة أزلية وأبدية .
إن ثقافة رفض الآخر وتغييبه وإخراجه من دائرة الزمن والفعل يجب أن تزول ، كما أن عقدة النقص أو عقدة التعالي ينبغي أن تستبدل بعقدة المساواة وهذا يتطلب أن نتحلى بالشجاعة مع توفر الإرادة والروح الوطنية القائمة على التلاحم لا التصادم والإخاء لا العداء وفقا لتقاليدنا العريقة القائمة على مبدأ الوحدة والتآخي والتسامح وحرية الاعتقاد والاحترام المتبادل كما شهد لنا بذلك ماتينزو مبعوث الأمم المتحدة في ظرف ملبد بغيوم الفتن يقول : ( إنّ التعايش السلمي بين مختلف الأديان اصبح تقليدا راسخا مقدسا في إرتريا ) ويقول في مكان آخر ( إنّ الأكثرية الساحقة من الإرتريين مقتنعون بأن المسلمين والمسيحيين يمكن أن يتعاونوا كما تبين من الجو السلمي الذي ساد الاجتماعات المؤثرة في أسمرا).
وكل عام وأنتم محلقين في سماء الحرية والعدالة والديمقراطية .
أبو فايد
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5813
أحدث النعليقات