أف على زمان الإسفاف والعهر

محمد محمد علي همد

 الخرطوم  

 

أف يا زمان الالتفاف على المبادئ والفكر

على من قايضوا دماء قتلانا ببضع كؤوس من الخمر

أف على زمان يزاود فيه التراب على التبر

ويجادل الأعمى رؤى المبصر

زمان أدعياء التنخب يعرضون ترهاتهم لكل مشتر

يستجدون ود  السلطان

يتقلبون في الأحضان

 من حضن إلى حضن

ومن حجر إلى حجر 

زمان الزنديق يعظ مجاهرا

ويضاجع إبليس في السر

 

وأنا أقرأ مقالا على موقع النهضة ممهور باسم أبى ناصر ، رجعت بي الذاكرة إلى سني الدراسة الابتدائية وتذكرت تحديدا قصة ذاك الثعلب المكار والديك الساذج والمصاغة شعرا والتي تبدأ بـ :

برز الثعلب يوما في ثياب الواعظينا

فمشى في الأرض يهدى ويسب الماكرينا

 

سمع الدجاج الثعلب مطلقا عقيرته بالمواعظ الآسرة  والكلمات والاستدلالات المؤثرة  ولكنهم لم يصدقوه – لأنه في النهاية ثعلب –  إلا ديك ساذج اتبعه وأصبح من مريديه . إستدرج الثعلب هذا الديك بعيدا عن الأعين وفي الوقت المناسب إنقض عليه فكان آخر ما تلفظ به ذاك الديك المغرر به : ( مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا ) …… ولكن بعد فوات الأوان .

تذكرت تلك القصة وأنا اقرأ لأبي ناصر والذي أرجو أن يكون خالص النية في مواعظه بالرغم من الروائح المشبوهة التي تنبعث منها ودس السم في العسل .

فالرجل بالرغم من إفتراضي حسن نواياه قد تناقض مع نفسه فهو يدعو بشيرا ألا يسئ للآخرين في سطر ويسئ لبشير في السطر الذي يليه وهذه أزمة حقيقية يعيشها الكثير ممن نطلق عليهم مجازا النخب  وهي مشكلة أبدية تتجسد في التناقض بين الفكر والممارسة ، بين الأقوال والأفعال فمثلا يقول لبشير لو أنك إتصلت بأخيك عمر – ونحن نقول ماذا لو اصلت يا أبو ناصر بأخويك بشير وعمر وأصلحت مابينهما .هذا وكثير من المغلطات و الكلمات اللكمات التي وجهها تحت الحزام والتي أربأ بنفسي من الخوض فيها ولانريد أن يكون حاله كحال التي قيل فيها ( رمتني بدائها وانسلت )

كما أن المقال وكغيره من كتباتنا السياسية كان الكاتب  يلهث وراء الكلمات البراقة المزركشة ويرصها خلف بعضها رصا فتأتي جوفاء  بلا طعم ولا معنى بل وتؤدي أحيانا إلى معنى مغاير تماما لما  يرمي إليه الكاتب ويقصد أن يوصله للمتلقي أو القارئ  مثل قوله () انظر كيف صار المعنى مغايرا فنفي النفي لغة ومنطقا هو إثبات فكأن الرجل يقول أتمنى أن يؤدي بك ، وكثير كثير ليس من الضروري الخوض .

عموما الرجل قد تنكب عن الحق جانبا وامتطى صهوة الشطط التي تؤدي إلى التردي في مسالك الجور والمهالك ، ونقول له عار عليك أن تنهى عن خلق وتأتي بمثله – أهدي أبا ناصر هذه الهدية وإكتفي بذلك وإنتقل لموضوعي الأساسي والذي أنا بصدد الكتابة فيه .

فأنا اليوم بصدد الحديث عن الأزمة التي نعيشها ومستنقع الوحل و التردي الذي نغوص فيه ، فعلاقاتنا ببعضنا يحكمها منطق ( الضرات) الأرعن والضرة تحاول دائما الكيد لضرتها بكل السبل وتتخذ الموقف المضاد لها  تماما على طول الخط  حتى لو كان في ذلك  مصلحتها ، تسفه رأيها حتى لو كان صوابا ، وهكذا تجدنا نحن ، فلو كتب أحدنا شيئا أو أدلى برأي تداعت له الجموع نقدا وتسفيها وامتشق كل قلمه سيفا، ونصبت غرف العمليات للرد وبدأت الإتصالات ( يوم فلان كتَبَ …ردد ديبو بلُو  . إتصل بفلان يكتب كمان  ، بالله هزؤ ) بالله بربكم ماهذا الذي نعيثه، ماهذه المهزلة التى نعيشها  حتى صرنا كأمة أبي الطيب حين قال فيهم ( ياأمة ضحكت من جهلها الأمم فمثلا _ وهذا على سبيل التمثيل فحسب – حين تبنى بعض الأخوة فكرة الفدرالية كمخرج لأزمتنا مع شركائنا في الوطن قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن بالرغم من أنها قد تكون حلا فعالا لإزدواجية الثقافة في إرتريا فانقسمنا نحن  إلى معسكرين نتناقر ونتعارك كما الديوك عبر النت ، وإسياس ومن يمثلهم يتفرجون ويضكون تهكما واضعين الرجل على الأخرى . لماذا نخوض معاركهم نيابة عنهم ونمعن في بعضنا تنكيلا وتسفيها  وتقتيلا .  ماذا يضيرني أو يضيرك لو طبقت الشريعة في إرتريا أو النظام  الفدرالي ؟ هل ستضار بذلك أكثر منهم ؟ إذا دعهم يقوموا  بمهمة التصدي هذه عنك .ولا تدخل في معارك قذرة عنهم . ماذا يضيرنا لو حكم إرتريا بشير إسحق أو عمر جابر أو أيُُنا ؟ أليس ذلك خير من أسياس أفورقي أو أيى أسياس آخر ؟!. يجب أن نرتقي في فكرنا وطريقة تفكيرنا وممارستنا .فالوقت ليس في صالحنا حتى نضيعه في مثل هذه المعارك الإنصرافية  والإلهائية . فهناك في إرتريا مخطط ينفذ بكل نجاح حتى الآن فما سياسة الإحلال والإقصاء الثقافي إلا جزء من تعيير التركيبة السكانية وإحداث خلل فيها وياراهن إسياس ومن يمثلهم على عامل الزمن .فنحن آخر جيل يمكن أن يقاوم أو له إرتباط بالوطن وقد تجاوز معظمنا الأربعين عاما لأما ألأجيال التى تلينا فهو متأكد بأنهم لاينازعونه الأمر أو ينازعوا من يمثلهم فيما بعد ، وأما الذين في الداخل فقد قفَل عليهم الأبواب وعزلهم عن العالم وعن محيطهم الثقافي  ويقوم بتشكيلهم كما يشاء يطمس هوياتهم ويشوه وجدانهم فيحيلهم إلى مسخ مشوهة، وبذا يمرر برنامج أسلافه ويحقق أحلام من يمثلهم ، ونحن نسدر  في غينا ومماحكاتنا الغبية .

أوليس من العار  أن نستجدي حقوقنا وأن نستجدي العيش  بسلام في أرضنا؟ وممن نطلب ذلك ؟أ من إسياس ومن يمثلهم ؟!!

نحن لم نكن يوما ما في تاريخنا  بهذا الهوان والضعف والإذلال ، بل كانت  لنا دوما اليد الطولي  و الكلمة العليا – أقصد أسلافنا – الذين لم تتوفر لهم  الظروف والمعطيات التي بين يدينا . فهل ياترى كان كبوب حجاج قد سمع بكلمة ثورة قبل أن يقوم بها؟ أو سمع حاج موسى علي عن الثورية وأخلاقها التي كانت تتجسد فيه بكل معانيها ؟ من أيتها جامعة تخرج أبو رجيلة وأية كلية حربية درس فيها ، كانوا برغم بساطتهم أكبر من تحدياتهم فأداروا المحنة بكل حنكة واقتدار ، كان أسلوبهم في النضال كبساطتهم منسجما مع إمكاناتهم جعلوا المدن أتونا للحرب بعملياتهم الفدائية الجريئة رغم أنف جيش الجواسيس والمخابرات الإسرائيلية والأمريكية بل ضحكوا عليها فهزموا أكبر إمبراطورية خارج أوروبا واستمالوا أدواتها من الإرتريين إلى صفهم بالرغم من إمكاناتهم البسيطة وتعاطيهم البدائي مع الإعلام ( نظلائى طقا مندفرا طيط فنطريط أبلنايو ) والله هذه فقرة وردت في مجلة النضال في أعدادها الأولى .

( الطير سراويت البداناتات القمالاتات سندربهم بالقنبلات والسبطاناتات) قصيدة بالعربية ألقيت في إحتفال من إحتفالات الجبهة الأولى ألقاها المقاتل صالح قيحيتاي .

أما نحن اليوم وبرغم ما أوتينا من مقدرات وعلم مازلنا نستجدي حقوقنا وأصبحنا أضحوكة ومسخرة ومطية لغيرنا، أصبحنا كالأيتام على موائد اللئام  لأننا لم نتعلم كيف ندير خلافاتنا ومتى نلتقي ؟ متى نرتقي فوق هذه الخلافات ؟  متى نرمي بها جانبا كأنها لم تكن و كيف نتقاسم الأدوار ونوزعها لمصلحتنا .

 أنظر كيف أدار الجنوبيون في السودان خلافهم مع الشماليين وكيف أنهم تقاسموا الأدوار وتجاوزوا خلافاتهم وكيف كان د. لام أكول يهدد الحكومة في الخرطوم من البرلمان بجون قرنق حيث كان يقولها بالفم  المليان ( لاتجبروننا علىالخروج للغابة فنحن نختلف مع جون قرنق في الوسيلة ولكن ليس في الأهداف ) بينما رهطنا الذين دخلوا أسمرا بعد أن فتحها إسياس كان أول عمل قاموا به أن توعدوا الذين لم يأتو إلى أسمرا لتقديم صكوك الولاء والطاعة معهم  واصبحوا بين عشية وضحاها أبواق إسياس الإعلامية وأدواته في رقعة الشطرنج التي يحركها متى وكيف شاء وعند انتهاء صلاحية أي منهم يزج به في السجن أو يركل خارج البلادغير مأسوفا عليه أو مشكورا على الخدمات المجانية التي قدمها لهم على حساب أهله

نحن نفتقر إلى فن إدارة الخلاف . متى نختلف وكيف نختلف وإلى أي مدى ؟ نفتقر إلى الجدية في تعاملنا وتعاطينا السياسة .نعيش كما أسلفت أزمة الفكر والتطبيق . التناقض بين الأقوال والأفعال ، لانستطيع ترجمة ما نقول أفعالا . مثلا كلنا يحفظ ( وتأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا تفرقت تكسرت آحادا ) وكذلك ( أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب ) كلنا يحفظ ذلك منذ أن عرف الكلام ولكننا نمارس عكس ذلك تماما .

أذكر هنا قصة حكاها لي والدي – رحمه الله – حدثت في مدينة أغردات في بدايات الخمسينات من القرن الماضي حيث زار وفد كبير من إثيوبيا المدينة وقرر أعيان المدينة وعمد وشيوخ القبائل ألا يشاركوا في الاستقبال الرسمي والشعبي الذي أعد له وأن يلتقوا به فيما بعد ، اتفق الجميع على ذلك ماعدا شيخ من شيوخ القبائل وأصر على الذهاب للاستقبال بعد أن جهز فرسه وزينها بأجمل ما تتزين به الخيول  ولبس أحسن ما عنده من ملابس ( عراقي وسروال- متالق- وسديري وعمة وسماديت ) وتمشق سيفه على الكتف الأيسر وتأبط  عصاه المفضضة والكرباج المفضض أيضا بيده اليمنى وامتطى فرسه وجاء إلى موقع الاحتفال ووجد نفسه فجأة في مقدمة الصفوف . التفت يمنة ويسرة وخلفه فوجد أن الناس غير الناس وإيقاع الدلاليك لايمت إلى الوسومية بشئ حتى يبرج عليه  ويبشر .فما كان منه إلا لوي عنق الفرس يمينا ويسارا وشق طريقه وسط الصفوف متراجعا للخلف منسحبا وهو يردد ( أشكاللا بلسو ود سب أكي مكايد ) ورجع إلى رهطه قائلا ( تئكى وتسني، إبقل وإبدي أنا مسلكم هليكو) فعلا هكذا يجب أن تتخذ المواقف فما معنى أن يؤمَر أسد منبوذ من قومه على مجتمع القرود  .

أوليس من العار أن نقول ونحن أبناء الرجال الذين فجروا الثورة وأحفاد عبد القادر كبيري وإبراهيم سلطان وردآي أن نقول بأننا مضطهدون في إرتريا ومواطنون من الدرجة الثانية والثالثة و Dominated ؟ ممن ؟ أعيد هذه السؤال مائة مرة ؟ من إسياي ومن يمثلهم – عيب والله وعار كبير .

يبدو أنني قد إسترسلت كثيرا فالأمر ذو شجون ومواجع ولكن دعونا نؤسس لعلاقات جديدة ولفهم جديد لخلافاتنا وأهدافنا ونرتب أولوياتنا وكيفية تحقيقها وقبل هذا وذاك أن نتعامل بشفافية وأن نحسن الظن في بعضنا وألا نترجم كل موقف أو قول تأسيسا على خلافاتنا بل من مبدأ  حسن نية صاحب الرأي المطروح وما أراد به إلا خيرا لنا جميعا وإلا فابشر بطول بقاء إسياس وبشر من تمثلهم بالغنائم والسبايا ( واركبو على أكتافنا ودلدلو رجولكم كمان )


روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6335

نشرت بواسطة في ديسمبر 2 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010