احتفالات الجبهة الشعبية بمرور عشرين عاما من الاستقلال المحتوى و المغزى
بقلم / عبد الله آدم محمد
باحث بمركز دراسات القرن الأفريقي
بادئ ذي بدء نترحم علي فقيد الوطن ، المناضل الكبير الشهيد عبد الله إدريس محمد وعلى كل شهداء قضيتنا العادلة والخزي والعار للدكتاتورية .
افتقرت احتفالات النظام بهذه المناسبة العظيمة إلي رؤية واقعية لحال المجتمع الارتري ، فالاحتفالات قد صرفت فيها مبالغ طائلة تفوق عشرات الملايين من الدولارات ، كما أسفرت عن وجه النظام الكالح الذي حاول إعطاء انطباع بأن إرتريا دولة مسيحية تتناغم فيها ثقافة واحدة هي التجرنية مع أن هذه الفئة لاتزيد عن ربع سكان إرتريا ، كما صرف علي تجميل عاصمته ببذخ من اجل إعطاء انطباع بالاستقرار والتمدن ، كما انفق علي أدوات الزينة والبهرجة حيث تم استهلاك أكثر من خمسمائة ألف ياردة من القماش من أجل أن تحتفي جماهير النظام بيوم الزينة هذا مع أن 80% من مجتمعنا من المزارعين والرعاة وهم لا يملكون إلا ثوبا واحدا مهترئ أهلكته عاديات الزمن ، وكان حري به أن يستخدم هذه الأموال في تدريب القابلات وتوفير مياه الشرب وبناء المدارس ، ففي الريف الارتري تتوفى 280 امرأة من بين كل 10.000 امرأة أثناء الولادة لعدم وجود القابلات المدربات وقد بلغ معدل وفيات المواليد السنوي في عام 2009 م 185,000 طفل بسبب تنافر وتباعد مراكز الخدمات الطبية في التجمعات الحضرية أو انعدامها في الريف ، كما يتوفي عشرة أطفال من بين كل ألف مولود أثناء الولادة و يتوفى 10,000 طفل دون سن الخامسة ، ويبلغ عدد الأطفال دون سن العاشرة 400.000 طفل وفق إحصاء اليونيسيف ، وتعتبر الاسهالات أهم أسباب الوفيات بين الأطفال وذلك لاستهلاك 94% من سكان البلاد مياه ملوثة غير صالحة للشرب ، وأن 60% من الأطفال ليس بمقدورهم الالتحاق بالمدارس لعدة أسباب منها عدم توفر المدارس في الريف ، وأن 48% فقط ممن التحقوا بالتعليم الابتدائي استطاعوا إكمال هذه المرحلة ، كما أن 60% من سكان البلاد لا يستخدمون وسائل النقل بل يتنقلون بين قراهم والمدن مستخدمين الدواب أو مشيا علي الأقدام ، وإن سياسة الجبهة الشعبية في مد الطرق قائمة علي أساس جلب منتجات الريف إلي مركز الدولة ، فإقليم بركا القاش يشقه طريقان طريق أغوردات تسني وطريق أغوردات ساوا ولا توجد طرق تربط مدينة أغوردات بالريف الذي يحيط بها مثل أغردات دلك كركون أو أغردات منصورة و أغردات رهيا عباي وهمبول أو أغردات هدم دمي أف همبول ، و ذات الحال ينطبق علي نقفه فسكان طحرا و أدوبحاي وحداي وفلكت وحشكب وأم هميمي ما زالوا يستخدمون الحمير والبغال في الصعود إلي رورا ، ومثلها كرن فمديرية كركبت إداريا تتبع إقليم عنسبا غير أنها لا ترتبط بكرن بأي طريق بري بل يتم الاتصال بها عن طريق أغوردات ، أما أن يتمتع سكان هذه الأصقاع النائية بخدمات الكهرباء فهو ترف لا يخطر ببالهم ، ولذلك كثير من مواطني الريف يطلقون علي الكهرباء حرقيقو وذلك لبعد الشقة بينها وبينهم واستحالة تخيل وصولها إليهم وتأتي ارتريا في آخر القائمة بين دول العالم من حيث نصيب الفرد من الطاقة الكهربائية ، ومع ذلك رأى المشاهدون حجم الإضاءة التي أعدت للاحتفال في مدينة اسمرا بينما الاحتفالات في بقية المدن جرت في الظهيرة لعدم وجود الكهرباء فيها .
الغائب الأكبر :
يعتبر مفجر الثورة الارترية حامد إدريس عواتي الغائب الأكبر في احتفالات الجبهة الشعبية فمنظموا الاحتفالات لم يتكرموا بعرض ولو صورة جداريه للقائد البطل الذي أنار لشعبنا أولي دروب الحرية وكذلك حتي في لوحة تعبيرية واحدة سوءا في المدرجات أو في خارج ساحة الاحتفال ، مع أنه لم يفت عليهم أن يزيدوا علمنا بأن إرتريا تمتلك مصنعا للبيرة وأتحفونا بشكل القنينات التي تعبأ عليها كما استفدنا من احدي اللوحات التعبيرية المقطورة بأن إرتريا تمتلك ثروة سمكية وتظهر الصياد وهو يحتسى الخمر بعد أن ظفر بصيد ثمين ، كما مجدوا لنا الشدة (حذاء على شكل الصندل مصنوع من المطاط) بأن كانت معروضة ضمن اللوحات التعبيرية ، في المقابل ضاق خيال فنانو الجبهة الشعبية حيث لم يجرؤا بأن يرسموا لوحة لهذا القائد العظيم ومثلهم شهود الاحتفال لم يجرؤ محتفل واحد من بين مئات الآلاف من المحتفلين ـ كما ذكر لنا منظم الاحتفال وزير التعليم سمري رئسوم ـ بحمل صورة للقائد البطل حامد إدريس عواتي غير أننا نعذرهم لسببين :
الأول : أن 90% من شهود الاحتفال هم من النساء والأطفال
والأمر الآخر : إن في اسم القائد البطل إدريس فربما لم يستطع القوم في أن يفرقوا بين حامد إدريس وعبد الله إدريس فليهنأ شهيد ينا في مرقد يهما .
أما الغائب الكبير الثاني في هذه الاحتفالات فكان علم النضال السياسي والحكم الفيدرالي وراية الثورة الارترية ، فعلم الجبهة الشعبية بنجمته الحمراء لم يغب عن ذهن منظمو الاحتفال أن يذكرونا به ، كما أفادونا بأن المراحل النضالية السابقة لا تعنيهم ، فليتعظ الغافلون والمستغفلون من أبناء المسلمين فإن من تطالبونا بصون حقوقهم هذا دأبهم .
أما الغائب الثالث من الغائبين الكبار فكانت اللغة العربية حيث لم نجد لوحة واحدة تفيدنا وكتبت بالعربية فكل ما رأيناه بضعة لوحات بالعربية بين آلاف اللوحات بالغة التجرنية ، وقد خطت بخط رديء يذكرنا بخارطة للمعالم السياحية في ارتريا أصدرتها وزارة السياحة كتبت بالغات التقرينية والانجليزية والعربية ،اللغتان الانجليزية والتقرنية خطتا بخط زاهي ولغة رصينة ، بينما اللغة العربية خطت بخط ردئ وصيغت العبارات بلغة ركيكة حيث ترجمت الحمار الوحشي بعبارة حمار الخلا ، وقس علي ذلك في ترجمة بقية الشواهد وهو ما يذكرنا بأن حلاقا في أسمرا أراد جذب من يقرؤون العربية إلي محله فكتب محلات قطع الرأس مع أن الحلاق و صالونه في أغلب مناطق المسلمين يعف بالزيان .
إرتريا تخلوا من الشباب :
لا يفوت علي حصافة القارئ الكريم إن نظام الجبهة الشعبية قد أخلا إرتريا من القوي الحية وهم فئة الشباب فجل شهود الاحتفال هم من النساء و الأطفال وحفنة من الرجال من أعضاء تنظيم الجبهة الشعبية وتفيد تقديرات البنك الدولي أن 77% من الطلاب في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي في عام 2009 م هم من الإناث وأن نسبة الذكور لا تزيد علي 23% ، وهذا واقع إرتريا اليوم فالحرب الارترية الأثيوبية راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشباب بين قتيل وجريح وأسير وهارب ، كما أرغمت سياسات النظام أكثر من ربع مليون شاب للهروب من البلاد و الهجرة بحثا عن مواطن للاستقرار ، وقد حاولت وسائل إعلام النظام إعطاء نا انطباعا بأن ارتريا غدت قبلة للزوار من أبناء المهاجرين الارتريين المقيمين في المهجر بإجراء مقبلات معهم للتعبير عن مدي إعجابهم بما رأوه من مظاهر الاحتفال ، غير أننا نطلب ـ أي من ضيوف الاحتفال ـ منهم أن يخرجوا من الفقاعة التي اسمها اسمرا ليرو البؤس والشقاء الذي يرزح فيه شعبنا الصامد عندها سيدركون حجم بشاعة هذا النظام المقيت .
أكثر الحضور في الاحتفالات من النساء و أغلبهن من موظفات الدولة وتبدوا عليهن سيما الرفاهية ، في المقابل فإن أمهاتنا و أخواتنا في الريف لا تخطئ العين بؤسهن وكان ذلك جليا في احتفالات كرن و تسني و أفعبت ، وقد حاول النظام إخفاء ذلك بأن حصر الاحتفالات في بعض المناطق داخل سرادق دعي إليها المجتمع المخملي من أنصار النظام وأعوانه وزبانيته من أجهزته الأمنية و العسكرية و أعضاء حزب الجبهة الشعبية .
حاول منظمو الاحتفال إعطاء الانطباع بأن المجتمع الارتري عبارة عن أسرة واحده وذلك بتناول وجبة طعام أثناء الاحتفال غير أننا لم نرى إلا المائدة التي تعبر عن ثقافة فئة واحدة وتقصي كل الثقافات الأخرى ، فإن ثقافة المسلمين في هكذا احتفالات هو أن يقدموا الحليب للضيوف وهو عبارة عن فأل خير لما هو آت من الزمان ، كما لاحظنا أن معظم من تحلقوا حول هذه الموائد هم من النساء بينهن حفنة من الرجال وهذا يخالف أعراف وتقاليد المسلمين حيث تفصل موائد المسلمين بين الجنسين لذا خلت هذه الموائد من المسلمين من الجنسين إلا قلة لا يؤبه لها من الخانعين ، وما رأيناه هو تكريس للثقافة الأحادية وإقصاء للآخر.
حاولت اللوحات التعبيرية المتحركة أن تعكس وجود بعض الصناعات التحويلية في ارتريا وهي صناعات تلبي مطالب فئة محدودة من المجتمع الارتري مثل المصنوعات الجلدية وصناعة الخمور وبعض المشروبات الغازية والمياه المعدنية ، بينما لم نجد مصنعا واحدا لصناعة الحليب المجفف للأطفال ، أو تغليف وتعليب الأطعمة وغيرها من الصناعات ذات المردود الإيجابي على الإنسان الارتري ، ونقدر همة إدارة إقليم عنسبا التي زينت منصة الاحتفال بمنتجات الإقليم من الفاكهة وعبوات مبسترة لمصنع عيلا برعد لمنتجات الألبان ، ولا يفوتنا أن نضيف إلى معلومات القارئ أن هذا المصنع هو من مخلفات الحقبة الاستعمارية الايطالية ، ففي عام 1977 م حررت قوات مشتركة من جيش التحرير و الجبهة الشعبية التي كانت تبحث عن إنجاز ترفع به من أسهمها مدينة عيلا برعد فوجدوا فيها ثلاثة مصانع هي مصنع للألبان ومصنع لمعجون الطماطم (الصلصة) ومصنع للنبيذ فاختلفوا في تقاسم هذه الغنائم فاكتفت الجبهة الشعبية بأن يكون نصيبها مصنع النبيذ .
كان من بين المدعوين للمشاركة في الاحتفالات فرق استعراضية راقصه من متسكعي كيب تاون ونيروبي ، ودعوة فرق راقصة ليس له مغزي سوي الصرف البزخي للنظام الحاكم، مع أن النظام تلقي في الأعوام الأربعة الماضية 572 مليون دولار أمريكي من المساعدات والمنح ، ويشكل هذا المبلغ نسبة 38% من إجمالي الناتج العام للدولة ، وعلى كل مواطن إرتري أن يدفع سنويا 30 دولارا أمريكيا خدمة لهذا الدين ، ومع ذلك ما صرفه النظام على الاحتفالات في طول البلا د وعرضها وعلي الوفود الحكومية التي ابتعثها إلي الدول التي يقيم فيها المهاجرون الارتريون يلزم المواطن الارتري المغلوب علي أمره دفع تكاليف هذه الاحتفالات . والجدير بالذكر أن الجبهة الشعبية لم تنجح في شيء كنجاحها في تعليم كل من ولد في ظل هيمنتها الرقص والغناء والفجور ، وأن كل مهرجاناتها تفتقر إلى أي مضمون أو محتوى ذا مغزى سوى الرقص والغناء الأجوف الذي يثير الغرائز الشهوانية ويلهي الشباب عن قضاياه الرئيسية ولم تكن الجبهة الشعبية و لا المحتفلين معها في حوجة إلى هذه الفرق اللهم إلا أن تزيد من أفسدتهم الجرأة في التحلل .
تميز احتفال هذا العام بظاهرة لم تكن معروفة لدي الجبهة الشعبية من قبل وهي تمجيد رأس النظام من خلال حمل صورة رأس النظام وإظهار حامليها زهوهم بصاحب الصورة ، وهذه الخطوة هي من بنات أفكار وزير الإعلام وما نري ذلك إلا أوج الاستبداد الشخصي الذي بلغه رأس النظام وتكريس حكم الفرد ، كما نرى فيه نكاية بأبناء المسلمين علي مصابهم الجلل في القائد الفذ عبد الله إدريس ، وشتان بين أبو إبراهيم و أبو ابر هام وإن غدا لناظره قريب .
كلمة اسياس :
اللافت في هذه الاحتفالات أن كلمة رأس النظام بهذه المناسبة كانت مغتضبه ولم تستغرق أكثر من ثلاث عشرة دقيقة وقد خلت من أي محتوي عن حالة الوطن خلال العام المنصرم سوي التنبيه على ما تم عقده من المنتديات تعكس أداء الوزارات خلال العقدين الماضيين ، ونريد أن نلفت عناية القارئ الكريم أن تقييم هذه المنتديات أظهر لنا أن الدولة الارترية وأجهزتها لا تعمل وفق خطط خمسيه أو عشرية بل هي منهمكة في عمل روتيني يومي ولم نلحظ وجود أي خطط ترسم للمستقيل ضمن أهداف محددة ، اللهم إذا استثنينا المشاريع التي حظيت بتمويل خارجي مثل التعدين و محطة توليد الطاقة الكهربائية التي مولتها دولة الكويت وعدة صناديق خارجية .
أما تناوله للنزاع الحدودي مع أثيوبيا والعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية فهو قديم متجدد وليس فيه جديد يستحق الوقوف عنده كما أظهر الخطاب يأس النظام من تحسن علاقاته مع القوى الكبرى ، وفشل مساعي يماني قبرآب في فتح قنوات اتصال مع إدارة اوباما .
أما الجديد في خطابه فهو مناشدة ارتريي المهجر للوقوف إلى جانبهم لتخطي التحديات التي تواجههم ، وهذا غير معهود في خطابات إسياس ، فأبواق الجبهة الشعبية طوال تاريخها تصف ارتريي المهجر بالحالمين من مرتادي الحانات في دول المهجر وأن ارتريا ليست لمن يحلمون ، وهذا يؤشر إلى أن النظام بدأ الآن يدرك أن سياساته الرعناء أفقدته شريحة مهمة من المجتمع الارتري وهذا يبين حجم الضغوط التي يتعرض لها النظام بسبب تزايد القوي الرافضة لسياساته من الجماهير الارترية في الداخل والخارج .
خلا الاحتفال من وفود خارجية سوى ممثل للحزب الحاكم في السودان وآخر يمثل جبهة الشرق . غير أننا نلتمس العذر للنظام فإن أغلب حلفائه مثل القذافي والرئيس اليمني في وضع لا يحسدان عليه ، أما حليفه حسني مبارك قد خرج من مسرح التآمر الدولي ، وهذا الوضع يعكس مدى عزلة النظام في محيطه الإقليمي سواء مع الدول العربية أو الإفريقية .
.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=14892
أحدث النعليقات