ارتريا_ من العسكرية الى الديمقراطية في تعميق الخيار الثالث

صلاح أبوراي – لندن

تحتاج الثورة الى الانضباط العسكري والى الحزم الشديد والى الانصياع الكامل لأوامر القيادة حتى يتجذر مفهوم الآمر والمأمور والضبط والربط من أجل تكوين جيش قادر على تنفيذ المهمات بفاعلية وكفاءة عالية. وكما هو المعلوم إن العسكرية بغض النظر عن مراميها النبيلة الا ان علاقات مستوياتها بعضهم ببعض تمثل ذروة الديكتاتورية. وإن الديكتاتورية في معناه البسيط هو الإملاء (dictate)  بحيث لا تسمح المنهجية العسكرية اي شكل من اشكال الأخذ والرد فقط الأوامر تنساب كالماء من الأعلى الى الأسفل لتجد طريقها الى التنفيذ. النقد ، التحفظ ، التوضيح، الاستفسار، المناقشة، المجادلة ، كيف ولماذا …الخ تعتبر من المحاذير في المنهج العسكري وعلى الجندي يجب ان يكون جاهزاً ومؤهلا في تلقى التعليمات وتنفيذها بأعلى قدر من الآهلية والفاعلية حتى يحقق المهمة التي انيطت اليه.

ويُبرر العسكريون هذا المنهج من أجل ضمان تنفيذ الأوامر حتى ولو كلف الأمر حياة الجندي!. والمقولة العسكرية تقول ” إن النصر يعرف في وقت السلم” أي الإعداد والضبط والربط عند الجندي في وقت السلم هو معيار النصر أو الهزيمة يوم المعركة فكلما كان الضبط والربط في اعلى مستوىً بين الجنود كان الجيش في مستوى صلابة وقوة وفاعلية عليا وبالمثل كلما كان الضبط والربط في مستوى منخفض فان الضعف والترهل والهوان يكون سمة الجيش.

القيادة العسكرية الارترية ليست استثناءاً من هذه المدرسة وهذا المنهج العسكري، كانت وما زالت تُلقى الأوامر منذ قرابة النصف قرن ليتم تنفيذها دون جدال أو تردد أو مناقشة ينفذها الجنود بسرعة البرق، هذه النمط كان من ضرورات العسكرية لتحرير البلد من المستعمر. فكلما وجدت قيادة عسكرية قوية وجيش ملتزم ومنضبط هنالك ضمان لكفاءة عالية لتنفيذ الأوامر وبالتالي المهمات. ولا يختلف اثنان في أهمية هذه الديكتاتورية العسكرية في زمن النضال التحرري ولكن علينا كذلك ان لا نختلف في آثار وتبعات تلك الديكتاتورية بعد انتهاء مهمتها التحريرية وعلينا فهم ما اذا كانت بالأمكان ان التخلى عن سلوكها وتراثها العسكري الديكتاتوري بمجرد دخولها الى اسمرة أم ان الأمر اعقد بكثير عن ذلك؟

علينا الإتفاق عن مبعث ديكتاتورية النظام ومنشأها؟ كانت ضرورية لتحقيق الانتصار العسكري وكان طبيعياً كذلك ان تكون بثمن باهظ لانتاجها مركزية عسكرية (ديكتاتورية) وعقلية آمرة وناهية تعودت على مدى قرابة نصف قرن القاء الأوامر دون جدال او اعتراض فاصبح إملاء الأوامر وعدم قبول الرأي المخالف جزءاً من تراثها وثقافتها وسلوكها اليومي هذا المنهج والمسلك التراكمي لعقود كرّس تراثاً استحوذ على عقول اصحابه واقعدهم من المقدرة على التفاعل مع الأراء والافكار المختلفة. ان أرتريا ليست استثناءً من القاعدة فكل الدول التي قادت نضالات مسلحة آلت الى ديكتاتوريات. لا شك انها انتصرت على الجيش الخصم وانجزت مهمات تاريخية المتمثلة في التحرير والخلاص من المستعمر لكنها خلفت وراءها ديكتاتوريات.هكذا الأمر في فيتنام لعدة عقود ولا زال اثار الديكتاتورية وهكذا الحال في كوبا حيث الديكتاتورية قائمة الى الآن وكذا الأمر في زمبابوي حيث الديكتاتورية الى يومنا هذا وكذا الحال في الجزائر حيث (دولة الجنرالات) وكوريا الشمالية وسطوة العسكر من ان قاد كيم آيل سونغ الحرب لتوحيد الكوريتيين في 1950م والى اليوم يعتبر الرئيس الأبدي حسب الدستور .. الخ. دون ان ننسى ارتريا هي الأخرى نفس التجربة وبالضرورة نفس المآل في صناعة الديكتاتورية كأحد منتجات العسكرية المركزية في الميدان.

العقلية الديكتاتورية الارترية تتضح في ابسط القضايا حيث كل من يختلف معها في الرأي أو من يبدي راياً مخالفا لرأيها يغيّب، وكل مخالف “معارض” ومجادل للرأي هو عاص ومارق للأوامر ويتم عقابه أو تصفيته.

فإذا كان الشعب الارتري ضحية آثار المركزية العسكرية التي كانت تتطلبها عملية التحرير، فهل من العقل والمنطق تكرار الأمر واستخدام الوسائل العسكرية مرة اخرى لإزالة الديكتاتورية لانتاج ديكتاتورية عسكرية اخرى؟. إذا كنا قد اتفقنا على منشأ المشكلة من أجل ادراك معرفي للمنهج المراد تفكيكه واحداث تغيير وقيطعة معه نكون قد استحوذنا مكسباً معرفيا ووعياً عميقاً وحصانة صلبة من عدم تكرار استخدام الوسيلة العسكرية في حسم قضايانا مرة اخرى والا سوف نكرر ذاتنا وآلامنا ونجعل من الأجيال القادمة ضحايا لقيادات عسكرية التي صنعناها. علينا الحسم بأن الحل العسكري يفاقم المشكلة ويدوّرها ولا يقدم اليها حلاً . الحل العسكري سوف يكرر التجربة ويولد نفس الاستبداد والديكتاتورية ولربما اسوأ من الديكتاتورية الحالية نتيجة حاجته لقيادة مركزية عسكرية قوية تتميز بتفوق أكبر واشد من المركزية العسكرية الحالية (النظام) كشرط للإنتصار عليه.  وهي الآلية التي تخلف قيادة مركزية اقوى من المركزية الموجودة أي تخلف ديكتاتورية اقوى وأشد من الحالية!. كذلك الخيار العسكري خياراً خاطئاً لأنه يعطي المشروعية للديكتاتور المتربع في السلطة في إستخدام ترسانته العسكرية المكدسة وليس من الحكمة استخدام وسيلة واداة يتفوق بها خصمك وان اختيار وسيلة يتفوق بها خصمك يعني إختيار وسيلة هزيمة اكثر من اختيار وسيلة إنتصار.هذا بالإضافة الى ان الخيار العسكري يخلف وراءه الأثار المدمرة الكبيرة والمآسي الإنسانية من قتل وتدمير وتشريد ونزوح الآلاف من ابناء الوطن الواحد ويترك آثار سلبية عميقة على مدى العقود بين ابناء الوطن الواحد. ومهما تعددت مسميات العمليات العسكرية ومبرراتها فإنها سوف تكرر حتماً التجربة بانتاج ديكتاتورية آخرى بديلة كما علينا عدم التردد في استخدام الكلمة الصحيحة عند وصف العمليات العسكرية بين ابناء الوطن الواحد على انها حرب الأهلية دون ان نغفل الاستبداد وحجم الظلم الذي يتعرض له شعبنا ولكن الحلول لكل تلك المشكلات والمظالم يجب ان لا تكون الحرب الأهلية لأنها تفاقم المشكلة.علينا ان لا نقفز على المرحة الحالية وعلى استحقاقاتها ، فالمرحلة تتطلب نضالاً يؤسس لقيم العدالة والديمقراطية من خلال نضال غير عنيف يكشف عورات النظام ويؤلب الجتمع الارتري والدولي حوله ويحرك الأغلبية الصامتة لتنضم الى الجانب الصحيح. علينا ايفاء هذه الاستحقاقات التي تتطلبها المرحلة الحالية ولا نقفز فوقها الى خيار عسكري أو خيار الرهان على القوى الاجنبية والتدخلات الاقليمية وهذه الخيارات فبالاضافة على انها نقيض آلية تكريس العدالة والديمقراطية فإنها تأتي بنتائج عكسية تكون في صالح الخطاب الديكتاتوري الذي يزعم بأنه حامي حمى الوطن وسيادته ووحدة اراضيه!. كما ان الرهان على القوى الخارجية في التغيير يستدعي لاحقاً نضالات مضاعفة من أجل التخلص من الديكتاتورية التي خلفتها الآلة العسكرية من جهة والتخلص من النظام العميل والهيمنة الأجنبية التي تمثلها اثيوبيا واجندتها الخطيرة على ارتريا وطنا وشعباً.

إن الحل للتخلص من الديكتاتورية ليس بالحل الهين والسهل ولكنه حل حتمي ومستديم اذا ما وقع خيارنا عليه ، ويرتكز بصورة اساسية في عمليات تراكمية لاشاعة قيم الحوار والحرية والديمقراطية في اوساط النخب السياسية والمدنية من جهة وكشف وتعرية الديكتاتورية في اوساط الشعب الارتري وفي كافة النظم والمنظمات والهيئات الدولية من أجل ممارسة أكبر الضغوط عليه لتوفير المناخات وتهيئة الأجواء للتحول نحو دولة العدالة والديمقراطية.

إن نضالات الشعب الارتري في رفض الديكتاورية قطع شوطاً كبيراً خلال العقدين الماضيين ، ونقترب من تخطي مرحلة الديكتاتورية وأدلل على ذلك بحجم الرفض الواسع للنظام والمآسي الذي يتعرض له ابناء الشعب من الاضطهاد القومي والديني وكبت الحريات والهروب الجماعي وهلاك مئات الشباب في عرض البحار والصحاري والاسوار وكذلك رفض المجتمع الدولي لهذا النظام بحيث انه إما على علاقة سيئة أو قطيعة مع كل دول الجوار ومع المنظمات الاقليمية (الايقاد) وعلاقات سيئة مع الاتحاد الأفريقي ومشابه مع الاتحاد الاروبي وكذلك مع مجلس الأمن الدولي وأغلب دول العالم وجميع المنظمات والهئيات الدولية التي تضع ارتريا في رأس اولوياتها عند ادانة الانظمة الديكتاتورية. كل هذه منجزات عظيمة بحيث لا نشهد اختلافاً وانقسام بين الدول حول تقييم النظام في ارتريا وهي شواهد ودلالات في توفير مناخات التغيير ونضج المرحلة لانبلاج  فجرجديد في ارتريا.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=10403

نشرت بواسطة في يناير 21 2011 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010