اريتريا.. هل ينهار جدار الصمت؟
هشام باشري \19q-8.htm
اريتريا هذا البلد الافريقي الذي يعيش عزلة طوعية تبدو وكأنها نموذج لبلد شيوعي من ستينيات القرن الماضي اكثر مما هي دولة في القرن الواحد والعشرين، وهو ما دفع الصحافيين الغربيين الذين زاروها على قلتهم ان يطلقوا عليها تسمية كوريا الشمالية الافريقية وهي في الحقيقة اسوأ من ذلك بكثير.
ما يلفت نظر من يزورون اريتريا التي اصبحت عضوا بالامم المتحدة عام 1993 بعد انفصالها عن اثيوبيا، المناخ المعتدل والشوارع النظيفة، والهدوء المبالغ فيه، الذي يسود العاصمة (اسمرا) والذي يوحي بالامن والاستقرار، لكن هذا الهدوء الحذر يخفي وراءه اوضاعا مزرية ومأساوية تمس جميع مناحى حياة السكان اليومية، الذين يبلغ تعدادهم 5 ملايين نسمة، وهو ما اجبر ما يزيد على نصفهم على مغادرتها لاجئين او مهاجرين يتوجب على السكان، خاصة في المدن الرئيسة الانتظار لساعات في صفوف طويلة للحصول على حاجاتهم الضرورية في شكل حصص يومية من مخازن تديرها الحكومة بواسطة بطاقات تموين مقننة، بعد ان حاربت واقصت تماما القطاع الخاص واستبدلته بمؤسسات حكومية غير فعالة وفاسدة. تبدأ هذه الحصص من ابسط الاحتياجات اليومية وهو الخبز الذي يصرف بواقع قطعة واحدة في اليوم للفرد وزيت الطعام، والسكر، ولا تنتهي بالضروريات الاخرى التي تواجه البلاد نقصا حادا فيها، مثل الوقود بانواعه وكافة انواع المواد الغذائية، للحد الذي جعل سفارات بلدان غربية، على رأسها الولايات المتحدة الامريكية تشتكي علنا من صعوبة الوضع المعيشي وعدم قدرتها على تأمين حاجة موظفيها من هذه المواد. اما في الريف وخارج المدن الكبيرة فهنالك مجاعة حقيقية، ومعاناة صامتة يعيشها السكان، بعد ان انهارت الزراعة التقليدية التي كانت مصدر رزقهم الاساسي وتغطي حاجاتهم من المواد الغذائية، وذلك بفعل سياسات الحكومة غير المدروسة، مثل نزع الاراضي من اصحابها، واقامة مزارع جماعية غير مجدية للجنود على النمط الشيوعي .
ومما يزيد الامر سوءا ان الحكومة تكابر في الاعتراف بالمشكلة، وترفض السماح للمنظمات الانسانية التابعة للامم المتحدة بالعودة وتقديم المساعات الانسانية، بعد ان طردتها عام 2006 بحجة ان لها اغراضا استخبارية وانها ترفض دفع الضرائب للدولة. وكبديل للعون الدولي الذي فقدته اطلقت الحكومة ما تسميه سياسة الاعتماد على الذات في تقليد اعمى للشعارات، التي كانت ترفعها الدول الشيوعية قبل عقود، وهو ما لم يحدث اي تغيير ملموس في حياة الاريتريين، حيث مازال 81′ منهم وبعد 20 عاما من الاستقلال يعيشون تحت خط الفقر وفقا لتقديرات صندوق الامم المتحدة للتنمية، وهو الامر الذي يدفع الاريتريين الى عدم التوقف عن اجراء المقارنات بين حكومتهم الحالية وحكومة منغستو هيلي ماريام الشيوعية التي كانت تدير البلاد حتى 1991، وانهارت مثل غيرها من الانظمة الشوعية بانهيار الاتحاد السوفييتي.
تردي الوضع الاقتصادي ليس معاناة الاريتريين الوحيدة، حيث ان النظام الحالي ابقى على جميع الاجراءات التعسفية المقيدة لحركة الاريتريين التي ورثها من حكومة منغستو هيلي مريام، وهي الاجراءا ت التي شرعت بالاساس لمحاربة الثوار، وحرمانهم من الحصول على الدعم، سواء من الداخل او الخارج، حيث يتوجب على الاريتريين في الداخل الحصول على تصريح من السلطات الامنية للسفر من اي مدينة او قرية الى اخرى، والا سيتم ايقاف المخالف في احدى نقاط التفتيش الكثيرة ويتعرض للحبس والغرامة، كما تمنع حركة السيارات المدنية خارج المدن الرئيسة بعد السادسة مساء. وفي اجراء موروث ايضا من العهد الاستعماري فان على كل من يحل عنده ضيف تبليغ السلطات الامنية ببيانات الضيف كاملة والا عرض نفسه وضيفه للضرب والحبس، وهو ايضا الاجراء الذي تلزم به السلطات جميع الفنادق في البلاد.
اما من يرغب في زيارة وطنه من الاريتريين الذين يعيشون بالخارج فان عليهم استيفاء اجراءات يندر ان يكون له مثيل في اي بلد اخر في العالم، اذ يتوجب عليهم الحصول من السفارات الاريترية في اماكن اقاماتهم على تأشيرة دخول الى وطنهم، والا فانهم معرضون لخطر ايقافهم في المطار الوحيد او نقاط الدخول البرية الاخرى. وفي سبيل السيطرة على الشباب والفئات العمرية الاصغر، التي تمثل تحديا للحكومات تلزم الحكومة الشباب من عمر 18 عاما بالدخول الى الجيش لأداء ما تسميه الخدمة الوطنية، وهي الخدمة التي تمتد من دون سقف زمني محدد ولا تنتهي الا ببلوغ المجند عمر الـ55 سنة وهو بجانب اشياء اخرى ما جعل اريتريا اكبر مصدر للاجئين في العالم اليوم.
لم يكتف النظام بالتضييق على حرية الافراد فقط، لكنه يعمل كل ما يعتقد انه يمكن ان يضمن له استمرار استفراده بحكم البلاد وفق رؤية تبدو في ظاهرها تطبيقا للفكر الشيوعي المايوي ونظرية الحزب الواحد، وفي جوهرها ليست سوى فرض هيمنة اقلية متسلطة على كل مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، واقصاء ومحاربة كل من تراه يهدد هذه الهيمنة ايا كانت الوسيلة. استهلت الحكومة المؤقتة وحتى قبل ان تعلن اريتريا دولة مستقلة ما يمكن ان يطلق عليه حملات الارهاب والترويع، حيث قامت في نيسان/ابريل 1992 باختطاف الالاف من مدرسي اللغة العربية والتربية الاسلامية الذين كانوا يعملون في المدارس والمعاهد الاسلامية، والتي قامت باغلاق بعضها مباشرة واجبار البعض الاخر على تبني مناهج دراسية لا تشتمل على العربية والتربية الاسلامية. توالت حملات الترويع وتحت حجج مختلفة فتم اعتقال الاف اخرى بحجة انهم عملوا مع نظام الدرك، تلاهم المئات من اتباع بعد الكنائس الصغيرة التي ترفض الحكومة التصريح لكنائسهم بالعمل في اريتريا وابرزهم طائفة شهود يهوه. ثم جاءت الهزيمة العسكرية الماحقة في الحرب التي اندلعت مع اثيوبيا وما نتج عنها من انقسام في الحزب الحاكم ليتحول بعض جلادي الامس الى ضحايا، حيث تم اعتقال المئات بينهم وزراء، وقادة عسكريون، واعضاء لجنة مركزية بالحزب الحاكم وصحافيون ومن جميع الفئات.
والان بعد ان الهمت ثورات تونس ومصر الكثيرين في المنطقة، تشهد الكثير من الجاليات الاريترية في الخارج حراكا وتظاهرات تنادي بتغيير نظام اسياس افورقي واقامة نظام ديمقراطي يضمن التعددية السياسة والثقافية والاجتماعية ويلتزم بحقوق الانسان والحريات، ورغم ان هذه التحركات والمظاهرات شملت حتى الان مدنا عديدة مثل القاهرة ولندن وجنيف وواشنطن وحتى ملبورن في استراليا الا ان نجاحها في اسقاط النظام يبدو مرهونا بقيام تحرك جدي في داخل اريتريا وبمدى الدعم الدولي الذي يمكن ان يحظى به على قرار ما حدث في ليبيا، حيث لا يتوقع ان تكون ردة فعل النظام الاريتري اقل عنفا وقسوة مما هو الحال في ليبيا او سورية.
‘ كاتب اريتري
نقلاً عن صحيفة القدس العربى (لندن )
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=15728
أحدث النعليقات