الأرض لا تشرب الدم
فتحي_عثمان
هذا المقال تكملة لسابقه تحت عنوان قادة تيغراي من حفرة لدحديرة ويتناول معضلة وتبعات التغيير المدعوم من الخارج، وبالذات التغيير الذي يدفع فيه غير الارتريين “دم غالي ونفيس”. منعني من الاسترسال في عرض الفكرة في المقال الماضي الخوف من الإطالة والإملال.
تكلفة التغيير المدعوم من الخارج والذي تسيل فيه دماء شركاء أجانب لا يمكن تحملها وتفتح الباب للتبعية الكاملة في أحسن الأحوال.
عالمياً، هناك مثال شراكة الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية؛ فمن أجل تخليص القارة من النازية والفاشية دفعت الولايات المتحدة إضافة إلى المال “الدماء النفيسة”، وكان لها بسبب هذا الإسهام الكبير الكلمة العليا كما سلفت لها اليد العليا في شئون دول أوروبا مجتمعة أو منفردة. هذا تاريخ معروف، ولنا في تاريخنا القريب مثال حي لا زالت آثاره تنبض بالحياة.
المعروف تاريخياً أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي “الوياني” نشأت تحت كنف ورعاية الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ورضعت المبادئ والتكتيك الثوري في أودية الساحل، وحالما أشتد ساعدها دبت الخلافات المبدئية والعملية بين الأم والربيبة وكانت العلاقات بينهما تصل إلى حد القطيعة الكاملة في بعض الأحيان.
بعد المؤتمر التنظيمي الثاني للجبهة الشعبية في عام 1987 تغيرت الاستراتيجية العسكرية للتنظيم بالانتقال من حروب الدفاع إلى حروب الهجوم الاستراتيجي وكانت تباشير ذلك التحول تحطيم جبهة شمال الساحل المعروفة باسم (نادو إز) في عام 1988 وتحرير دقمحري ومصوع وصولا إلى تحرير اسمرا. التنسيق العسكري بين الجبهتين كانت في ذراه العليا وإن كان بعض مقاتلي الوياني يعتبرون أن الجبهة الشعبية تستخدمهم ك “درع بشري” لامتصاص هجمات جيوش الدرق المتجهة نحو الشمال، وكانوا يقولون بأن الجيوش الاثيوبية عندما تصل إلى ارتريا تصل منهكة وجريحة فتهزمها الجبهة الشعبية وتستأثر بانتصار سهل. رغم ذلك، أفضى ذلك التنسيق العسكري العالي إلى وصول “القوات المشتركة” للجبهتين إلى اديس ابابا وهروب الدكتاتور الأحمر منغستو هيلي مريام إلى الخارج. غني عن القول هنا أن الجبهة الشعبية بقيادة اسياس أفورقي كانت تنظر الوياني كتنظيم تابع ولا يسمح له بأن يشب عن الطوق رغم أنه أصبح حاكماً لإثيوبيا.
عملياً احتفظت الجبهة الشعبية بقوات ضاربة لها في العاصمة اديس ابابا واستخدمتها كسيف مسلط على رقبة رئيس الوزراء والحكومة الاثيوبية حتى لا تنكص الوياني عن ترتيبات الاستفتاء وتنكر نتيجته وتعرقل الاستقلال القانوني لارتريا، ولم يتم سحب هذه القوات الضاغطة الا بعد اعلان استقلال ارتريا ورفع رايتها في الأمم المتحدة. وجود قوات ارترية مسلطة كسيف ديموقليس على رقاب حكام اثيوبيا الجدد أعطى اسياس اليد العليا في الشراكة بين القوتين واعتمد على هذا الوضع في فرض كلمته على العاصمة الاثيوبية وحكامها.
ويمكن ببساطة معرفة ذلك من خلال مقابلات اسياس المتعددة والتي تتناول اثيوبيا والوياني فهو عندما يتحدث عن الدستور الذي فصلته الوياني لإثيوبيا يقول بالحرف الواحد: “نحن حذرناهم وقلنا لهم أن دستوركم هذا سوف يمزق اثيوبيا إلى أوصال” وسائر تعليقاته على الشأن الاثيوبي تكشف ذلك النزوع المتعالي الذي فرضته “شراكة الدم” بين الطرفين والانتصار الذي حققاه معاً في ارتريا واثيوبيا. فهو كان يرى نفسه وبحسب الشراكة صاحب رأي أساسي في الشأن الاثيوبي الداخلي وقضاياه المصيرية وهو ما بدأ يبعث على التململ والضيق خاصة عند نظيره ملس زيناوي.
ولكن تلك الشراكة انفضت وكان انفضاضها بالدم كذلك، وللأسف خاض البلدان في أنهر الدم في حرب بادمي وغيرها.
في هذه الحالة الخاصة بنا نحن إزاء مثال تاريخي كان فيه التغيير مدعوم من الخارج وأريقت فيه الدماء وجعلت الشريك الأكبر يفرض وصايته وسطوته على الشريك الأصغر حتى طفح الكيل وسال الدم.
هذا هو السيناريو الذي يريد تكراره المنادون بفكرة التغيير المدعوم الخارج، الغريب أن يطرح هذا المقترح والناس لم تتخلص بعد من عذابات الشراكة الماضية وأثارها الدامية.
لست سياسياً من الذين يؤمنون بالقدرة السحرية على تربيع الدوائر وتدوير المربعات والعمل بخطط “اليوم باليوم” وترك ما سوف يستجد من أوضاع إلى الغد، ويسمح لي هذا النقص (الحميد) في هذه الحالة بالنظر تحت قدمي لأري أن الأرض لا تشرب الدم
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47201
أحدث النعليقات