الإعلام المغرض والإعلامي المغرض أيضاً
بقلم: بشرى بركت
أتذكرون يوم أن كنا عطشى للمعلومة؟ حتى لو كانت مغرضة!!!!
كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي حين كنا طلابا ولا نعلم عن وطننا وإرثنا غير الخريطة التي كانت على بعض الكراسات، حيث كانت واحدة من الأربعة عشر محافظة إثيوبية وكنا نلونها بلون مختلف فيجد ذلك أبوينا ويصادران منا الكراسات التي ستودي بنا إلى متاهات المجهول، ثمّ يبدلانها لنا بدفاتر أخرى جديدة ويحذراننا من ذلك الفعل الخطير.
أتذكرون (ومازلنا في الثمانينيات) الشيوخ والمعلمين ممن هم في غياهب المجهول داخل سجون الطاغية اليوم؟ أتذكرون أيامهم حين كانوا يحاولون على استحياء التركيز على جغرافية الإقليم الرابع عشر حينها. فيقومون بتدريس كتاب الجغرافيا للفصل الرابع لعدة فصول متذرعين بأسباب لا يمكن تبريرها الا عند صاحبها، كان ذلك لأنّ الكتاب كان عن الإقليم المسمى إرتريا والذي كان ضمن الأقاليم الإثيوبية الأربعة عشر.
في تلك الأيام البغيضة، لم يكن لنا أية وسيلة أو مصدر يوصل الينا المعلومة الثابتة منها تاريخاً وجغرافيا وديمغرافيا، والمتغيرة منها متمثلة في مجريات الأحداث، إلا ما حاول البعض الوصول إليه عبر بعض الإذاعات كالبي بي سي ومونتي كارلوا وصوت أمريكا ثم إذاعة الكويت في نشراتها الصباحية.
كنا نتسامر قبل بداية الدراسة بما استرقته أسماعنا من راديوهات آبائنا وأمهاتنا المحاولين إبعادنا عن أي شيء من هذا القبيل حتى لا نقول شيئاً منها فجلب لأنفسنا وأهلينا النوائب.
تم الإشارة إلى المقدمة أعلاه للتنبيه بأنّ قضيتنا كانت دائما تعاني من التعتيم الإعلامي وكانت دائما ضحية التّستّر الإثيوبي والمماحكة العربية والدولية على حد سواء.
وحالنا اليوم غير بعيد عن حالنا بالأمس إلّا ما ساء منه واستبشع، فتجدنا نجمع في تسمية أنّ إرتريا دولة مغلقة وأنّها العدوّ الأول في العالم لحرية التعبير، ونؤكد على ذلك آلاف المرات وندعي أنّ الجرائم في إرتريا أكبر من كلّ الجرائم التي يراها العالم، إلا أنها تعاني من تعتيم إعلامي داخلي ممنهج يصاحبه عدم المحاولة من الإعلام العالمي للوصول الينا والى قضيتنا، حيث يرى فيها أنها غير ذات أهمية وأمرنا غير جدير بالإهتمام لأن البدائل قابلة التسويق لديهم أكثر وأهم ولا يسأل عن هذا إلا لوبي البترول والسلاح حول العالم إذ لا شك أنهم هم الذين يملكون زمام الأمور في الإعلام الدولي ولا بترول لدينا ُينهب ولا رصائد دولارات لدينا تنفق في شراء الأسلحة.
وعليه نجد أنفسنا قليلي الحيلة، نتملّق الإهتمام من كلّ وسيلة إعلامية أيّا كانت إن ارتضت بتضييع وقتها في الإهتمام بشأننا والتي إن فعلت لها كلّ التقدير ونرفع لها القبعات والرؤوس التي تحمل القبعات أيضاً. ونحن في هذا الوضع المزري وبالرغم من تأكيدنا على أنّ كلّ الوسائل الإعلامية لها أجنداتها الخاصة وتمويلها لا يكون إلا دعما لتلك الأجندات فإننا ضعافٌ بحيث لن نستطيع أن نخترع إعلاماً غير ما نرى ورغم يقيننا بأنّ كل الإعلام مغرضٌ وموجهٌ بنسب متفاوتة فإنّنا اضعف من أن نقيم إعلاماً مثالياً بديلا للمتاح، وعليه لا خيارات أخرى لنا غير التعامل مع من يحمل لنا شيئاً من الأمل.
أمّا واقعنا حتى الآن يقول بأنّنا لم نجد بجوارنا لا المغرض بنسبة أعلى من الإعلام ولا الآخر المغرض منه بنسبة أقل، فقد كنا ومازلنا نتملّق كإرتريين أي إعلام يصل بنا إلى سطح الأحداث ومن ثمّ إهتمام الدوائر الدولية بأمرنا وأظن أن لا خلاف على هذا الهدف إن لم نتخلف عن ركب مناصرة شعبنا.
وقبل الخوض في أمر الجدل غير الموفق الذي أتى حول التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة للحراك الشعبي الإرتري حول العالم والذي أتى دعماً للموقف البطولي لمجلس ادارة مدرسة الضياء الإسلامية بقيادة الشيخ الفاضل موسى محمد نور – نودّ أن نشير إلى أن صحيفة هاآرتس الإسرائيلية رغم العلم المؤكد بتوجهاتها تعتبر من أكثر الصحف إهتماما بالقضية الفلسطينية إيجاباً ومن أكثر المصادر التي تبنى علينا المواقف الفلسطينية ممّا يعني أنّ صحيفة تابعة للكيان السارق للحرية والأرض الفلسطينية أيضاً يتمّ الإستفادة من موقفها الإيجابي إن وجد.
لا تظنونني محاولاً أن آتيكم بدليل قاطع يفنّد إتهام الجزيرة بالتناول المغرض فهذه حقيقة لا تحتمل التأويل والوضع والتحالفات في المنطقة يثبتان ذلك. ولكن هل هناك خيار آخر غير الذي أمامنا؟ إذن نحن أمام أفضل ما يمكن حدوثه لنا حيث أنّنا في مسيس من الحاجة إلى ذلك الإهتمام حتى لو كان من الهاآرتس – نسبة إلى المثال المذكور.
الأمر – أيها المتمسكون بالمواقف التقليدية في الأوضاع غير التقليدية – يبنى على أهمية أن لا يتمادى النظام في استئصال بذور الأمل في بلادي وبلادكم، وفي هذه اللحظات أيّ حجر يتم إلقاؤه بإتجاه فضح جرائم هذا النظام هو في صالح السعي لإيقافه عند حده أولاً ثم رفع سقف المطالب لشعبنا المقهور في الداخل، وذلك حين يرى العالم يعج بالنشاط دعماً لأمره . ثمً ماذا يعيب أن تلتقي مصالحي بمصالح الجزيزة وكل الجزر حين يتوحّد عدوي مع عدوّهم. أليست هذه هي الوسيلة المثلى والطبيعية لصناعة التحالفات.
سؤال آخر أوجهه لإخواني وأخواتي أصحاب المواقف الحادة والأصوات العالية وقد انتفضوا أمام نشر فيديو لمظاهرة هنا او هناك صوّره أحد الهواة ولم يكن هناك عمل محترف وبتوجيه فرق التغطية باتجاه أي من المظاهرات كما تفعل القناة محور الجدل (وهذا استمرار لنهج التعتيم وعدم الإهتمام واللوم على الجزيرة مازال قائماً)، في وقت صُمّت فيه جميع الآذان الإرترية وقرّرت أن لا تسمع إلا لصوت الوحدة والعمل الموحد دعما للرفض الشعبي لقرارات الطاغية في أسمرا. والسؤال هو لم هذا الصوت النشاز في وقت الإجماع الوطني؟ لم هذا الإختلاق للإختلاف تطابقاً مع رؤية النظام في أسمرا الذي باع الأرض والعرض للشركات (الدول) لاستغلال ثرواتنا من خلال استعباد ابنائنا، وللدول (الشركات) للتلاعب بمصائرنا واستعداء الشعوب في جوارنا التي يتم تقتيلها ليل نهار انطلاقا من أرضنا. كيف يمكن تفسير هذا الا إذا كان من قبيل التلاحم مع النظام في وقت هذا الحراك النادر. هل هذا يعني أنكم تسطّرون شهادة للتاريخ حين تنهمر دموع الأطفال وتتعالى صرخات الثكالى وتوصد أبوب السجون على الكهول، ويوصم الختمي الغلبان بالإخواني (رغم تحفظي على كلمة “يوصم”) وهو الذي تعرفون حقا وصدقا صوفيته كما عشتموها بأنفسكم في يومياتكم الأسمراوية، وأنّه لا تأتيه الأخونة ولا الدين المسيّس لا من أمامه ولا من خلفه ولا من فوقه ولا من أسفل منه. لديكم كلّ اليقين في هذا.
من أين لكم بهذه الإزدواجية إذن وأنتم قد عانيتم ما عانيتم بسبب لسانكم العربي ووجهتكم المبنية على الثقافة العربية واستُشهد في ساحات نضالكم هذا أغلى الرجال والنساء ومازالت صور دمائهم في الأقبية ملئ أعينكم ومازالت صور جثامينهم في الأودية ملئ جفونكم. ألستم أنتم محاربي اللغة العربية، ثم ألم يكن تهجيركم ضمن هذه المنهجية التي سعت لإستئصال اللغة والثقافة العربية بإبعادكم. أنسيتم معلمي اللغة العربية الذين تم إستئصال نشاطهم تحت ناظريكم ثم أين أبعري واين جزائري وأين شهداء فورتو الأولين والآخرين. ألم يذهبوا جميعا ضحية قضيتكم الأولى. ثم أنظروا اليوم هل قال شيخي وشيخكم غير ما يصب في لب قضيتكم ألم يكن نداءه يدخل في إطار تعليم اللغة العربية.
إذن أي نشاط من قبيل التركيز على قضيتكم الأم ضمن هذا الحراك الوحدوي الثوري النادر لا يمكن تركه يكابد العزل والإهمال وأنتم رموز القضية تبذلون أزمانكم وأزمان متابعيكم ومريديكم في أمور إنصرافية كالقول بأنّ هذه القناة لم تهتم بأمرنا إلّا ضمن أهدافها بالرغم من أنّني أراها لم تهتم بأمرنا بعد. ولذك إخواني الكرام أناشدكم أن لا تفسدوا مسعاكم باتجاه دولة القانون التي يكون فيها للغة العربية والثقافة العربية مكانتهما المرموقة، وأنّ أيّ دفع منكم باتجاه إبراز القضية للإعلام الدولي سيكون له أثره الإيجابي البالغ. وعليه يرجى منكم تدارك الأمر والمساعدة في السعي لجلب الإهتمام الإعلامي الدولي بالإضافة إلى الإهتمام بشباك الأمل الصغير الذي كانت منكم بعض المحاولات لصده لتعود القضية إلى الدرك الأسفل من الظلمات كما كانت. ولا يستوي الأمر القائل إن تهتم هذه القناة التلفزيزنية بأمرنا فهي مخطئة وإن لم تهتم أيضاً مخطئة.
أعلم انّ لكم نضالاً مستمرّا ومقدّرا وتعلمون أننا نركن إليكم في مسعانا للوصول إلى دولة الحريات فاتركوا الإنصرافيات وانظروا إلينا فنحن ننتظر منكم الكثير.
بشرى
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=42443
اخى بشرى سعدت جدا بهذا المقال العميق لانه يحوى معنات النخبة ان وجدت من ابناء جلدتنا حتى هذه الفرصة التى اتيحت لهذا الشعب الغلبان اردو ان يعكرو صفوها وان يقفو تماما ضد تطلعات هذا الشعب الذى لايعنيه ولا يعلم الكثير من فلسفة وقلت ادب هؤلاء الابناء هم مننا ولكن لا اقول الا قلت ادبهم واجترامهم مع شعبهم هو الذى دفعهم بهذا الاتجاه الذى لا اجد له اى مبرر غير كما قلت قلت ادب مع الذات ومع الغير شكرا بشرى اتمنا ان يقرؤ مقالك هذا بعين فاحصة .