الترابي : رجل يلدغ من الجحر مراراً
عمر جابر عمر
ملبورن -أستراليا
06-11-2005
كثيرة هي المآسي التي مر بها الشعب الإريتري وكبيرة هي المحن التي واجهته خلال مسيرته النضالية ولكنه صبر وثابر وضحى بكل ما يملك حتى حقق هدفه ونال حريته .
الشعب الإريتري لا ينسى من وقف معه في فترة الكفاح المسلح وسانده وأيده حتى لو كان بكلمة حق ، وفي هذا الاتجاه فأنه لن ينسى موقف الشعب السوداني الذي قاسمه لقمة العيش ووفر له المأوى والحماية ووجد الثوار واللاجئون في السودان وطناً ثانياً . ولا ينسى الإريتريون الأقلام الشريفة من الصحفيين والكتاب الذين دافعوا عن القضية الإريترية ونشروا عدالتها وطالبوا بضرورة تأييدها .
وبالمقابل فأن الإريتريين يذكرون بمرارة وألم الطعنات التي وجهت إليهم من الظهر – ولأنها كانت من ( ذوى القربى ) فأنها كانت أشد مضاضة . لا يذكرها الإريتريون من أجل الانتقام وتصفية الحسابات – فذلك ليس من طبعهم – ولكن للتذكير من يحاول تكرارها وللاستفادة من دروسها .
* كانت الطعنة الأولى من نظام عبود الذي سلم المناضلين الإريتريين إلي إثيوبيا .
* ثم جاءت الثانية من رئيس الوزراء ( الصادق المهدي ) عام 1965م حين قام بمصادرة أسلحة الثورة في ضاحية ( بري ) .
* والثالثة كانت بيد ( نميري ) ومستشاره للأمن ( عمر محمد الطيب ) وذلك حين قام بتجريد جيش التحرير من أسلحته عام 1981م ( خمسة عشر ألف مقاتل ) وصلوا إلي الحدود السودانية أثر أزمة داخلية في جبهة التحرير ولم يصدق نظام نميري أن ( الفريسة ) جاءت تمشي علي قدميها ) !! .
* أما الطعنة الرابعة فكانت بعد التحرير – 1991م المواقف السابقة كانت في مواجهة إثيوبيا – أما الأخيرة فكانت في إطار الخلاف الداخلي بين الإريتريين .
كانت الفكرة فكرة الشيخ حسن الترابي – وكان القرار قراره بل وحتى التنفيذ أشرف عليه بنفسه ! .
أستدعى الشيخ الترابي قيادات المعارضة الإريترية وطلب منهم الدخول إلي إريتريا والعمل من داخل الجبهة الشعبية . لم ينتظر الشيخ طويلاً ولم يستمع إلي قيادات المعارضة بل أمر قوات الأمن والجيش بمصادرة ممتلكات وأسلحة وعتاد كل التنظيمات وخيرهم بين البقاء في السودان كلاجئين أو الدخول إلي إريتريا .
كان الترابي في قمة دعوته بالرسالة الحضارية وكان يعتقد بأنه بعد أن استولى علي السلطة في السودان لابد من نشر الرسالة إلي دول الجوار ( إريتريا – إثيوبيا – الصومال ) وبعد أكثر من عشرة أعوام سقط الرجل سياسياً وخسر السلطة والسطوة في بلده وفي اعتراف نادر من نوعه قال الترابي في لقاء مع قناة ( الجزيرة ) منذ أسابيع قليلة : ( لقد فشلنا في بناء الدولة الإسلامية – لم نعرف المضمون الحقيقي للرسالة ولم نفهم أولوياتها ولم نستوعب النهج الذي يجب علينا إتباعه – تكالبنا علي السلطة والثروة وحرمنا منها الآخرين — حار بنا الجميع وحاربونا وكاد السودان أن يفقد وحدته واستقراره ومستقبله — ) وبعدها بدأ الشيخ يدعو إلي الديمقراطية والشورى ويبشر بالتعددية ويطالب بالحوار وسيلة لحل كل خلاف ! يالها من عودة للوعي ويقظة للضمير وتوبة يؤجر عليها في الدنيا والآخرة ( خير الخطاءين التوابون ) ولكن للتوبة شروطها – كما تعلمنا في المدارس – اللهم آلا إذا كان الشيخ قد جدد فيها وأضاف إليها وحذف منها فهو – إنصافا للرجل – مجدد ومجتهد في الفكر الديني خلال العقود الأربعة الماضية .
من ضمن شروط التوبة التي قرأناه في دروس الدين :
1- أن تكون التوبة عن قناعة تامة وإيمان لا يتزعزع ببطلان وخطأ الفعل أو القول الذي يريد أن يتوب عنه .
2- أن يقسم ويتعهد بأنه لا رجعة مرة أخرى إلي ذلك الفعل أو القول وأن يتوقف تماما عن ذلك .
3- أن يبدأ صفحة جديدة قولاً وفعلاً ويغير مسلكه ويتبع طريقاً لا يعود به إلى ما سبق التوبة عنه .
ماذا حدث ؟
في مقابلة نشرتها صحيفة ( الشرق الأوسط ) أجراها الصحفي الإريتري ( عبد العليم حسن ) قال الترابي رداً علي سؤال عن موقفه من مجموعات المعارضة الإريترية التي يحتضنها السودان : ( رأينا أنه لا خير في أن تبقى أقلية مقدرة خارج بلادها لا تساهم في بنائه الفكري والتعليمي والاقتصادي ولا خير فيها فإذا بقى إريتري في السودان مرحباً به ويعتبر وشيجة العلاقة بين البلدين ، وهي المطلوبة ، وإذا عاد إلي بلده يستقبل حراً ويلقى كسبه في الحياة ) !! يا إلهي ! هذا الرجل لا يقرأ ولا يتابع أنباء دولة بجواره ؟ هذا الشيخ لا يحس بمشاعر ومعاناة شعب أمامه ؟.
بعد التحرير عاد إلي إريتريا أكثر من مائة ألف إريتري نصفهم من اللاجئين الذين استجابوا لبرنامج العودة الطوعية والجزء الأخر كان من المواطنين الذين رفضوا الغربة وضغوطها وباعوا كل ما يملكون وقرروا العيش في بلدهم المستقل . و آخرون جاءوا للاستثمار والمساهمة في بناء الدول الوليدة . وهناك تنظيمات سياسية قامت بحل نفسها وذهبت إلي أسمرا لفتح صفحة جديدة بالإضافة إلي المئات من المناضلين والطلاب والعمال .
ماذا حدث ؟
نصف هؤلاء اللاجئين عادوا إلي السودان لأنهم لم يجدوا ما يعيشون به أو ما يمكن أن يشكل مصدر دخل لهم – لا مزرعة – لا مرعى – ولا تأهيل للقيام بأي عمل .
المستثمرون واجهوا قوانين وتشريعات سلبتهم ما كانوا يملكون ناهيك عن أرباح أو أعمال تحفظ لهم علي أقل تقدير ما حملوه معهم _ الطلاب والعمال لم يجدوا وظيفة بسبب التفرقة الثقافية والسياسية . وكانت الحرب مع إثيوبيا القشة التي قصمت ظهر البعير _ أصبحت الهجرة المعاكسة إلي السودان هي المألوف هل شاهدت يا دكتور برنامج بثه التلفزيون السوداني أسمه ( رحيل شعب ) ؟ وبعد هذا كله بل ورغم ذلك كله تأتي لتقدم نصيحتك ؟ أم هو اجترار لمواقف ثبت فشلها واعترفت أنت بذلك أم هو تأكيد وتكرار لأقوال وأفكار ما زالت تعشش في ذاكرتك وتعيدها بتأثير من أحلام يقظة تتمنى أن تحقق بعد أن أثبت الواقع رفضه لتلك الأحلام – الأوهام ولكن للأنصاف فان هناك من بقى في إريتريا ولم يشارك في الهجرة المعاكسة – أتدري يا دكتور السبب ؟ أنهم خلف القضبان – آسري بلا جريمة ومختطفون لا يعرف ذويهم عنهم شيئا . بالطبع لم تسأل عنهم ولم تسأل عن أشياء كثيرة – انبهرت ببعض المظاهر – وشعرت بفخر لأنك صليت بالمسلمين في ( مصوع ) أنت تعرف يا دكتور أن عشرات الألوف من المسلمين يصلون يومياً في المسجد الأقصى ورغم ذلك فأن الملايين من المسلمين يتوجهون بالدعاء إلي الله سائلين تحرير الأقصى ! .
ولكن السؤال لماذا ذهب الترابي أصلاً إلي إريتريا ؟
ماذا يحاول أن يجني وماذا يستفيد صاحبه ( أسياس ) من زيارته ؟
لقد أكتشف صديق الثورة الإريترية الأستاذ ( سيد أحمد خليفة ) تلك العلاقة في وقت مبكر – ولأنها كانت غير عقلانية ولا يسندها منطق فقد كان السؤال الذي طرحه الأستاذ ( سيد احمد ) هل أسلم أسياس أم كفر الترابي ؟ وما يزال السؤال مطروحاً .
ولكن لنبحث ونسأل : ماذا يجمع بين الرجلين ؟ لكل منهما رسالة – أعترف الترابي بفشل رسالته وما يزال أسياس يكابر ويرفض الاعتراف رغم أن رسالته دفنت منذ زمن .
* الترابي فقد السلطة والقرار – أنفض عنه مريدوه وحواريوه وأصبح يبحث عن مركب تخرجه من الظلمات إلي شاشات التلفزيون وكاميرات الصحافة ليقول : أنا موجود وأسياس مازال في السلطة ، ولكنه فقد أصحابه وهرب منه رفاق السلاح وأصبح معلقاً بقشة يعتقد بأنها تنقذه من السقوط – وبهذا المعنى فانه لقاء بين رجلين يحاول كل منهما أن يلعب دوراً وهو خارج دائرة التاريخ وأن يسمع صوته وهو تتقاذفه الأمواج وتعصف به الرياح فلا مجيب ولا منقذ .
- · ربما كان للتركيبة النفسية والفكرية لكل منهما أثر علي سرعة لقائهما وسرعة خصامهما ثم سرعة اللقاء مرة أخرى لكل منهما يتمتع بشخصية مركبة لا تؤمن بالعمل الجماعي ولا بالمؤسسات . يجمعهما طبع التدخل المباشر في كل صغيرة وكبيرة وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بهالة المؤسس والموجه والمرشد والمعلم ! ذهب الدكتور إلي إريتريا في جولة سياحية وخرج علينا بنصيحة أثبتت التجربة الماضية أنها بعيدة عن الواقع ولا تنسجم مع مجريات الأحداث وطوال فترة وجوده في إريتريا لم يفتح الله عليه بكلمة حق واحدة إمام السلطان الجائر !
أين الديمقراطية – أين الشورى – أين التعددية – أين الحوار يا دكتور ؟ أم إنها حالة قال عنها الدكتور ( منصور خالد ) تعكس نموذجاً للنخبة السودانية التي أدمنت الفشل ؟ .
هل تقبل منا نصيحة يا دكتور ؟
أترك الإريتريين وشأنهم – أرجع إلى قرية ( ود الترابي ) وأعتكف هناك – وتجد الجو الطبيعي النقي والناس الطيبين – وأنت هناك : أكتب وأكتب وكتب – ولا تكترث باتهامات الخصوم بالزندقة والكفر – ربما – ربما ، بعد خمسة عقود يأتي جيل يقرأ ما كتبت ويقول : لقد حاول الرجل الاجتهاد – لقد بذل الرجل جهد لتجديد الفكر الديني !!.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6547
أحدث النعليقات