التنظيمات القبلية : البحث عن التوازن داخل الكفة الواحدة
صالح كرار
رأيت لما وصلت اليه الساحة الارترية من التردي ان اتناصح واخوتي الارتريين فاالمناصحة واجب ديني واجتماعي ووطني …
خاصة وقد انتقلنا من الانشطارات الاميبية للتنظيمات الي التنظيمات القبلية وهو ايضا حتما وبلا شك سيؤدي للانشطارات القبلية . إنه تطور عجيب وإرتقاء مريب ؛ فرغم ان الانتماء للقبيلة امر بديهي وكذلك الولاء الاجتماعي لها إلا ان تحول القبيلة الي الاطر السياسية والتنظيمية امر غير موضوعي وغير واقعي .
ثم انه نعم قد يشكل ابناء قبيلة ما اغلبية في تنظيم ما ؛ أما ان ينشّأ التنظيم او الحزب علي اساس القبيلة فهو ما لا يستحب .
ولست ادري مالذي يسوق هؤلاء الي )اللبننة ( ؟ !!! ولا اقول )الصوملة( !!! ؛ ألا يرون ان لبنان الذي يعتبر من البلاد التي نشأت عليها الحضارة الانسانية وهو من أوائل البلاد العربية تحضرا في العصر الحديث ؛ لكنه من البلاد المتردية سياسيا والممزقة اداريا والمبعثرة اجتماعيا ؛ فكيف ونحن لا نبلغ معشارهم علما ولا عملا ؟ !!! .
لا أحد من أشقاء الارتريين وأصدقاء المعارضة يكون قد تدخل في شئونهم فالاصدقاء يتعاملون مع الاطار الذي يقدم لهم فلا يستطيعون ان يفرضوا شيئا او يتدخلوا ، ويبقى منشأ التنظيمات القبلية نابع سلفا من ظروف ذاتية اي كان ، ولاسباب كثيرة لا اريد ان اخوض فيها أراها فقط تتلخص في البحث عن الوزن داخل كفة الميزان الواحد ، إذ القبائل كلها في كفة واحدة .
ورغم إنني حاولت ان ابتعد عن هذا الموضوع الشائك عند الارتريين والحساس الا ان ما رأيت من المرارة عند كل من يتحدث فيه من كل أصناف الارتريين وما أصابني من تحسر واسف جعلني أعدل عن الهروب وأخط هذه الاسطر . ورغم انني اعلم ايضا ان البعض جاهز حكمه وتصنيفه حتى انني أحسب ان الكثير من الاقلام الأمينة والمسئولة تنئ بنفسها وتبتعد عن الكتابة في هذا الجانب الخطير لانهم يعلمون حساسيته وتعقده فيخافون ان تأوّل آرائهم وتصرف عن مقاصدها الخيرة ومعانيها النبيلة .
وتحضرني قصة عن مرحلة الثورة والنضال الارتري رواها لي من أثق به وبالمثل يحلو الكلام.
قال الراوي : في منتصف العقد الستيني وبعد تنامي جبهة التحرير الارترية اجرت الحكومة الاثيوبية تغييرا في ادارة ” اقليم ارتريا ” فنقل لؤول منقشا ” الامير منقشا ” وجاء بدلا عنه الامير اسرات كاسا ” لؤول اسرات كاسا ” حاكما لاقليم ارتريا .
وكان هذا الاسرات جبارا غليظا بطاشا تهابه الاحباش ايما مهابة ، وقد سبقته دعاية جبروته والترهيب منه بحيث كل شئ في اسمرا كان يرتعد عند قدومه .
وباعتبار ان مهمته الاساسية كانت تتلخص في انهاء الثورة بادر فورا في الدعوة الي اجتماع لبرلمان الاقليم .
وتكلم في كلمات حاسمة ملؤها التهديد والوعيد : هل ستسلمون ابنائكم ام لأ ؟!!! .
واجاب الجميع بلا تردد ولا تفكير سنسلمهم فورا !!!
قال الراوي : ثم ان اعضاء البرلمان اسقط في ايديهم وطلبوا بطرق استرحام عبر المقربين واستعطاف ان يمد لهم لمدة ثلاثة اشهر للتسليم ؛ وجاء الموعد وليس لديهم ما يفعلون ؛ لكنهم اجتمعوا وتقدموا بطلب جديد الي الحاكم هو ان يكون الامر قبليا ؛ وان يعقد اجتماع عام لعموم ارتريا يحضر فيه سادات القبائل واهل الرأي والدين . تلتزم بعد ذلك كل قبيلة بان تسلم أبنائها وتعطي العهود بذلك .
وافق الامير وحدد موعدا يجمع فيه سادات القبائل وأهل الرأي والدين بالاضافة إلى أعضاء الحكومة والبرلمان .
قال الراوي : لم يتخلف أحد طلب منه الحضور واجتمع خلاصة الارتريين عند الامير .
كان الجو يسوده الترهيب والكثير من تعظيم الامير والاعلان عن جبروته ، وخشعت الاصوات في قاعة الاجتماع كوصف يحاكي يوم الغاشية فلا تسمع الا همسا .
قال الراوي : كان البرنامج ان يقوم من يؤذن له بالحديث فيقف عند المكرفون فيعظم ويبجل من امر الامير والامبراطور هيلي سلاسي ملك اثيوبيا حينها ويعظم حكومة اثيوبيا ويطري في ذلك بكل أشكال المبالغة في خشوع وتذلل ثم يقول بعد ذلك رايه بعد التعريف بنفسه طبعا .
وتحدث مبتدئا رئيس الكتلة المسيحية في البرلمان وبعد ان أطنب في إطراء ومديح الامير وكان عن بطشه وارهابه ثم قال متحدثا بلسان كل القبائل المسيحية ؛ ان القبائل المسيحية ليس لديها أبناء عند أولئك الخارجون عن القانون الا أفرادا قد يعدون علي الاصابع وهم في الاغلب من المجرمين ثم انهم ليسوا في أرضنا إنهم يعيشون في المديرية الغربية ” بركة والقاش ” فهم لا يستطيعون ان يعيشوا في أرضنا وبيننا ، ونحن نتعهد بواسطة أسرهم ان نحضرهم ونسلمهم أمواتا او أحياء وبهذا نعطي عهدنا وميثاقنا للامير .
قال الراوي : ثم ان متحدثي القبائل قد تزاحموا علي المكرفون يرددون نفس الكلمات ، فقالوا جميعا : ان أولئك المتهورون من ابنائنا ليسوا معنا في ارضنا وانهم في بركة والقاش وتعهدوا ان يحضروهم امواتا او احياء بواسطة اسرهم ويعطوا بذلك عهدهم للامير حتى انتهوا جميعا !!! .
قال الراوي : وبقي الدور علي ممثلي المديرية الغربية بركة والقاش ، ويعلق فيقول : يبدوا انهم لم يجتمعوا ولم يقرروا علي ما يتفقون عليه قولا ولا قائل ربما لعفويتهم المعهودة ، ثم ان الجريمة قد ثبتت عليهم بشهادة الجميع فالقبائل قد نفت وجود الثورة في ارضها وانهم يسمع بهم فقط في بركة والقاش . المهم عم الصمت الممل القاعة ولم يجرؤ أحد ان يقوم متحدثا باسم المديرية الغربية .
لكن صوتا جهوريا كسر ذلك الصمت دون ان يمر بكل تلك البروتوكولات ودون ان يقوم من مقعده :
يا اسرات لن نسلمهم !!! .
قال الراوي ضجت القاعة
يا للهول … أهكذا تخاطب الامير … اسكت … قم … وامسك البعض براسه من شدة التهويل يراقب بتعجب !!!
لكن الامير اسرات كاسا امر بالسكوت والهدوء ، فصمت الجميع .
ثم أردف ذلك الشيخ قائلا : يا اسرات ان الذين اسسوا الثورة هم اناس كانوا يجلسون في مقعدك هذا – اشارة الي الشيخ ادريس محمد ادم واخوانه – ثم ذهبوا الي الخارج فجاؤوا بالسلاح وعبئوا أبنائنا وحرضوهم علي الثورة . وابنائنا اميون لا يستطيعون ان يفعلوا شيئا بدون أولئك ، فان انت عدت بالذين ذهبوا من هنا من مقاعد السلطة لا يجد ابنائنا ما يفعلون ولا يعرفون ما ينهجون فيعودون بانفسهم ويرجعون فالامر يليك ولا يلينا ؛ وانت تعرف اننا شعب أعزل مسالم وانهم سلطة ثورية باطشة لا نجروء ان نقول امامهم ما نستطيع ان نقول هنا ، فأنا لنا تسليمهم ؟ وكيف نجرؤ ونستطيع ؟ لا احد يستطيع ذلك واكتفي بهذا .
قال الراوي : ما ان خلُص الشيخ من حديثه حتى قام رئيس الكنيسة الارترية يطلب الاذن ، وقال قد تحدثوا باسم القبائل المسيحية سابقا ولكننا ممثلي الدين المسيحي لم نتحدث وراينا يتطابق تما ما مع راي الشيخ ادريس نقول ما قال ونؤمن على قوله ثم جلس .
ثم ان ممثلي القبائل قد تزاحموا علي المكرفون لم يتخلف منهم احد فقال بعض من وجد الفرصة: اننا لم نستطع في البداية ان نرفض طلب حكومة الامبراطور المعظم . لكن ما قاله الشيخ هو الحقيقة لا نستطيع ان نفعل في الامر شئ وهو راينا النهائي .
قال الراوي : الامير اسرات كاسا اوقف التزاحم والضجة مرة اخرى طالبا من الجميع الصمت والجلوس .
ثم تحدث قائلا : لقد كذبتم علي جميعكم الا هذا الشيخ فهو الوحيد الذي صدق ، وانه ليس هنا اكره عليّ منه ومن كلامه وكذلك أحسبه ليس اكره عليه مني ومن مجلسي هذا ؛ لكن ان للحقيقة سحراَ وان لها سلطان حتى وان جاءت من ألدّ الاعداء .
ثم اردف : انصرفوا انتم الآن وان لحكومة الامبراطور القدرة وان لها السلطان وانها تعرف سلفا ماذا تفعل .
هكذا لم تجتمع كلمة المسلمين الذين كانوا معنيين بالثورة فحسب بل اصبح الاجتماع ملحمة وطنية ووثيقة تاريخية في تماسك الشعب الارتري وتلاحمه وتعاضده علي اختلاف اديانه .
نعم لقد ارتكب بعد ذلك اسرات كاسا حرب ابادة شاملة قتلا وحرقا وتشريدا للشعب الاعزل المسالم البرئ لكن ذلك لم يغير من الامر شئ .
واليوم نحتاج إلى من يقول نحن قبيلة واحدة ولسنا قبائل ووطن واحد ولسنا أوطان وشعب واحد ولسنا شعوب .
وان القبائل المسلمة رغم انها متداخلة بالانساب الا ان الانتماء الحضاري والثقافي الواحد بالاضافة الي الديني يفوق كل انتماء .
وليس المسيحيين بمنئى عن هذه الثقافة فمن ليس عربي لا نجده فيهم فاما شامي او مصري الاصول والاغلب يمني ويسمى ” يماني ” وهناك المثل الشائع ان البلوي المسيحي قال للبلوي المسلم : لا اشك ان البلو اصل واحد فنحن تنصرنا ام انتم اسلمتم . طبعا لا يعلم ان البلو قبيلة عربية عريقة . والامثال عن الانتماءات من هذا النوع كثيرة عند الارتريين ومعلومة ولسنا الآن بصدد ذلك .
لقد رفع تنظيم افورقي شعار القبائل وسماها القوميات واستخدمها بتصاريف مختلفة ؛ لكن تبين حقيقة انه اراد ان يسخر القبائل في خدمة قبيلة واحدة . وراهن على ان تذوب وتضمحل في كيان تصوره الفكري لكن وجد غير ذلك وتمادى لانه سلفا حكم على الجميع بالزوال وبقاء “وارساي ” .
وتماديه في سياساته وافكاره المتناقضة هو الذي يضع البلاد في مهب الريح تتنازعها الاستراتيجيات المحلية والعابرة للقارات .
ويجب ان نلاحظ ان التبعثر القبلي كان سبب :
- · ضياع الاستقلال في الخمسينات .
- · تمزق الثورة والتنظيمات فيما بعد .
- · سطو وتمكن تنظيم افورق الوصولي .
ولا اشك في انه يحمل كل اسباب الوهن والارتهان قابلاً .
ان الاصطفاف لتكوين واعلان “التنظيمات القومية ” حاضراً يشوبه الكثير من الغموض والارتياب لأنه
تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسرا *** واذا افترقن تكسرت احادا
ومهما قال قائل في تبريرها سنبقى نسأل ونكرر السؤال : لكن ما الداعي لذلك ؟ !!!
وخير ما نتواصى به القرءان :{ وتواصو بالحق وتواصو بالصبر } { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } الآيات .
ويؤثر عنه صلى الله عليه وسلم اشارة الى القبلية : [ دعوها فانها منتنه ]
صالح كرار
28/05/2010م
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=3495
أحدث النعليقات