الحقيقة لا تعارض حقيقة أخرى, كما يتعارض الكذب مع الكذب في الجبهة الشعبية.
بقلم / متكل أبيت نالاي
عادة ما يبدأ فعل التغيير من المركز (العقل الجمعي). ومركز العقل الجمعي هو (الوعي) والوعي في صيغته الا نتروبولوجية(التراثية) مجموعة العقائد والمعايير والقيم, والتي تشكل منطق الفرد في تكوين التصورات وتفسير الأشياء وتحديد مواقفه منها, وأنا لا أقصد بالوعي هنا كصيغة انتروبولوجية بمفهوم (التميز), بل أقصده كمفهوم (ممعير) ويظل هناك فرق بين التميز والمعيرة, فالتمييز لا يمثل نظاماً قيمياً, في حين أن المعايير هي أساس تكوين النظام القيمي في المجتمعات, التمييز لا يخضع لقاعدة منظومة العقل الجمعي,لأنه توجه فردي, في حين أن المعايير أصل بناء العقل الجمعي وتتميز بسلطة مهيمنة على تشكل وعي الفرد.
التمييز حضور فكري لا ينتج غالباً سلوكاً, في حين أن المعايير تجمع بين الجانب الفكري والسلوكي, فالمعيرة أو المعايير هي القاعدة الرئيسة لفعل إدراك الفرد للأشياء وتقيمها وتحديد مواقفه منها والحكم عليها, وهي بذلك البانية للنظام القيمي لأفراد المجتمع, ولذلك فهي تمثل في وعي الجماعة (سلطة مهيمنة ثابتة) والسلطة هنا تقوم بتفعيل الانسجام الداخلي لوعي المجتمع والارتباط الوظيفي بين معايير المجتمع, وهذا بدوره يسهم في المحافظة على الثقافة في صيغتها الانتربولوجية (التراثية), ويحقق قدراً من الاتزان بين الثقافة التراثية والثقافة العصرية لهذا لها أهمية وظيفة تحققها سلطة المعايير, تقوم على المحافظة في الملامح الخاصة(لهوية المجتمع) كما تحارب فيروسات التذويب, ولها دور الحماية والانسجام والاتزان بين المستورد الثقافي والمحلي الثقافي , فوجودها مهم لحماية ثقافة المجتمع من التفكك والانهيار مقابل المستورد الثقافي.
والمهم الآخر, أن أي تغيير الذي لا يبدأ من منطق التفاهم والتفاوض مع (سلطة الوعي الجمعي) أي المعايير هو (لا تغيير) ولا يعني إعادة البناء لثقافة دمرها المستعمر, وهذا لا يتحقق إلا بإرادة (العمل الجمعي) وموافقته على إعادة بناء (سلطة المعايير) أي الربط بين الدافع النفسي للمجتمع والواقع الخارجي,فأي تغيير يتم ضد إرادة سلطة المعايير هو اغتصاب لوعي المجتمع وهو ما ينتج (الأزمة الثقافية) أي ناتج تبني فرد أو مجموعة من الأفراد معايير تتناقض مع نسق سلطة المعايير في الثقافة الواحدة, وذا بدوره يهدد وحدة المجتمع ويدفعها للانهيار, وقد وصف المجتمع الإرتري بتميزه بتعدد سلطة المعايير بأنه مجتمع فقد وحدته وهو مجتمع لا يستطيع أن يتفق على المعايير سلوكية واحدة في مجال اللغة والأخلاق أو على ما ينبغي أن يسمع ويرى, فهناك نظم متصادمة من القيم) وحماية المجتمع لدينا من درجة التصادم بين معايير التغيير ومعايير السلطة, هو درس صعب الفهم والاستجابة له مجهولة النهاية.
ومثل هذا الدرس تصحيحه هو من دور الحكومة, وللأسف الحكومة نفسها تعتبر وجه آخر لصراع نتيجة خطابها السياسي السائد في المجتمع الإرتري, من أجل مشروع ثقافي فاشل. فتقوقعت الثقافة الإرترية في دائرة الفردية وفقدت الدولة الإرترية أهم شرط لاستمرارها. ولو نظرنا إلى عناصر بنية الخطاب الثقافي للمجتمع الإرتري في التعليم والتوجيه والتربية ملئت بالإشكالية التي لا يتبنى فيها النظام حقوق الآخرين ومنها قضية الحرية والديمقراطية. فالإرتريون في كل الدول المتمدنة يعملون بعقول مفتوحة على الحرية ويدركون أهميتها كعامل محرك ومحفز على الإبداع ومصدر قوة لدولة التي يتواجدون فيها. فالحقيقة التي نبحث عنها لا أعداء لها لأن الحقيقة لا تعارض حقيقة أخرى, كما يتعارض الكذب مع الكذب في الجبهة الشعبية.
فالحرية ضمانة أكيدة للدولة والمجتمع كونها كاشفة للعلل حيث تتسم العلاقات في إطارها بالشفافية والوضوح, فالفساد لا يعيش في المجتمعات المكشوفة ولا يستقر في دولة القانون والمؤسسات والرقابة والمساءلة. وللأسف نجد بيننا من يسعى لقتل الثقة ويضعف الولاء ويساهم في بناء دولة الأسرار والأوكار التي تعمل بالتحريض والهدم والنفي.
ففي بلادنا يوجد فساد حزبي وله من يدافع عنه ويحميه. وأن أعوان الفساد دائماً هم ضد الحرية والديمقراطية. خوفاً من أن تصل تلك الجرائم الغير منظورة إلى قضاء حر ومستقل. وهي جرائم التي لا تصل لسبب أو لأخر إلى العدالة., ولا يحاكم الذين يرتكبونها لأنها وقعت في حق الضعفاء الذي ينتمون إلى الفئات الأكثر فقراً ولأقل مكانة في المجتمع, بينما ينتمي الذي ظلموا إلى الشرائح الأكثر نفوذ والأبرز مكانة.
فمن غير المناسب أن يطبق نظامان قانونيان عند النظر في قضية تتماثل وتطابق في أحداثها كما يحدث في بلادنا. وثبت أن رأينا مجرمين الذي ارتكبوا نفس الجريمة تعرض أحدهما للعقوبة الخفيفة بينما تعرض الثاني للعقوبة الصعبة ومنهم سفير حرامي وأعضاء درق سابقين. فهم يتدبرون أمور خاصة لبعض الفئات مثل مكانتهم الاجتماعية ويوجدوا لهم الأعذار لعدم تطبيق القانون بسبب خصوصية الوضع الاجتماعي للشخص. ومن هنا نقول ليس لهم تصور عادل وعقلاني لشعب الإرتري.
لقد سنة الدولة قانون لتجارة والزراعة والقضاء والجمارك والجنسية ولإيجار والعقار بمكاييل وموازيين مجحفة على حق الشعب الإرتري وأصبح كل الشعب واقع تحت ضغط وإخضاع لهذه المعايير الظالمة , ولكن تصرفت الدولة كمن أقام العدالة بين الناس حينما أسست المجالس الشعبية للقضاء بدأت تقول لنا:” من يمس حزبنا سوف ينظر فيه ويقرر أمره الشعب” وقالوا للعالم:” بأن الشعب الإرتري يحكم نفسه بنفسه بشكل مباشر.” إنها بدايات الشكل المنظم للهرم الدكتاتورية,كيف يحكم الشعب وهم ينقصهم فرضيات قانونية تمنعهم من معرفة حقيقة الأشياء حتى الحكومة نفسها نظرة لأفعال أفراد شخصية على إنها إرادة المعارضة الإرترية وأصبحت تمنح هذه المقولة لكل قادم عن طريق تسني ولهم مصادر كثيرة يبنوا فيها ملاحظاتهم المريضة. وهذا يعني إننا لم نشرع حتى الآن حق لشعب الإرتري أن يمتلك أو يتجمع أو ليكون له حق لتمثيل ولا توجد في بلادنا آليات قد تساعد الناس في إخراجهم من هذا الواقع المتأزم. كل الناس واقعون في خطر داهم عقولهم وضميرهم بما فيهم الوزراء, وهؤلاء لا يتمتعوا بحق اتخاذ القرارات المهمة إلا بموافقة رئيس الدولة, وللأسف الوزير ليس مخولاً باتخاذ القرارات المهمة, عليه أن يعود إلى رئيس للحصول على الموافقة في معظم تفاصل إدارته باستثناء بعض الأمور الروتينية التي تقع ضمن مسؤولياته كالنظر في القضايا البسيطة. لم نسمع وزيراً أصدر قراراً كانت له أثار تعبر عن اهتمام الناس دون رجوع إلى رئيس الدولة.
ولو قدر لك أن تطلع على المهام الموكلة إلى هذا الرئيس لربما هالك عدد الوزارات التي يشرف عليها أو يرأسها, ولربما استغربت من تعدد نشاطه الإدارية لتي تجمع بين الرئاسة والوزارات, والشؤون الأمنية, والمالية, والتجارية, و الخارجية وغيرها من الصلاحيات المطلقة.
وأنت في صخب هولك واندهاشك من حجم العمل الثقيل الكثير المتنوع المتداخل الاختصاصات الذي يهيمن عليها الرئيس ـــ لابد وأن السؤال سوف يطرح نفسه عليك بصيغة استفهام واستنكار(كيف بإمكانه التمعن في كل القضايا والمواضيع والبرامج والمقترحات التي تزخر بها تلك التقارير,أي جهد خارق وأي متسع من الوقت يتوفر له لكل ذلك وكيف لنا الاطمئنان إنه سيقدم لنا رأياً حصيفاً وقيماً وواقعياً وعلمياً؟ هذه الأسئلة مشروعة وفي مكانها.
لأننا نعلم بأن إدارة مرفق واحد كفيل بأن يستنزف قدراً كبيراً من جهود وأوقات مجمل العاملين فيه ما بالك بجهد ووقت مسؤول واحد.
هكذا نراك أيها الهم, لا أحد يخدش فضاءك ولو بحشرجة من طنين الكل يتوسل في استعطافك, لا سبيل, إلا من بابك المسدود. بقت علينا جرحاً نازفاً, ومارست فينا بؤسك الخاص على من عرفت ومن لم تعرفه وعلى المخطئ ومن أصاب, وعلى محب إرتريا وكارهيها. واستثنيت من تستخدمهم ممن حام حول مائدتك طمعاً في مغنم لكي تناصب به من ستكابد ويكابدك في الخصومة, فاختبأت خلف هذا الطابور ممن يملأ طنينهم أجواءك وممن يزجون إليك وينسجون حولك معماراً هائلاً من الخيال السلبي الموجع الذي يجعلك وحدك سر الحياة الإرترية ونبضها الخفي والمعلن.
وأخيراً.
أنت ذاهب بدون زفة ولا مهرجان وبدون ضجيج ولا احتفالات ولا مدائح, ترقب أيها الهم, فالديمقراطيون قادمون, فابتلع هواء الحقد المحبوس في رئتيك كسم زعافاً صنعته بيدك أنت, من أمراضك, لاستخداماتك الشريرة.
نؤكد لك حياتنا الإرترية سوف تسيري جميلة بدونك وسوف تزهر الغصون التي حصدتها بمنجلك المثلوم وسوف يبقى عودك ذابلاً دون أوراق ولا غصون وسوف يلاحقك التاريخ بحكاياتك التي ترعرعت فيها في الساحة الإرترية كصورة مكررة لدكتاتور, إنها الحقيقة المرة.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6419
أحدث النعليقات