الخوف من النسيان
بقلم . محمد علي نور حسين
في الحقيقة لم استطع ان امنع نفسي من ان أكتب عن “أمي ” و ذكرياتي او بالأصح ما بقى منها ، فمهما طال الزمن بيني وبين تلك الذكريات أعود اليها وتعود إلي، في احيان كثيرة جدا اقول لنفسي انني فقدتها ولكن فجاءة يمر طفل مع امه وهو يبكي لانه يريد لعبة او حلوى او انه يريدها ان تحمله لانه تعب من المشي ، ابتسم في تلك اللحظة واعود بذاكرتي لذلك الحي الهادئ الجميل الذي كنا نسكنه ، كان صوت الجيران يخترق الحوائط دون استئذان مانحا الجار الاخر عذرا ليتدخل في حل مشكلة او مشاركة فرحة دون ادنى خجل فكل سكان الحي واحد كما كنت اسمع ولا اعي .
تستيقظ امي صباحا وتقوم بتجهيز الشاي والزلابية لأبي اولا حتى يذهب لعمله ، ومن ثم نأتي انا وأخوتي لننال نصيبنا ، كنت اجلس امام باب ” الراكوبة ” أُراقب امي وهي تقوم بتوليع الفحم لتجهيز الشاي والزلابية لنا ، صحيح ان الدخان كان يملئ عينيها ولكنها لم تكن تكترث له كثيرا كان تمسح بطرف ثوبها على عينيها فقط .. تأمرني ان اقوم من على الارض حتى لا تتسخ ثيابي ، تنادي علي ان اتي لأخذ نصيبي من الزلابية الحارة ولا تنسى ان ترش عليها القليل من السكر وهي تبتسم لي ، تمضي الساعات الاولى من الصباح سريعا بين اللعب مع اخي الاصغر وتقبُل الضرب من اختي الكبرى لشيئ خاطئ قمت به على ما اعتقد ، اسمع صوت جارتنا من خلف الباب وهي تودع جارة اخرى قابلتها في الطريق قبل ان تدفع الباب المسنود بفرع شجرة غليظ وتدخل البيت من غير اي تكلف كما لو انها في بيتها وهو شيئ نادر الحدوث الان ، تُلقي على امي السلام وتجلس على طرف االسرير كعادتها لانها مستعجلة كما تردد دائما فقط تريد ان تتبادل معها اطراف الحديث وتعرف احوالها .
تنتهي امي من تنظيف البيت وتجهيز الطعام وتحميمنا وتغير ملابسنا المتسخة ، تأمرنا ان نلعب في المنزل ، عندما كانت تحاول ان تخرج من المنزل لتزور صديقة لها او ان تذهب للسوق كنا لا نسمح لها ان تتركنا لوحدنا كان اخي الاصغر يتشبث بملابسها اينما ذهبت وهو نفس الشيئ الذي كنت افعله انا قبل ان يأتي هو ويحتل مكاني .. كنت ابكي فقط فلا مكان لي الان لأتشبث بها كما كنت افعل من قبل .. تضطر ان تحمل اخي الصغير وتخرج .. لقد حرمني اخي الاصغر من حضن امي اول ما أتى لهذه الدنيا والان يحرمني من ان اتشبث بها وهي خارجة .. يالله هل اكره اخي هذا ام اعذره لانني فعلت نفس الشيئ لاختي الكبرى .
لم نكن نسأم حكايات امي عن اريتريا وعن عائلتها ابدا ، كانت تحكي لنا عن صديقاتها وقريباتها .. من تزوجت ومن هاجرت وكيف كانت تقوم بمساعدة اقربائها الذين يأتون السودان للعلاج .. تمسك اختي الكبرى وتقوم بتمشيط شعرها وتقول لها .. انتي تشبهين خالتك فشعرك خشن مثلها وحتى طريقة حديثك و … أقاطعها .. وأنا يا أمي من أشبه ؟ تنظر لي وتشيح بنظرها سريعا علها تنسى من اشبه ولكن محال لها ان تنسى اخاها الأصغر الذي استشهد في ميدان النضال .. تحاول ان تنسى ولكن لا .. يجب ان تحكي لنا عنه .. عن طريقة حديثه ومشيته عن قصصه التي كان يرويها لها عن كل تفصيلة فيه ولا تنسى ان تذكر اسم اعز اصدقائه الذي هاجر لامريكا بعد وفاته مباشرة .. تقول لي .. انت تحمل اسمه فكن شجاعا مثله .. اتذكر تلك الكلمات وكأنها حلم وأسأل نفسي الان هل اصبحت مثله ام انني احمل اسمه فقط ؟ .
عاشت امي ككل زوجة ارترية في ذلك الزمن .. تهتم و تربي ابنائها وتخدم زوجها بكل اخلاص من دون ان تتذمر .. وعندما تسوء ظروف رب الاسرة المالية تتصدى لها بأن تقوم بعمل جانبي لمساعدته في مصروف البيت ، لا اعتقد ان في هذا العالم ” أُم ” من الممكن ان تنافس ” الأم ” الارترية التي قاتلت وضحت وعلمت وبكت دما من اجل وطن وجيل جديد ينعم بكل الحرية .
استيقظت منتصف الليل على صوت بعض النسوة وهن يبكين .. ازحت الثوب الذي خلعته احدى النساء ورمته بالقرب من رأسي .. لم استطع ان اتحرك هناك شيئ ما يكبلني لهذا السرير الملعون اعتقد انه الخوف من تصديق الحديث الذي كان يدور بين امرءتين كانتا تجلسان على طرف سريري ..قالت احداهن : لقد كانت شابة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها يالله لا اعتقد ان ابنائها يستطيعون ان يتحملو فراقها وهم في هذا العمر .. تبا الحياة ليست عادلة ولم تكن في يوما ما ، فارقت امي الحياة وهي لم تتعدى الثلاثين من عمرها كانت رقيقة .. كانت جوهرة فريدة من نوعها كانت ” أم اريترية ” .
Wedi_ali_jbr@yahoo.com
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=36357
أنا لست ناقدا ولا متخصصا ولذا لن أخوض في هذا الميدان، الا أني أحسب نفسي متشربا بالتفاصيل الارترية التي ترويها أخي. سبحان الله لك طريقة في السرد جد جميلة ولا تغفل التفاصيل الدقيقة وكأنك ترسم لوحة كاملة الملامح بالكلمات حين تصف والدتك والدخان المتصاعد من الموقد أو جلوس الجارة علي طرف السرير لأنها مستعجلة والمرأة التي تلقي بثوبها عليك وأنت صاحب الفجيعة وهو ما تفعل كل النساء في ذلك الزمان…. نسأل الله الرحمة لأمهاتنا جميعا أحياء وأمواتا.
يبدو أننا عشنا ظروفا متشابهة والكثيرين غيرنا من أبناء جيلنا، أنا أيضا نشأت وترعرت في الخرطوم منذ منتصف السبعينا والي منتصف التسعينات ، وأهلي أرضعوني حب أرتريا التي لم اعرفها الا من خلال حكايات الاهل والمناضلين الذين يفدون الي الخرطوم أما في مهمة نضالية أو للعلاج أو في طريقهم الي الخارج ثم عرفتها لاحقا في اتحاد الطلاب وتفاصيل العمل الثوري وبعد ذلك في الاستقلال مع الفارق طبعا بين الامس واليوم … للأسف.
واصل أخي أبداعك وأكثر من عملك وعمق من معارفك وتعمق أكثر وأكثر فيما تتناول ، أنت تجيد فن الاخراج ولديك قوة في التعبير وتمتلك أدوات كثيرة جدا مع سلامة اللغة لديك مما يؤهلك أن تكون كاتبا ومبدعا كبيرا.
أعتذر للاطالة ، وان كان تعليقي دون المستوي فأنا أكتب والوقت يحاصرني .
لك شكري ..
اخي ابو محمد أن تُحس وتعيش تفاصيل الكلمات التي كتبتها لهو شيئ جدا يسعدني وخير لي من الف شهادة شكر ، ماضينا نحن من عشنا بعيدا عن اريتريا مملوء بكل ماهو جميل وحزين فنحن من عشنا بذاكرة الاحلام وحكايات الوطن القريب منا وبعيد في نفس الوقت .. سعدت جدا بتعليقك اخي ابو محمد