الدستور الصومالي والدعوة الصينية
تناقلت وسائل الإعلام، الدولية فالعربية في الفترة الماضية، ما ورد عن أن جمهورية الصين الشعبية، تدعو الحكومة الصومالية الجديدة ـ ما بعد الانتقالية ـ، لنشر الحكم الفعال في الصومال، على لسان المندوب الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة لي باودونغ خلال حديثه في اجتماع مفتوح لمجلس الأمن حول الوضع في الصومال.
إلّا أن الملفت حقيقة في تلك الدعوة، هوما ورد من “الحث” و”الدعم” الصينيين للحكومة الصومالية الجديدة، على التطبيق الفعال “للدستور المؤقت”، وهو أمر لا شكّ غاية في الروعة في ظاهره، إلّا أنه يعيد إحياء المناقشات الفكرية والقانونية، حول الشأن الدستوري جملة، التي استمرت ـ أي النقاشات ـ، لمدّة غير قصيرة، منذ بروز “وثيقة العهد الفيدرالي” في شباط/فبراير 2004، بانتخاب الرئيس الأسبق (عبدالله يوسف) في نيروبي، وحتى تاريخه.
فالمتابع للشأن الدستوري في الصومال، يدرك انه مرّ بمراحل عديدة، كانت الظروف السياسية والتحولات المفاجئة، تجعل من الروتيني حدوث تغييراتٍ تعسفيّة، لا تمتُّ بكثير صلة لما سبقها من مراحل، وكل ذلك انصياعًا لضرورات تشكيل القانون الأساسي للبلد والشعب، بصورة تتلاءم مع الحاكم، او الطبقة السياسية النفاذة، في ظل اعتيادٍ يكاد أن يبلغ حدّ الإدمان،للتلويح بردّ فعل من العيار الـ”شمشوني”، في حال لم يتم الانصياع لمجريات أرض الواقع المفرضة، على هيئة صراعات نفوذ بعيدة كل البعد عن العمل السياسي الحقيقي، ناهيك ان تتجاوز في قصر النظر أنوف معظم أولئك المتنفذين، وهم يشّغلون أدوات البروبوغندا الشعبوية، لحشد اصطفافات بنية على العصبيات القبلية المريرة، أو المصالح ـ غير الشرعية ـ المدرّة للمرابح المالية الكبيرة والامتيازات.
فمنذ أن تم تعليق الدستور الوطني الصومالي الأول، صبيحة الانقلاب الذي قاده الجنرال “محمد سياد بري”، في21/10/1969، دخلت البلاد في حالة فراغ دستوري، بقيت البلاد تُحكَمُ تحت ظلّه، في حالة مذهلة من انعدام شرعية الدستور، بما جعل قوانين البلاد تخضع لجوٍّ من المزاجية البحتة والعشوائية، أو محوّلة في أحسن الأحوال دوائر الدولة، إلى ما لا يرقى إلى ما يجب أن تكون عليه، دولة لشعب يعيش في القرن العشرين.
وكما يبدو من سياق الأحداث، فإن الهزيمة العسكرية التي مُنِيَت بها البلاد 1978م، وتصاعد الخطر على النظام القائم، وفشله في “تحرير وتوحيد الوطن القومي”، وإلحاقه العار بالتوجّه القومي الأشد زخمًا، أو الـ”عبر صومالي/Pan Somalism“كما يسميه البعض، فقد اقتنع النظام “أخيرًا”، بضرورة وجود وثيقة تملأ حالة الفراغ الدستوري ـ على أي حال ـ، فأُجيزت في 25 أغسطس 1979، وصادق عليها رئيس الجمهورية، في 23 سبتمبر ، إلّا أن ذلك لم يحل دون حدوث ما كان يخشاه، من تفاقم المعارضة واستعار التمرد.
وفي خضمّ تلك الحالة المريعة التي مرّ بها مفهوم الوطنية الصومالية، برز بصيص أمل من جديد، في مؤتمر “عرتا” سنة 2000م، الذي من خلاله تم تشكيل حكومة، تولى الرئاسة فيها الدكتور (عبدي قاسم صلاد حسن)، لإعادة الاعتبار لكل ما عناه قيام الدولة الصومالية الموحّدة، باستعادة دستور (1960)، رغم امتناع جمهورية أرض الصومال ـ البريطاني سابقًا ـ عن المشاركة، في إشارة إلى انتظارها اتحاد الصف الجنوبي ـ الإيطالي سابقًا ـ ،ليصار لاحقٌا إلى البدء بمحادثات تضمن لها الندية، كما تضمن قدرة الطرف الآخر على الالتزام بمخرجات التفاوض.
إلّا أن ما تظافر من عوامل عدم الخبرة وتغوّل أمراء الحرب، والضعف الذي بدى على الحكومة، والذي برر عدم حصولها على ما تحتاجه من دعم، قد أدى إلى دفن أي إمكانية لتحصيل ما تحتاجه البلاد من قدرات وموارد للمضي قدمًا، في إعادة ترميم الدولة.
وبانتقال الكولونيل (عبدالله يوسف)، من رئاسة ولاية (أرض البونت/PUNTLAND) إلى رئاسة البلاد، وتمرير وثيقة (العهد الفيدرالي)، فقد تم طيّ صفحة دستور سنة (١٩٦٠)، لتنتهي معاناتاه من الامتهان، لأكثر من ثلاثة عقود كانت الأصعب في تاريخ شعبنا.
ولاشك في أن ملف (فدرلة البلاد)، أثار لغطًا كبيرٌ في الأوساط الفكرية، في ظل صراع سياسي بين أجنحة حكومة (يوسف) المحمّلة حتى التخمة بأمراء الحرب، لكن البروز القوي لاتحاد المحاكم (الشرعية/ الإسلامية )، أشاع شعورًا عامُا بأن مسألة الدولة الفيدرالية، بل وأن كل مخرجات مؤتمرات (أمبغاتي)، قد جرفها سيل هذا التطور المفاجئ، وهو ما قاد إلى جمود عمل (اللجنة المستقلة للشؤون الفيدرالية والدستور) التي كانت تعاني بذاتها، مشاكل تنظيمية خطيرة، زاد من حدّتها مضاعفة أعداد أعضائها، شأن كل ما تمت مضاعفته، بعد انهيار حكومة (يوسف) وخروج الجيش الإثيوبي.
وكم كانت مثيرة متابعة حجم معركة كسر العظم، التي أخذت أكثر من اتجاه، بدءًا بانكشاف المشكلات الخطيرة التي حملتها المسوّدة الأولية، الصادرة من اللجنة المستقلة المعنية بعد ثمانِ سنوات ـ من العمل ـ كما يبدو ـ! ومن ثمّ ما حدث من قفز فوق صلاحياتها ـ وركنها ـ من قِبَل (فريق خارطة الطريق)، في تحرّك غير شرعي مدعوم “ويا للمفارقة” من قبِل الأمم المتحدة، ثم ارتفاع وتيرة التراشق بين كل الأطراف، حتى تم حمل المسودّة المعدّلة إلى “أديس أبابا” حيث تم إقرارها، وفرضها على الجميع، مع حجب ثمانية وستين مادة من الفصل الرابع عشر (الأمن والسلام الوطني)!، وما حدث من مسرحيات الاقرار من قبل ممثلي القبائل وأعضاء البرلمان، كيف لا وقد كانت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في مؤتمر لندن بشباط/فبراير 2012، حازمة بل محتدّة وهي توضّح “للجميع” عدم رغبتها باستمرار مرحلة الدولة الانتقالية أكثر من ذلك.
وفي ظل حالة السياسية الرمادية التي تعيشها البلاد، بين وثيقة (العهد الفيدرالي) الساري المفعول “قانونًا”، بما يضعه من صلاحيات “هائلة”، في يد رئيس الدولة، و(الدستور المؤقت) الذي أعلنت اللجنة المستقلة المعنية به عدم اعترافها بشرعيته، وعدم اكتمال الإجراءات المؤدية للإقرار المكتمل الأركان، والجدير بالقانون الأسمى في البلاد، تثير المداخلة الصينية علامات استفهام كبيرة، خاصة وأن الصينيين أبدوا على المستوى الرسمي دائمُا سلوكًا سياسيًا هادئًا ومتحفظًا، حتى وهم يتعاملون مع مسألة القرصنة، التي دأب حولها إعلامهم المحلي على تصوير “سومالي خايداو/索马里海盗“، ككائنات أقرب ما تكون لأكلة لحوم البشر.
وإذ أنه ما من شكٍّ في أن مسألة الفدرلة برمّتها، وما تستلزمه من دستور فيدرالي، تلقى هوى لدى دول الجوار الإقليمي، لضمان وجود دولة صومالية تتحمل اللوم، على المشاكل المتفاقمة في القرن الإفريقي وغرب المحيط الهندي، دون أن تكون قوية أو متماسكة كفاية لحماية سيادتها، وكما أن التوجه الفيدرالي يلقى دعمًا من الولايات المتحدة، للخروج بأزمة البلاد من المربّع الأول، توطئة لاستلام حلفائها البريطانيين ملف الثروة النفطية الصومالية، قاطعة الطريق أمام الجهود التركية ـ الرمزية ـ، الساعية للوصول إلى تحقيق وجود اقتصادي مؤثر في البلاد، والحضور الصيني المزمن والمتفاقم، في أعمال التنقيب وإنتاج النفط والغاز في القارة السوداء.
محمود محمد حسن عبدي
كاتب من الصومال
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=27372
أحدث النعليقات