الديمقراطية مصفاة لا يعيش فيها إلا من لا يسقط من ثقوبها
بقلم / متكل أبيت نالاي
فالحوار والمنافسة المفتوحة والصحافة الحرة وبقية وسائل الإعلام الحديث التي تعكس كل الاتجاهات والآراء وتقدم المنافسين على صفحاتها وشاشاتها الصغيرة حتى يستطيع الناخب أن يعرف ويوازن ويقرر ويختار, ثم بعد ذلك إتقان فن تداول السلطة والدخول إليها والخروج منها, حتى إذا أخطأ أن يخطي مرتين, هذا كله يجعل من الديمقراطية مصفاة كبرى لا يحيا فيها إلا القادرون والأكفاء بالفعل.
أما الاهتمام باءجراءت الانتخابات يعتبر أمراُ مطلوباُ وضرورياُ, إلا أن العملية الانتخابية- في حد ذاتها – ليست كافية لإرساء نظم أو حكومات ديمقراطية ناجحة وفعالة, خاص في دول النامية. وتعتبر نزعة الجموح نحو إقامة أنظمة سلطوية في دول أميركا اللاتينية وبعض الدول الأفريقية خلال فترة الستينيات والسبعينات والثمانينات دليلاُ كافياُ لصحة هذا الافتراض, وفي إرتريا من يعتقد لن تستطيع أن تفرض عملية سياسية أو اجتماعية قبل مجيء وقتها ونضوج ظرفها, وإلا منيت بالفشل. هؤلاء يملاؤن رغباتهم علينا منذ مدة. فكيف نعلق على هذا الكلام وهو يقولون ما يطلبه الشعب نفسه بطريقة مختلفة, يأتون بالشيء ونقضه معه )أليس في هذا كله ما يشير إلى بعد الديمقراطية عن بلادنا.
صحيح فالديمقراطية ليس ” حدثاُ” وإنما “عملية” وبالتالي لا يمكنك أن تجد لها طريقا قصيراُ (Short cut) للوصول إليها كما في الكمبيوتر. ولكن نحن نتساءل قبل أن نخوض في ما طرأ على النفوس والقلوب في هذه البلاد. متى تبدأ العملية الديمقراطية في البلاد أو إلى متى يتم إهمالها أو تجاهلها؟ على أي حال أن هناك من الدلائل ما يشير, إلى أن أعدادا(ونسباُ) متزايدة من الناس أصبحت تدرك هذا ولو بدرجات متفاوتة من الوضوح.
والى ذلك علمتنا تجارب أن ميراث الاستعمار لإرتريا ترك أثارا اجتماعية وسياسية تجد معها أن الناس يفضلون أن يأكلوا ويتقاضوا معاشهم على أن ينتقدوا وبدأت أعداد متزيدة من الناس تبحث لها عن بديل عن الاهتمام بالسياسة, فهم عاشوا في عصر يتكرر فيه الزعم بعكس الحقيقة: عصر شاعت فيه تسمية إثيوبيا” تقدم” أي ( إثيوبيا أولاُ ) وعصر يسمي نفسه عصر العدالة والديمقراطية وهو في الحقيقة عصر تكميم الأفواه وكبت الأصوات المحتجة على الأوضاع. والشعب الإرتري أقل تجانساُ وأكثر تبعثراُ ومن ثم أقل قدرة على ممارسة النشاط السياسي كقوة موحدة. وهذه فجوة أخرى تفصلهم عن سائر البشر عن تعبير بمطالبهم المشروعة. كما أن أنواع الديمقراطيات الموجودة حولنا في القرن الأفريقي لا تقدم أجوبة لاحتياجات كثيرة لدى الناس العادين في المنطقة,كما أن التوجه الكوني الذي يحرك جميع ظواهر الحياة ومظاهرها ويبدلها بحيث يستحيل بقاء الشيء كما هو في فترتين متعاقبتين من الزمان. علينا فهمه فهم صحيح.
إذا تحرك العالم من حولنا للأمام ونحن في حالة ثبات فهذا يعني أننا فعليا نتحرك للخلف حتى ولو كنا نعتقد أننا ثابتين في مكاننا. وهذا العالم الذي يغير مكاننا وموقعنا علينا أن نتفاعل معه خصوصاُ نحن الإرتريون ولدنا من رحم منطقة حبلى بالحضارات وولدنا من لا شيء ونصبوا لنكون كل شيء ولا يختلف اثنان أننا نريد أن نتطور ونريد أن نتأكد من أن تاريخنا يسر في المسار الصحيح ونريد أن نحصل على ما حصل عليه الآخرون أو أن نتجاوزهم إذا أمكن الأمر. فالحياة كالنهر الجاري الذي لا يمكن أن تتكرر أمواجه مرتين. والجبهة الشعبية ولدت ونمت وشاخت في الميدان واليوم تقترب من الموت. ونتيجة بجهلها بمصيرها تحاول أن تأتي بتغير عشوائي الذي يجلب لها الموت المبكرة. ولكن بعد موتها كيف للخروج من الدوران في دائرة مغلقة.؟ وكيف نحقق تنمية سياسية وتنمية اقتصادية ؟ ليصبح خيارنا معا التوجه الديمقراطي ونأتي بالديمقراطية ونحن نملك البرنامج الاجتماعي للطبقة الوسطى والمؤسسات الفاعلة والأرض الذي سوف تتراكم عليه بناء الديمقراطية في بلادنا على مر الزمن. وهذا يعني إننا نتكلم عن منظومة من المؤسسات ترمي أن تقي الأفراد والمجتمع معاُ, من أخطار الديكتاتورية أو الاستبداد من جانب الدولة نفسها. أو حتى الطغيان المحتمل من الأكثرية داخل المنظومة الذي يحتكم لها الشعب كله.
أن كافة الأنظمة الديمقراطية الحديثة نشأت من داخل الطبقات الوسطى, بما ذلك تجربة الهند التي بها طبقة وسطى كبرى تبلغ نحو 300 مليون فرد. وهناك عاملان يسهمان في خلق الطبقات الوسطى الكبرى هما التمدن والتصنيع, وهذه الطبقة بكافة فئاتها تشكل العمود الفقري للمجتمع المدني. وتمتاز هذه أنه كلما كان حجم الطبقة الوسطى كبيراُ وأتسع نطاق التمدن والطبقة الصناعية كان حظ الممارسة الديمقراطية من النجاح أوفر وأفضل. ويعتبر معيار الطبقة الوسطى في أفريقيا هو المؤشر الذي لم يعط علاقة إيجابية واضحة. ولدى أخذ مؤشرات الطبقة الوسطى مثل التمدن أو التعليم, يدعو الأمر للحيرة والإرباك. وهناك من يرى أيضاُ كلما كانت البنية الاجتماعية متجانسة عرقياُ بصورة كبيرة, وكانت الثقافة ذات سمة حديثة, فاْن آفاق وفرص ترسيخ الديمقراطية تكون أكبر. أن التباين العرقي يجعل مجموعة عرقية واحدة تشكل الأغلبية وهو أمر قد يعمق التنافس العرقي في سبيل أن تصل الأغلبية للحكم. وإذا ما تم حكم البلاد بواسطة الأقلية قد يعني أيضاُ نزع أو نقل السلطة من الأقلية الحاكمة. الأمر الذي يولد الصراع المستمر الذي يهدر سيطرة الأقلية التي تم اختيارها وفق قواعد الدولة وتؤكدها نتائج الانتخابات البلاد. والجدير بالذكر أن هذا الأمر لا ينطبق فقط على الدول العالم النامية فقط, وإنما يشمل أيضاُ دول العالم المتقدم حيث يتبلور هذا المفهوم في شكل حركات انفصالية كما في إقليم كيوبك في كندا وبكل من بلجيكا وما حصل في يوغسلافيا والشيشان في روسيا.وأخيراُ تأتي المدرسة المؤسساتية التي ترى أنه بالرغم من أن الدولة قد تواجه بعض العوائق والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية العرقية والثقافية ,فاءن الممارسة الديمقراطية التي تتم عبر مؤسسات الدولة. وذلك إذا ما كانت هذه المؤسسات شرعية وتحظى بالقبول التام, وقائمة على مبدأ المسؤولية والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان ولديها مؤسسات قضائية واجتماعية مستقلة. وتلتزم بمبدأ المحاسبة العامة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون كل ذلك ركن من أركان الديمقراطية ولكن تأسيسه قد يستغرق ربما وقتا طويلاُ ولكن قبل كل شيء يجب أتخلص من الإرث العرقي والانقسامات الأخرى داخل المجتمع.
والمواطن المهموم بالشأن العام, يمكن أن يخطئ في الانتخابات أحيانا كثيرة أو قليلة بين البدائل المطروحة,أو مثل حجب المعلومات اللازمة للاختيار أو بتشويه لمعلومات المتاحة أو بتوجيه مختلف وسائل الترغيب والتخويف, فان بنية النظام الديمقراطي الحديث وأجهزته الحكومية ومؤسساته المدنية تستطيع في اغلب الأحيان أن تتلافى قصور الحاكم الذي انتخب لخطأ الناخب أو تحيزه وأهوائه العابرة التي تدفع صوته في اتجاه المرشح أو الحزب الخطأ. كما أن شخصية الحاكم أو القائد أو الرئيس تمثل احد أهم عناصر الاختلاف بين العالم الأول والعالم الثالث. ففي حين تستطيع بنية النظام الديمقراطي في العالم الأول ومؤسساته العتيدة والعريقة أن تعوض عن ضعف الحاكم أو حتى أخطائه وتتلافاها بل قد تحول دونها, وتتيح دائما فرصة التراجع, فان شخصية الحاكم في العالم الثالث هي الأهم, حيث المؤسسة ضعيفة سواء الحكومة أو المدنية, فهي بذلك لا تستطيع أن تشكل قوة للتصحيح أو التعديل أو الدعم للحاكم غير الكفء أو القاصر أو الذي وضعته الصدف في مقعد القيادة. وفي حين تستطيع مؤسسات العالم الأول القوية والعريقة أن تبقى هي القنوات التي لا يتمكن الحاكم القاصر أو الوسط أو العادي إلا أن يعبر منها لتحقيق سياساته, وهي بذلك تشكل الحد الأدنى للضمان والسلام, فان غياب هذه الاقنية والمؤسسات والتقاليد في الحكم, يمكن أن تكون هي طريق الكارثة لبلد ينتمي للعالم الثالث أصبحت فيه مصائر ذلك البلد في يد قائد قاصر أو مغامر أو مجنون.
وقد رأينا في تاريخ دور القائد في بلاد العالم الثالث التي تفتقد إلى بنية الدولة الصناعية الحديثة: من الديمقراطية إلى المؤسسات الحكومية إلى المؤسسات المدنية إلى الصناعة الحديثة بشقيها العمال المسيسون والإدارة الحديثة. ففي هذه البلاد يبرز دور القائد كما لا يبرز في أية مرحلة تاريخية أخرى.
فالقائد التاريخي هو شيء منه مثلا, استطاع الآسن بثقافته الرفيعة ورؤياه السياسية أن يتجاوز الواقع الفيتنامي المتخلف, وان يعوض بمزايا شخصيته المتفوقة التي تنتمي في خصائصها إلى العلم الأول, حيث تلقى العلم والثقافة والإلهام , استطاع أن يجمع من حوله صفوة الصفوة في بلده وان يعوض بشخصيته القيادية عن كل أوجه القصور في بلده بل أن يحولها إلى عناصر قوة, في العالم الحديث: وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
وكمثال أخر, ماوتسي تونغ. فرغم كل الأخطاء التي تعزى إليه حالياُ, خاصة في فترة الثورة الثقافية, فانه هو ومجموعته القيادية المتفوقة ومن أهمها شو ان لاي, التي كانت تنتمي أيضا في ثقافتها للعالم الأول, استطاعت أن ترتقي بوضع بلادها المتخلف لتحقيق النصر, بكل عناصره: طرد الأجنبي وفتح أبواب الحداثة والتحديث والتصنيع أمام البلد والاهم تحقيق وحدته.
وكمثال آخر: نيلسون مانديلا. فهذا القائد الذي بقي سبعا وعشرين سنة في السجن دون أن يتنازل عن رؤياه لجنوب أفريقيا, استطاع بشخصيته المتفوقة وقيادته التاريخية أن يصبح الملهم الأول لكفاح بلده وان يحفر المثال الذي يجب أن تكون عليه جنوب إفريقيا, وان يتجاوز بذلك كل صنوف التخلف والتجزئة والقبلية حتى وصل إلى الهدف المنشود في استقلال البلد ووحدته معا.
أما الأمثلة المقابلة: للقيادة الخطأ الذين أتيح لهم أن يصبحوا في مراكز القيادة في بلاد العالم الثالث, فانتهوا بهذه البلاد إلى الكارثة والدمار والإفلاس. فحدث عنها ولا حرج!
أن قيام الأمم يعتمد على من يقوم بالرعاية على أن يكون له دراية وبعد نظر فليس الهم المنصب الحضاري المنشود ولكن التفاعل مع هذا المنصب فنقول أن القائد في مكانه المناسب التي تساعده أن يترك البصمة الواضحة والرؤية الحسنة للغد أفضل يقطف الجيل القادم نتائجها.
أن ثقافة الديمقراطية هي السلاح الفعال لمحاربة من يعششون في البلاد على ملفات الفساد والهدر وإساءة استعمال السلطة, ولديمقراطية وحدها القادرة أن تقول كلمة لا عندما تصبح الظواهر شاذة والعمل بها غير مسؤول والأحوال معوجة حتى لا يخذ من حياة الغير ومستقبل البلاد. كما هو حال عند الشعب الإرتري الآن وهو الشعب الوحيد الذي يعمل مكروه بأعمال شاقة, ولا يحصل جراء عمله هذا أجراُ مادياُ ولا مكافأة معنوية غير الأذى والنبذ والكراهية من قبل النظام الحاكم والقوة النافذة فيه. وهناك إحساس متزايد لدى بعض الإرتريين أن البلد لم تعد بلدهم, وأن السلطة فيها لا تعمل لهم حساباُ ولا تشركهم في اتخاذ القرارات أو حتى تسألهم آراءهم في ما يخص مصيرهم ومصير أبنائهم. والديمقراطية تعمل على إنجاز ” وحدة وطنية” ضد الدكتاتور والارتقاء بها إلى فلسفة متكاملة الأركان. وتحارب كل الثقافة التي تقوم على أساس مبادئ الانتقام والكراهية والحقد وبغض الإنسان وقمع حقوق الفرد والمجتمع معاُ ومنع تحويل الإنسان إلى آلة في يد الدولة لخدمة أهدافها السياسية وخصوصاُ محاربة الأشخاص الذين يحملون أفكار شوفينية أو انعزالية لا تستوعب الآخرين, كما تعمل لجعل البلاد مركزا يبشر بديمقراطية وقيم جديدة تؤمن بالتعددية والتسامح وقبول الآخر وهذه مقومات أساسية لثقافة الجديدة سواء في منطقتنا أو في مناطق تعرف بمناطق اعتي الدكتاتوريات في العالم. وهي الشرق الأوسط و القرن الأفريقي, ولآتين أمريكا. تهدف تضيق مساحة تحرك الفكر الدكتاتوري المتغلغل فيهم. واستبدالها بأساليب سلمية تقهر الخصم معنوياُ وتنقل منه السلطة بكل سهولة ويسر, من خلال تمليك الناس ثقافة ديمقراطية أصيلة ومتفتحة, لكل الشعب وهذا أمر لا غنى عنه. أن الديمقراطية نظام وقيم ومبادئ وهي ثمرة تفاعل وتواصل الحضارات عبر التاريخ كما أنها حصاد كفاح طويل لكل الشعوب ضد جميع أشكال القمع والقهر, وفيها مصلحة عليا لدولة وأفراد والجماعة وللإنسانية جمعاء في تنمية شخصية المواطن وتعميق شعوره بالانتماء للوطن, ومن عوامل هدم المجتمعات ورقيها ما يؤمن به هذا الفرد من قيم ومبادئ وثقافة ونتاج فكري وحيوي تتوهج به بلاده وتصبح مثالا للمجتمع المدني الذي يحتذ به ويميز البلاد عن مثيلاتها من الدول في المنطقة. وهكذا سيطوي العالم صفحة الصراع ليدخل البشرية في عصر من الانسجام الكلي والفضاء الحر والسعيد بفضل التساوق والتضافر بين محركي التاريخ الجديدين السوق والديمقراطية. ونحن الإرتريين أصحاب الأحزاب الديمقراطية الجديدة في الخارج تضعنا المسؤولية بما يتعلق بأزمة البلاد,أولاُ تبين مطالب الشعب الإرتري والبحث وسائل الخروج بها وإلا سوف نغوص البلاد مرة أخرى في وحل السقوط والتراجع لهذا علينا قراءة وقائع الوعي الإرتري ورموزه وصولاُ لتفكيك الوعي المتأزم وكشف علائقه إيجابياُ بالوعي الديمقراطي والمسألة ليس قراركم الديمقراطي ولا بالمؤسسات التي سوف تنشونها في دولة الإرترية الثانية بل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع, وإنني أستطيع قياس الهزيمة المذلة التي سوف تتعرض لها الجبهة الشعبية سببها عقليتهم القديمة ولكني لا أستطيع توقع الديمقراطية الصحيحة لشعب الإرتري. ولا يمكن تخيل مجتمع قوي في هذه الأيام دون مستوى عالي من الحرية والديمقراطية ونحن الإرتريون لا نحتاج إلى الأمر والنهي والقبلي( لجان الحي الشعبية) لكي نصبح احدي رعايا الحكام وممتلكاتهم الشخصية, إننا نتشكل من مواطنين لا من رعايا, من أفراد يساهمون في الرأي والعمل لا من رعايا ينتظرون الأوامر والتوجيهات من الجبهة الشعبية لكي يعملوا ولكي يبدوا الرأي. لهذا نريد أن نعمل باء رادة وعزم إرترية حرة مع من يحدد تقدم إرتريا هدفه فإرتريا رحبا بإمكانياتها, ومتناقضا في اتجاهاتها, والغلبة لمن ينتج,والأسبقية لمن يسعى ويعمل بين الأطراف المجتمع الإرتري المتدفق بالإرادة والحرية.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5913
أحدث النعليقات