الشعب … يريد … بناء النظام !؟
عمر جابر عمر
فى حياة كل أنسان لحظات لا يمكن أن ينساها – حلوة كانت أم مرة – تستقر فى ذاكرته الخلفية ويسترجعها من حين الى آخر. خلال العقدين الماضيين عشت أحلى وأسعد تلك اللحظات مرتين فى حياتى: الأولى بعد التحرير فى أسمرا عندما شاهدت العلم الأرترى يرتفع على السارية ويعلن قيام دولة أرتريا – والثانية عندما شاهدت وسمعت ذلك التونسى الوطنى الغيور يهتف فى شوارع تونس المغفرة – بن على هرب … بن على هرب وشاهدت وسمعت التلفاز المصرى يعلن تنحى فرعون مصر والشعب المصرى يرقص فى ميدان التحرير والشعب اليمنى يخرج من عدن والمكلا ولحج حتى صنعاء وتعز يطالب بحريته وحقوقه وشعب البحرين يهتف فى دوار اللؤلؤة فى المنامة يطالب بالمشاركة والأصلاح
وشعب الجزائر يطالب بالدستور والغاء حالة الطوارىء وأخيرا وليس آخرا الشعب الليبى الذى حرر أرضه من الطاغية بالزحف والوحدة والأقدام … وحاصره فى مخبأه فى باب العزيزية فى أيامه الأخيرة. أنه عرس ثورى حقيقى وملحمة نضالية تجعل كل وطنى ومناضل من أجل الحقوق الديمقراطية يطير فرحا وسعادة وهى سيمفونية شعبية تتدفق الحانها دماء وعطاء وتضحية تجيب على كل التساؤلات التى حملناها فى عقولنا طوال السنوات الماضية. أنه التزاوج والتلاقى بين الخيال والواقع … أن ترى أمامك ما كنت تحلم به وأن تمسك بيديك وتسمع بأذنيك وتعيش فى الواقع كل الشعارات التى رددتها وظننت أنها ربما كانت أضغاث أحلام … أن ترى التاريخ يصنع أمامك والليل ينجلى والظلم يزول والقهر والحرمان يصبحان فى مزبلة التاريخ … أى سعادة وأى نشوة وأى أعتزاز وفخر بقدرة الأنسان على مواجهة التحديات. منذ أسابيع كتبت عن سقوط الفراعنة فى تونس ومصر وذكرت بعض الفراعنة الآخرين .. اتصل بى أحد الأصدقاء وقال أننى نسيت القذافى !؟ كلا لم أنسى ذلك الطاغية ولكننى لم أذكره عن قصد لسببين:
السبب الأول : فى تونس ومصر واليمن والبحرين والجزائر – هناك ( أنظمة ) – دولة لها أسم وتعريف وتوصيف ودستور مكتوب وأن كان مفصلا على مقاس الحاكم وحزب يدير الحياة السياسية وأن كان يستخدم الرشوة والتزوير – وأنتخابات لأختيار الرئيس وأن كانت نتائجها معروفة سلفا – هناك جيش له قيادة وان كانت تحت سيطرة المحاسيب وألأقارب وله عقيدة عسكرية – هناك مؤسسات فى الدولة تؤدى وظائفها بصورة روتينية وأن كانت مليئة بالفساد والمحسوبية — هناك كل مظاهر وشكليات الدولة للتعامل مع العالم الخارجى —
لذا فان شعارات الثورة كانت ( الشعب … يريد … أسقا ط النظام ) !؟ حتى أعمال العنف التى حدثت تم الأعتذار عنها وأعتبر الضحايا شهداء الحق والحرية.
فى ليبيا هناك ( حالة ) لا يمكن توصيفها أو وصفها – أنها دولة اللادولة … النظام الفوضوى أو الفوضى المنظمة … أنها حالة زئبقية لا يمكن أن تمسك بها – حاكم يملك كل شىء ولا يحاسبه أحد لأنه ليس برئيس !؟ لا دستور ولا حزب ولا أنتخابات – لا شىء وكل شىء فى توليفة لم يستطع الشعب الليبى أن يستوعبها خلال أربعة عقود . لا جيش … تم تفكيكه وأصبح كتائب بأسماء أبناء ( القائد ) – الساعدى وخميس … وحتى عائشة لها كتيبة !
أما ( سيف أبيه ) فهو المتحدث الرسمى والذى يصرح بأسم أبيه ولا صفة رسمية له … أنه حكم العائلة !؟ ليبيا الغنية والمحدودة السكان يهاجر أهلها للعلاج فى تونس ومصر !؟ التعليم فيها تجهيل .. الخدمات لا تليق ببلد تدر عليه ثروته النفطية مليارات الدولارات سنويا ..
أين تذهب تلك الأموال ؟ لا أحد له حق السؤال والمحاسبة . القمع والقتل والسجن للمعارضين ممارسة يومية وحتى من يحكم عليهم القضاء بالبراءة يبقون فى السجن أذا كانت تلك رغبة القائد ! مجزرة ( بوسليم ) التى راح ضحيتها 1200 معتقل نموزج واحد تم كشفه وما خفى أعظم … لهذا كله فأن شعار ثورة ليبيا هو ( الشعب … يريد … بناء النظام ) ! بعد أكثر من أربعين عاما ظهر العلم الليبى القديم … لماذا ؟ لأن الشعب يريد البناء من جديد وأعتبر أن سنوات القذافى كانت خصما من عمره و توقف زمني جعل الشعب غائبا ومغيبا مثل أهل الكهف.
السبب الثانى : صحيح أن جميع الفراعنة مستبدون وفاسدون وسفاحون … وكما قال شاعر العراق مظفر النواب ( أولاد القحبة — لا أستثنى أحدا منكم الا المسكين برأس الخيمة ) … ولكن كما يقول المثل الأرترى : حمى وكافل – أى مع توجيه العتاب يجب أن تفرق أيضا بين هذا وذاك !! بعد أن قامت الثورة ونزل الشعب الى الشوارع ظهر الرئيس التونسى وقال: الحق معكم … سنقوم بالأصلاح ونساعد المحتاج ونفتح باب الحريات …و ..و .. فرعون مصر قال أنه سيتبنى مطالب الشعب ولن يرشح نفسه بعد اليوم ولا أبنه وقام بعمل تغيير وزارى … و … فرعون اليمن قال أنه لن يرشح نفسه بعد أنتهاء مدته ولا أبنه وطلب من قوات الأمن عدم التعرض للمتظاهرين !؟ حكام الجزائر وعدوا برفع حالة الطوارىء وتخفيف القيود على الحريات … ملك البحرين وعد بالأصلاح وأطلق سراح المعتقلين وفتح حوارا مع المعارضة …
أما سفاح ليبيا … فحدث ولا حرج – شخص يصف شعبه بالجرزان والعملاء ويأتى بالمرتزقة ليقتلهم !؟
شخص يستخدم كل شرور الدنيا وموبقاتها للتمسك بالسلطة ويقول : أنا المجد … أنا التاريخ … أنا الصخرة الصماء !؟ أنها ( حالة ) نرجسية كاملة وصلت أقصى درجاتها فى تشكيل وتكوين عقله وفكره وسلوكه … من كان يقرأ عن ( كاليجولا … نبرون ) ويشك فى أن هؤلاء أختراعات مؤرخين ولا يمكن أن يكونوا
حكاما حقيقيين لينظر الى القذافى … أنه تجسيد حى فى القرن الواحد والعشرين لهؤلاء –
مرض تضخم الذات ( ميجالو مانيا ) معروف لدى علماء النفس ولكن حالة القذافى وصلت درجة لا يمكن معالجتها أو السيطرة عليها :
الشخص الذى يعانى من هذا المرض يظهر عكس ما يبطن ويأتى أحيانا بأ فعال وأقوال تبدو مضادة لما يقوم به فى معظم الأوقات … نيرون كان يشاهد حريق روما وهو يعزف قيثارة ويغنى أشعار هوميروس !
أسياس أفورقى بعد أن قام بتصفية المعوقين فى ( ماى حبار ) خرج فى اليوم التالى بقصيدة عصماء أعتبرها أنصاره ( معلقة ) من معلقات الشعر بالتقرنية ! القدافى خرج بالكتاب ألأخضر – مجرد هرطقات
مشحون بأسقاطات وتقمصات لأدوار أكبر من تكوينه العقلى – قالت عنه أحدى الصحفيات الغربيات أنه بحجم علبة كريم النيفيا ومحتواه مثل حواديت الأطفال !
لكن القذافى مصاب بأكثر من ذلك : أنه دائما يبحث عن دور – يتقمص ذلك الدور فى حيا ته ويطلب من الآخرين تصدبقه – نيرون كان يقوم بالتمثيل والغناء ويشكل لجان تحكيم لتعطيه الجوائز ! القذافى تقمص دور زعيم الأمة العربية بعد رحيل عبد الناصر وما علم أن مكانة عبد الناصر كانت من مصر وليس العكس
ثم تقمص دور الثورى العالمى من نيكاراجوا الى أيرلندا الى آسيا وأفريقيا — ثم ترك ذلك كله وأصبح
( ملك ملوك أفريقيا ) فى الوقت الذى أسقطت فيه الشعوب الأفريقية عروش الملوك من مصر وحتى أثيوبيا
القذافى مصاب بما هو أكثر من ذلك – أنه ( زنديق ) ؟ حسب تعريف أبن تيمية الزنديق هو من يبطن الكفر ويتظاهر با لأسلام … القذافى أنكر قصة الأسراء والمعراج ! عمل على تحريف القرآن حيث قام بحذف صدر سورة الأخلاص … وقام بتغيير التقويم الهجرى كراهية فى عمر بن الخطاب لأنه لا يحب كل من يحبه الناس ! حديثه غير متوازن ولا مترابط وهى ظاهرة معروفة فى علم النفس أسمها :
Flight of Ideas
أنه عدة أشخاص فى شخص واحد ؟– كلامه فساء وأفعاله ينطبق عليها قول صدام حسين وهو أحد الفراعنة المنافسين له وذهب بدوره حبث كان يقول عن القذافى : لقد أبتليت الأمة العربية بطفل لا يكبر!
لكل تلك الأسباب رأيت أن أفرد لهذا السفاح مقالة خاصة حتى لا ( أظلم ) الفراعنة الآخرين ! وحتى تكون تحية الشعب الليبى خاصة أيضا لصموده وتضحياته رغم وحشية السفاح القذافى. أن الملحمة التى يصنعها اليوم الشعب الليبى ستسجل فى التاريخ بأعتبارها ملحمة نموزجية ورائدة ضد أكثر الطغاة شراسة ووحشية فى التاريخ البشرى المعاصر وكما تقول الأعنية الأرترية الوطنية : قبل انبلاج الفجر( النصر ) بوقت قصير تشتد الظلمة . هنيئا للشعب الليبى ولكل الشعوب التى تناضل من أجل تغيير وبناء حياتها من جديد.
.
رسائل عاجلة:
1- الى فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوى – بعد ثورة الشعب الأيرانى على الشاه ذهبت الى طهران ضمن وفد من جبهة التحرير الأرترية بدعوة من القيادة الأيرانية. التقينا بالأمام الخمينى وفقهاء من
( قم ) وقيادات سياسية – ولكن كان هناك سؤال يلح على ويؤرقنى ولا أجد له أجابة ولم يكن ضمن أجندة الأجتماعات – وجدت فرصة بعد رفع الجلسات مع كبيرهم وجلست معه ووجهت اليه السؤال : لماذا كان الأئمة ورجال الدين فى أيران يتصدرون المظاهرات والأحتجاجات ضد الشاه ولا نرى ذلك فى ( الشرق )
العربى حيث يسبح الدعاة وخطباء المساجد بحمد السلطان ويدعون له بطول العمر والبقاء ويحرمون الخروج على طاعته؟ أبتسم الرجل وأجاب بسؤال – من يقوم بتعيين المفتى وشيخ الأزهر وأئمة المساجد
يجيب الفقيه : أنه الحاكم ! كيف تريدهم أن يثوروا ضد ولى نعمتهم ؟ هنا فى أيران نتمتع بأستقلالية أقتصادية وأرتباطنا هو مع الشعب الذى يقدم كل فرد فيه من المذهب الجعفرى ( الخمس ) من دخله الى الملا أى الفقيه ! يجب أن أعترف بأن معلوماتى وقتها كانت محدودة عن ذلك المذهب فأنا من بلاد تلقت الرسالة على أيدى صحابة رسول الله ( ص) مباشرة وسمعت منهم محتوى وأهداف تعاليم الأسلام ولا تفهم ولا تؤمن الا با لأ سلام كما نزل على محمد بن عبد الله دون زيادة أو نقصان . وكنت على قناعة بأن ذلك الأسلام الذى أفهمه و أستقر فى وجدانى وفكرى هو ضد الفساد والأستبداد ولكن الخلل فى من يحمل تلك الرسالة …
حتى سمعنا ك وشاهناك يا فضيلة الدكتور – تشارك مباشرة فى الألتحام بالجماهير وتطالب الطغاة بالرضوخ لمطالب الشعب – النداء الذى وجهته الى طاغية تونس ثم مصر واليوم الى طاغية ليبيا – تلك هى كلمة الحق فى وجه السلطان الجائر ( وهو أفضل الجهاد ) . خطبة الجمعة التى كنت امامها فى ميدان التحرير ونصيحتك للمجلس العسكرى فى مصر بأطلاق سراح المعتقلين …ذلك هو الأسلام الذى أفتقدناه فى خطاب القيادات الأسلامية لزمن غير قصير. ما مناسبة هذا الكلام ؟ أنه الأيمان بأن الحق لا يتجزأ ونصرة الضعيف والمظلوم واجب أينما كان – نحن أيها الشيخ الفاضل من بلاد أحتضنت أصحاب الرسول ( ص)
وقدمت لهم الحماية والأمان عندما أخرجهم أهلهم من ديارهم – نحن يا فضيلة الدكتور من بلاد رفع فيها الآذان قبل قبلة المسلمين ( مكة ) … بلادنا هذه تسلط عليها طاغية حليف للقذافى ومبارك وعلى عبد الله صالح … سقطت كل قلاعه الآن وبقى معه حليف واحد فقط – وللأسف هو من يناصر اليوم الثورات فى مصر وتونس وليبيا واليمن — أنه أمير دولة قطر! نحن نقدر جهوده لبناء وطنه ونصرة الضعفاء – ولكن لا نفهم هذا ( الود ) بينه وبين سفاح لا يقل خطورة عن القذافى ؟ نريدك يا فضيلة الشيخ أن توجه نصيحة الى سمو الأمير حتى يوقف دعمه لهذا السفاح لأن من يعين ظا لما ومستبدا وقاتلا – أنت تعلم أيها الشيخ حكمه .
نريد من سمو الأمير أن يما رس ضغوطا على الفرعون الأرترى أن أ ستطاع قبل فوات الأوان وقبل أن تسيل الدماء – واذا لم يستطع ليوقف الدعم الذى يساعده على ممارسة تعذيب شعبه . لا نريد لسمو الأمير أن يجد نفسه فى مواقف لا يحمد عليها فى الدنيا ولا يؤجر عليها فى الآخرة.
2- قناة الجزيرة الفضائية – يقال أن الاعلام ( مرآة ) تعكس ما يدور فى المجتمع …ذ لك تعريف كلاسيكى تم توظيفه من قبل الأنظمة الدكتاتورية التى أدركت بأن تلك المرآة تعكس صورة من يقف أمامها فقط – لذا فقد تقدم كل دكتاتور الصفوف وأصبحت صورته هى الوجبة الصباحية والمسائية التى تقدمها القنوات الرسمية ! قناة الجزيرة كسرت تلك القاعدة وأتصلت وتواصلت مع المنسيين ونقلت مشاعرعم وأحاسيسهم – أصبحت صوت الذين لا صوت لهم ومنبر المظلومين – ولكن كما يقول المثل ( الحلو ما يكملش ) !
اذا كانت الجزيرة تؤمن با لحرية لكل الشعوب وتسعى لكشف وتعرية كل طاغية ومستبد لماذا نراها تكيل بمكيالين ؟ ما الفرق بين القذافى وأسياس أفورقى ؟ هل هو موقف رسمى لدولة قطر لا بد من الألتزام به؟
رئيس الوزراء القطرى قال منذ أيام ردا على أتهام القذافى : أن الصحافة حرة ولا نتدخل فى شئونها –
هل هو قصور مهنى وعجز فى القدرات الأعلامية للجزيرة تجعل من رؤيتها للوضع فى أرتريا ضبابية ؟
نحن لا نطلب من الجزيرة أن تقوم بثورة نيابة عن الشعب الأرترى – فهو قادر على ذلك وأثبته حين دك أكبر أمبراطورية فى أفريقيا – ولا نريد منها كذلك أن تنشر ما لا يوجد على الأرض – ولكن ما نرفضه هو تلميع النظام الدكتاتورى فى أرتريا وتسويقه من خلال التعتيم على جرائمه وأبراز ( أنجازات ) وهمية
يقول أنه حققها وتصوير أسياس أفورقى كأنه ( الأمام العادل ) !؟ من أراد أن يقول شيئا ليقل خيرا أو فليصمت ( حديث شريف ).
أن موقفكم تجاه أرتريا يمثل بكل أسف بقعة سوداء فى ثوب أبيض تدثرت به الجزيرة وباركته الجماهير فى كل مكان – الحرية لا تتجزأ والحق واحد لكل الشعوب – هل تنقصكم المعلومات أم أنكم فى أنتظار أن تسيل الدماء وتنتشر الجثث فى الشوارع لتسجيل السبق الصحفى ؟ رسالة الأعلام فى القرن الواحد والعشرين هى أن تبحث عن أمكانية وقوع الحدث قبل وقوعه – بحث وتحليل العوامل التى قد تؤدى الى الكوارث والمواجهات بين قوى المجتمع – كونوا صادقين مع مشاهديكم ومع أنفسكم – اذا كنتم تواجهون ضغوطا لا تستطيعون مقاومتها – أفصحوا عنها وسنجد لكم العذر ويكفيكم شرف أداء الرسالة الجزئية .
من أجل الحرية والعدالة والسلام.
كان الله فى عون شعوب العالم
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=11396
أحدث النعليقات