الشيخ محمد صالح عبد الله داعية تفتقده الساحة الدعوية الإرترية
بعد انقطاع دام لأكثر من أسبوعين، تصفحت البارحة مواقع النشر الإرترية، فإذا بي أقع على نعي للشيخ محمد صالح عبد الله رحمه الله؛ ولأني ذهلت، أعدت قراءته مرة بعد أخرى، فما صدقت نفسي عيني في أن ما تراه وتقرأه هو نعي لذلك الداعية الذي عرفته وعاشرته طويلا، الشيخ محمد صالح عبد الله رحمه الله، وما أن تبين لي أنه هو، حزنت أيما حزن، ولهج لساني بالدعاء له، وتذكرت أياما خلت، عشناها معا، في ود ووئام، وقلت في نفسي: لقد فقدت الساحة الدعوية الإرترية رجلا شهما، واسترجعت كما هو دأب المسلمين عند نزول المصائب (إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحم الله الشيخ محمد صالح عبد الله، عرفته في المدينة المنورة، يوم كنا طلبة في الجامعة الإسلامية، هنالك التقينا عام 1974م، ودرسنا معا المرحلة الإعدادية، في متوسطة الجامعة، ثم المرحلة الثانوية، ثم المرحلة الجامعية، إلا أنه التحق بكلية الشريعة، متخصصا في الفقه الاسلامي المقارن، وأصوله، والتحقت أنا بكلية أصول الدين متخصصا في العقائد والفرق الإسلامية، سكنا معا، في غرفة واحدة، في مهجع ( أ ) في الدور الخامس، في غرفة ( 21 ) لعشر سنوات من عمر دراستي ودراسته في الجامعة الإسلامية، ذاكرنا دروسنا معا، في مرحلتي ما قبل الكلية، في هذه الغرفة التي تقاربت فيها أسِرَّتِنَا، وتآخت فيها أرواحنا، وتعانقت فيها همومنا، وكان معنا طالب من المالديف، يدعى أبوبكر، وآخر من جامبيا، يدعى محمد كندافي كولي، وكلنا في المرحلة نفسها، كنا نشرب الشاهي بعد العصر معا، وكنا نجلس في مائدة الغداء بمطعم الجامعة معا، وكنا نتناقش في وضعنا السياسي والثقافي معا، وكان الألم يعصرنا من هيمنة التيار اليساري في الثورة الإرترية، حزب العمل الماركسي الذي نحر الجبهة وخانها بعض عناصره، متآمرا على سحقها والقضاء عليها، وحزب الشعب في قوات التحرير الشعبية الذي انتهى المآل بأفراده هو الآخر إما إلى السجون والمعتقلات أو إلى التسكع في شوارع أسمرا، والعربدة في باراتها، مستسلما لشيفونية التجرنية، وراضيا بدكتاتوريتها، لمن فضل منهم ذلك، وآثر السلامة، بعد أن خان الأمانة.
كان الشيخ محمد صالح عبد الله رحمه الله ذا هم وطني رفيع وعال، وكان أحد أهم القيادات الطلابية التي نالت ثقة القاعدة الطلابية يومها؛ ليقود ضمن غيره من أخوانه جمعية النهضة الطلابية التي تأسست حينها في المدينة المنورة عام 1975م، بعد مناقشة المسار الطلابي تقييما لما مضى، وتخطيطا لما يأتي، وتجديدا لما يطرح، تحولا من مرحلة إلى أخرى، في خضم الأحداث المتلاحقة، من سقوط العرش الإمبراطوري في إثيوبيا، ومجيء العسكر في الحكم، وزحف الثورة الإرترية إلى المدن، تسقط بعضا منها وتفتح، كان يومها الشيخ محمد صالح عبد الله أحد أولئك الذين أداروا النقاش حتى خرجنا بضرورة دخول الميدان من خلال التنسيق مع مكتبي قوات التحرير الشعبية، وجبهة التحرير الإرترية، بجدة، وشكلنا وفدا، وفيما أذكر كان منهم الأخ محمد الحسن، المقيم حاليا بجبوتي، حفظه الله ورعاه، وزارنا الأخ عمر الحاج إدريس، وشجعنا في المضي قدما نحو تنفيذ هذا القرار، وأبدى تعاونه معنا، وفي الإجازة الصيفية تحرك وفدنا إلى السودان، خطوة أولى لدخول الميدان، إلا أن الشيوعيين، أطلق عليهم ما شئت، لا أدري أكانوا شيوعيين أغبياء انتهازيين، أم شوعيين أذكياء مخلصين لشيوعيتهم، وواعين بها، كانوا يسموننا القوى الرجعية، وبهذا التصنيف حالوا دون دخول وفدنا الطلابي الميدان، بعد أن وصل بورتسودان، ووضعوا أمامه العراقيل.
كل هذه الأحداث شارك الشيخ محمد صالح عبد الله في صناعتها، والإسهام فيها، وحين زار المناضل عثمان صالح سبي المدينة المنورة، رحمه الله، كان فقيدنا الشيخ محمد صالح عبد الله رحمه الله أحد من التقوا به، وناقشوا معه أوضاع الساحة الإرترية، وعبروا عن تخوفهم من المصير المجهول للشعب الإرتري.
وعندما زارنا الأستاذ أبو الحسن صالح فكاك، ومحمود صالح سبي، رحمهما الله، وحاولا أن يجعلا من المنح الدراسية حكرا على جهاز التعليم لقوات التحرير الشعبية، اعترض الطلاب جميعهم، وعلى رأسهم الشيخ محمد صالح عبد الله رحمه الله رافضين محاولة كهذه، وأكدوا على ضرورة إبقاء المنح الدراسية كما هي، بيد الجماعة الطلابية، وكان يومها عميد شؤون الطلاب الشيخ عبد الرحمن الحذيفي إمام الحرم المدني حاليا حفظه الله.
هكذا كان فقيدنا رحمه الله عنصرا فعالا، جادا في تحصيله العلمي، ينجح بتفوق في دروسه، وفي الوقت نفسه مهموما بوطنه، وتطوراته السياسية، متألما من هيمنة اليسار الماركسي على الثورة، ومن تطاوله على قيم المسلمين من الشعب الإرتري الأبي، وكان يؤمن أن طريق الدعوة إلى الله من خلال التعليم هو الأنجح في مقاومة الأفكار التحريفية والإنحلالية التي حاول المنشقون عن قيمهم الإسلامية وثقافة مجتمعهم، من اليسار الماركسي، من أبناء المسلمين ترويجها بين المجتمع الإرتري المسلم، جهلا منهم وسطحية، والذين نادوا فيما كتبوا وسطروا بإغلاق المعاهد الإسلامية والتضييق عليها، كما كتب أبو عري السجين، كادر الجبهة الشعبية، فك الله أسره.
انطلاقا من هذه القناعة الراسخة في نفسه لم يتردد رحمه الله بعد إكمال مراحله التعليمية من التوجه فورا إلى حيث نشأ وترعرع، مدينة صنعفي، وهناك أسس صرحا تعليميا نفع به أهله وعشيرته الأقربين، وقام برسالة ربه بين قومه، يتحمل معاناة الدعوة إلى الله صابرا محتسبا حتى وافاه الأجل المحتوم.
استخلاصا من النعي الذي قرأته اعتقله نظام أفورقي في سجونه المظلمة، وضيق عليه نشاطه، وأخرجه من السجن عليلا مريضا، لا يجد علاجا، ولا يحظى برعاية؛ لأنه في جحيم نظام لا يتعايش مع الإسلام والفكر الإسلامي أبدا، ما لم يكن هو المتحكم، ويرسم له خطوط سيره وتحركه.
كنت أتابع نشاطه رحمه الله، وكنت أسأل عنه من يعرفونه، وبالذات الأخ الزميل عبد خير الدين في لندن، فما كنت أسمع إلا صبره وعزمه في المضي على الطريق الذي اختاره.
كان الشيخ محمد صالح رحمه الله يعلم يقينا، وهو يؤدي دروسه الشرعية في مسجده بصنعفي، أن مجلسه ملغم بالمخبرين والجواسيس، يتتبعون كلامه، ويتصيدون ألفاظه، عسى أن يجدوا فيها ما يرضون به أسيادهم، وبلغني أنه كان يقول للحضور موجها خطابه إلى هؤلاء المخبرين بالتحديد، من باب إياك أعني واسمعي يا جارة: عندما تنقولون أقوالي قولوا ما قلته بالضبط دون زيادة فيه أو نقصان منه أو تحريف.
هكذا كان يعيش الشيخ محمد صالح عبد الله رحمه الله في هذا الجو الكئيب، الملوث بالمخبرين، ولكنه ظل صامدا، يؤدي رسالة ربه، إلى أن وافته منيته وهو في هذه الثغرة من ثغور الإسلام، عازما على أن لا يؤتى الإسلام من قبله، كان آخر لقائي به عام 1987م، في العاصمة أسمرا، بالقرب من جامع الخلفاء الراشدين، وقفنا معا لبضع دقائق، يرحب كل منا بالآخر، ثم افترقنا إلى أن نعاه الناعي، فرحمة الله عليه في الخالدين، وبارك في نسله، وتقبل منه صالح عمله، وألهمنا جميعا الصبر والسلوان في فقد هذا الفارس العظيم، وإن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون، وعزائي لكل من له به صلة قرابة أو صداقة من أهله، في المملكة العربية السعودية، وفي السودان، وفي إرتريا، وعلى وجه الخصوص أبناءه وأهله بمدينة صنعفي.
وكتبه/ الأستاذ الدكتور جلال الدين محمد صالح
الرياض 9/8/1437ه ـــــــ 16/5/ 2016م
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=37174
جزاك الله خير دكتور جلال الدين أفدتنا بما لم أسمعه أنا من قبل من نشاطات شيخنا رحمة الله عليه في مرحلته الدراسية في قضايا الوطن , مرة أخري لكم مني الشكر والتقدير