العلاقات الارترية-الاثيوبية الى اين؟
لسان الدين عثمان
التحولات السريعة والكبيرة التي شهدتها اثيوبيا بعد الاستقالة المفاجأة لرئيس وزراء اثيوبيا هيلي ماريام ديسيلين في 15 فبراير ، وتولى المنصب الدكتور أبي احمد بعد شهر ونصف في الثاني من ابريل واعلانه في اول خطاب له امام البرلمان بأنه سينفذ قرار لجنة ترسيم الحدود الصادر في ابريل 2002 وما تلا ذلك من احداث متسارعة، تمثلت في اعلان الرئيس الارتري ارسال وفد، وتبادل الزيارات على اعلي المستويات خلال فترة وجيزة ، وما شهدناه من مشاهد درامية جعلت مواطني البلدين يشعرون بأنهم استفاقوا على فلم بعد ان بدأ عرضه للجميع. بالتاكيد هنالك ترتيبات سبقت هذا العمل الدرامي، ولكن لا ندري من يقف وارءه ولكن استغرق تطلب اعداده وقتا وجهدا ولا ندري فيما اذا كانت استقالة ديسيلين جزء من ترتيباته، وكل ما يمكن ان يقال بهذا الصدد هو انها كانت خطوات ضرورية وملحة للنظامين، والسؤال يبقى ما الذي ستجنيه الشعبين؟
فمن المبكر الحديث عن المدى الذي ستيذهب اليه الدكتور ابي احمد في اصلاحاته السياسية والاقتصادية ولهذا من الصعب التكهن بانعكاسات ذلك على الساحة الارترية، لان الرجل لم يطرح برنامج عمل اصلاحي متكامل حتى الان عدا الرسائل التي وجهها في خطاباته والاجراءات التي اتخذها بعد توليه المنصب ربما لتهيئة الاوضاع الداخلية لما سيتم تنفيذه مستقبلا.
وعليه كل ما نقوله عن هذه التطورات هو مبني على التصريحات الاعلامية والخطابات البيانات الرسمية ومشاهد اللقاءات والاجواء الاحتفالية التي رافقت زيارات الوفود. ربما يشاطرني العديد من الارتريين والاثيوبين الراي باننا لم نعتقد يوما بان الازمة التي اسالت كل هذه الدماء وفقدنا خلالها عشرات الالاف من الشهداء وما شهدناها من دمار وتهجيرستنتهي بهذه الطريقة الدرامية وبهذه الاجواء الاحتفالية والسرعة القياسية لينتقل البلدان ليس الى مرحلة تطبيع العلاقات بل التعاون في كافة المجالات والشروع في بناء الشراكات والتحالفات. انها حكمة القيادات التي تقدر مصلحة شعوبها وتضعها على قمة اولوياتها.
ابي احمد والقوارب المطاطية *
بدا ابي احمد في اطار لعبة العلاقات الارترية الاثيوبية كلاعب جديد في مسرحها وكأنه قارب مطاطي يستخدمه المهاجرون غير الشرعيون للوصول الى الدفة الاخرى للبحر المتوسط (اروبا)، حيث يفقد القارب قيمته بمجرد وصول الحمولة الى هدفها سالمة، وينسى المهاجر الخدمة الكبيرة التي قدمها له هذا القارب فيتركه على الشاطئ لتتقاذفه الامواج، أو يقع بين ايدي المهتمين بحماية البيئة البحرية فيتم التخلص منه بطريقة امنه. فالرئيس الارتري حاله كحال هؤلاء المهاجرين (الذين جزء منهم مواطنين ارتريين)، لان الخيارات امامه محدودة، والمخاطر المحدقة به كبيرة، والافاق امامه موصدة بعد ان فرض العزلة على نفسه بغيه وتجبره فلم يعد له سند بينهم، فبقي حائرا بين من يحيطون به والمجبرين على السير معه على نفس الرحلة، فيركب القارب المطاطي (ابي احمد) فان وصل الى المبتغي بسلام فهو قمة الانتصار وان تعطل القارب وغرق يغرق معه او يجد مسعفا ينقذه، ولكن في كل الاحوال يبقى مصير القارب مجهولا بانتهاء مهمته.
وشخصيا استبعد بان يكون الرئيس الارتري هو الذي اوحى للشباب الراغب في الهجرة باستخدام هذا النوع من القوارب المطاطية بعد ان فشلت عمليات تهريب الاسلحة والبشر عبر سيناء وتحذير الاسرائيلين لمن يقف خلفها.
اذا كان للرئيس الارتري اسياس افورقي اسبابه الموضوعية ليُقدم على هذه الخطوة التصالحية مع اثيوبيا وبهذه الطريقة، فما الذي يدفع بدولة رئيس وزراء اثيوبيا ابي احمد ليرتمي في احضان اسياس وبهذه اللهفة والسرعة القياسية ودون موافقة صريحة من اقوى شركائه في الحكم(التجراي) في ظل الشتائم التي لا يزال الرئيس الارتري يكيلها لهم؟!
فكل الذين يعرفون الرئيس اسياس يدركون جيدا بان كل هذا العناق الحار وتشابك الايدي وتحريك الشارع للاحتفاء بشكل هيستيري لاستقبال الضيف القادم من بيشاشا في اقليم اروميا ، ما هو الا لتحقيق مأرب خاصة وتوجيه رسائل الى الاشقاء الاعداء في اقليم التجراي.
فالرئيس الارتري اقدم على هذه الخطوة بعد ان هيأ الوضع الداخلي بشكل كامل وتخلص حتى من الخصوم المحتملين وغير المحتملين في الداخل ليفعل ما بدا له ويقرر مصير البلاد والعباد دون ان يعير اي قدر من الاهتمام لاحد.
والتجراي يعرفون اكثر من غيرهم عقلية اسياس ويفهمون طريقته في العمل وان كل مشاهد الاستقبال التي بثتها القناة اليتيمة لا شك انها مكررة والجديد فيها هو ابي احمد. فقد كررها مع العديد من الزعماء خلال مسيرته السياسة الطويلة ابتداء بالشهيد عثمان سبي ومرورا بقيادات عسكرية وسياسية في الثورة الارترية، ومع زعماء دول عدة مثل زيناي وعلي عبدالله صالح والبشير والقذافي وغيرهم، وقد لا يكون ابي احمد ومحمد بن زايد اخر من يلعب دور “القوارب المطاطية” في مسرحيات الرئيس اسياس التي غدت تقليدية في ادائها واخراجها.
فهم التجراي مغذى الرسالة وما يجري حولهم فجاء ردهم دبلوماسيا يرحب بالسلام مع “الاشقاء في ارتريا”، ربما حفاظا على انجازاتهم الكبيرة في اثيوبيا على مدى 28 عاما، ولكن يبقى السؤال فيما اذا كانوا سيتعاونون بشكل جدي في تنفيذ الانسحاب، بالرغم من ان شرطهم قد تم احترامه ويتم العمل به فعليا بجلوس الرئيس اسياس على طاولة المفاوضات وتوقيع اتفاق المبادئ للتعاون في عدد من القضايا دون تنفيذ قرار لجنة ترسيم الحدود.
وفابي احمد والرئيس اسياس يدركان جيدا بان الخلاف في جوهره هو خلاف بين ابناء نفس العشيرة في البلدين وان اخذ عناوين وطنية بحكم سيطرتهم على مفاصل الحكم في ارتريا واثيوبيا. واللقاءات التي تمت خرجت باتفاق تضمن مبادئ عامة ولم يشر الى القضية موضوع الخلاف بل تم الانتقال مباشرة الى تطبيع العلاقات وتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والامني. وان الشروط التي تمسكت بها حكومة زيناوي تنفذ الان بحذفيرها، لان اللقاءات والمباحثات التي رفض الرئيس اسياس اجراءها في السابق ليستخدمها حجة لإطالة امد الازمة لاسباب داخلية، تم الالتزام بها لان اثيوبيا لم تنفذ الشرط الارتري بالانسحاب اولا، وتم التغاضي عنه في اجواء احتفالية لاستغباء الشعب الارتري.
ارتريا تدرك جيدا بان الجلوس على الطاولة لابد منه لتنفيذ قرار المحكمة لبحث مصير سكان عدد من القرى الارترية التي اصبحت ضمن الخريطة الاثيوبية وكذا قرى اثيوبية انتقلت سيادتها الى ارتريا ولا يعرف مصير سكانها. كان هذا جوهر السؤال الاثيوبي في السابق وهو سؤال عملي ولم يكن فيه التفاف على قرار ترسيم الحدود كما ادعت الحكومة الارترية لشئ في نفسها.
لا شك بان بروز ابي احمد على راس السلطة في اثيوبيا في ابريل الماضي، يمثل فرصة نادرة لاسياس الذي سيحسن استغلالها لتحقيق مأرب عدة ليس اخرها التخلص من عبئ الحصار الدولي الذي فرض على البلاد في 23 ديسمبر 2009م، وتحسين الحركة التجارية لتعويض ما فقده على الجانب السوداني بعد اغلاق الحدود، وفي اعادة ترميم علاقاته مع دول الجوار، وانعاش الموانيئ التي تحولت الى اعشاش للدبابير، وتفعيل عضويته في عدد من المنظمات الاقليمية والدولية مثل الايقاد وغيرها، وهو ما تبرع باعلانه وزير خارجية اثيوبيا ورقيني قيبيو، واتضح من الطلب الذي تقدم به ابي احمد الى الامين العام للامم المتحدة غوتيريس لرفع الحصار عن ارتريا. ولهذا اظهرت اللقطات التلفزيونية الرئيس الارتري كالوحش الجائع الذي يسيل لعابه عند الانقضاض على فريسته. ليس هذا فحسب بل، هنالك بالتاكيد منافع اقتصادية وسياسية للبلدين وللشركاء الجدد في المنطقة الامارات والسعودية، وكل الحكام الشعبويين الذين يمتطون قضايا العرق والثقافة للوصول الى السلطة كحال الرجلين اسياس وابي.
فعلى المستوى الشخصي ليس هنالك تكافؤ بين خبرة الرجلين وتجاربهم، فاسياس هو نتاج مخاض عسير، ووصل الى ما وصل اليه عبر تجربة نضالية قاسية وصراعات مريرة، اقل ما يمكن ان يقال عنها انها تجربة استثنائية تخلص خلالها عن اعداد كبيرة من القوارب المطاطية (مع بالغ تقديري واحترامي للشهداء والمغيبين قسرا الذين غدر بهم) خلال 52 عاما من تجربته السياسية والعسكرية التي أكسبته دهاء سياسيا وقدرة عالية على اتخاذ قرارات مصيرية خلال لحظات وبحرية مطلقة دون الرجوع الى احد. فبدت برجماتية الرجل في الكثير من الاحيان وكأنها فعل ساحر حليفه الشيطان.
فالتجربة السياسية والقيادية لرئيس الوزراء الاثيوبي أبي احمد قد لا تتعدى الثماني سنوات وهي فترة تبدو مماثلة لتجربة ابن الرئيس الارتري ابرهام، الذي سلطت عليه الاضواء خلال الزيارة ربما تلميحا لكونه حليف محتمل لابي احمد. ولا يحيط بالرجل احد من ساسة اثيوبيا المخضرمين في السياسة او في ادارة الملفات الشائكة للعلاقات الارترية الاثيوبية التي تختلط فيه المصالح العليا للبلدين بالعوامل الثقافية والطموحات الشخصية وحتى الامور النفسية.
ومع هذا لا اعتقد بان أبي احمد بعيد عن الواقع الارتري فهو يدرك بانه يتعامل مع رئيس جهاز امن الدولة وليس رئيس دولة بالمعني المتعارف عليه، لانه لا وجود في ارتريا لدولة، بل الدولة تتجسد في شخص الرئيس والولاء له هو الوطنية الخالصة والاختلاف معه خيانة عظمى. وورقة المبادئ التي تم التوقيع عليها تعد من الوثائق القليلة جدا التي توقع امام العدسات والشعب الارتري لم يعتاد على رؤية مباحثات تجري على مستوى ارتريا واي بلد، فلا الشعب ولا حتى الوزراء يعرفون ما يفعله الرئيس في داخل البلاد ولا خارجها عندما يلتقي بمسئولي دول اخرى.
فاي كانت المشاهد المسرحية للقاءات فلا ضرر من السلام كما قال ابي احمد نفسه ولكن بشرط ان يأتي السلام خاليا من الخداع ونابع من ارادة سياسية وقرار استراتيجي، خاصة وان الكثير من الشكوك تحوم حول مصداقية الطرفين وبشكل خاص الرئيس الارتري الذي يعتبر الاخرين مجرد جسور يعبر بهم الى مبتغاه.
نعم لا ضرر ياتي من السلام اقله يتيح لقطاع من الشعب الارتري فرصة ممارسة هوايته وتقاليده السياسية في استقبال الضيوف بشكل يرضي من يرى فيه “خليفة الله على ارضه”، ليفتح امامهم خطوط الاتصال والنقل للتواصل مع ذوي القربى، ويحقق امانيهم في رؤية مختلف انواع الطاف الاثيوبي على موائدهم ويحررهم من الذرة المنخفضاتي الذي ارخى عضلات بطونهم مع شح انتاج اقليم سراي من الطاف المتهم اصلا باحتوائه على كميات عالية من الحديد.
الفقر في اقليم التجراي شوكة في خاصرة الشعب الارتري:
لا احد يعلم ما العائد الذي ينتظره أبي احمد وهو يتعامل بسخاء مع الجانب الارتري، ولكن ما يبدو شبه مؤكد هو انه سيسوق السلام مع ارتريا في تجراي دون الخروج من شروطهم بهدف التخلص من اعباء فاتورة الفقر والبطالة على حساب ارتريا التي سيقدمها على انها مفتاح الحل للمتاعب الاقتصادية التي يعاني منها الاقليم، بفتح منافذها امام الراغبين للتوجه شمالا. انها خطوة من شانها ان تدفع باعداد كبيرة من العمالة والمنتجات التجراوية الىى ارتريا.
والتجراي يدركون بانهم اكثر المستفيدين من تطبيع العلاقات وما يصاحبها من عودة الحركة التجارية، وبأنهم احوج من غيرهم لها لما يواجهونه من ازمات اقتصادية مزمنة.
حيث اعلن مكنن ابرها رئيس مكتب التنمية الاقتصادية والمالية في اقليم التجراي في احتفال اقيم في مقلي يوم الثلاثاء الماضي لاحياء اليوم العالمي للسكان الذي يصادف 11 يوليو من كل عام، “بأن اكثر من 75 % من سكان اقليم التجراي البالغ عددهم 4.2 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر”. وان الاوضاع تزداد سوءا بسبب عدم التوازن بين النمو السكاني والتنمية الاقتصادية. واكد ابرها بان “متوسط دخل الفرد في الاقليم لا يتجاوز ثلاثة بر في اليوم ) 1 دولار = 27.5. بر). فيمكن ان يتخيل الانسان ان كان هنالك وضع اكثر مأساوية من هذا، في اقليم حكم ابناءه اثيوبيا وسيطروا على مقدرات اكبر دولة في القرن الافريقي على مدى اكثر من ربع قرن واتهموا بنقل التراب والحجر من الاقاليم الاخرى لتحقيق التنمية فيه، ولكن النتيجة على الارض لا نقول صفرا ولكن تظل غير مرضية.
والصورة تبدوا اكثر قتامة عندما ندرك بان اكثر من 83% من سكان هذا الاقليم المجاور لارتريا ويتداخل سكانه مع حوالي نصف سكان ارتريا اثنيا وثقافيا، بأنهم يعيشون في المناطق الريفية التي لا تتوفر فيها ابسط الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم ومواصلات، ويعتمدون بشكل كلي على الزراعة في ظل الجفاف المتكرر مما يجعلهم دوما عرضة للمجاعات والكوارث المتكررة.
فالحروب والغزوات التي كان حكام تجراي يشنونها في كل عام تقريبا على القبائل في ارتريا ورسمت ملامح العلاقة بين الشعبين عبر قرون كانت مدفوعة بهذه الحاجة الاقتصادية والاساطير الخرافية. لان صورة ارتريا ارتبطت في العقل الباطني للتجراي بانها بلاد غنية وتتدفق عليها الخيرات عبر البحر من بلدان العالم، ويكفي ان اشير هنا الى ما نقله كاتب سيرة الراس الولا الذي اتي من تمبين في تجراي وحكم منطقة حماسين وسراي ما بين 1876 – 1885 اي حتى الاحتلال الايطالي لارتريا، بعد ان اقصى الراس ولدي ميكائيل سلمون حاكم ظعذجا. فعند تعيينه حاكما على حماسين وسراي خاطبه الامبراطور يوهنس قائل: “الولا منحتك هذه الارض التي يتدفق فيها الحليب والعسل”.
كان الراس الولا يجبر القبائل في اقليم البقوص والمناطق المجاورة على دفع عشرات الالاف من رؤوس الابقار والضأن والماعز كل سنة في اطار حملات عسكرية كان يقوم بها في نهاية كل موسم زراعي اي بعد شهر سبتمبر من كل عام. وعند مغادرته ارتريا كان قد ترك خلفه عشرات الالاف من الجنود التجراي في ارتريا ليشكلوا جزء من النسيج الاجتماعي الحالي لقومية التجرينية. ربما هذه هي الصورة التي لا يزال يحملها التجراي عن ارتريا، ولهذا اصبح البسطاء منهم لا يرون احلامهم في الخلاص من الفقر الا بالوصول اليها وهي نظرة مشابهة لتلك التي يحملها بعض الشباب الذي يحلم بالوصول الى اروبا اليوم. وعادة لا يرى حكام اثيوبيا خلاص الاقليم من فقره الا بتوجيه شعبه شمالا نحو ارتريا بالرغم من غنى جنوبهم اكثر من شمالهم، ولكن في الجنوب شعوب تقف سدا منيعا امام تقدمهم.
ارتريا بالتاكيد لم تكن اغنى من تجراي ولكنه فعل الميثولوجيا والحكايات التي تجعل الشعوب لا ترى احلامها الا في بلوغ مسرح احداث قصص الثراء وحياة الرخاء، كما كان يحدث مع الاروبيين في العصور الوسطى والحكايات التي كانت تدفع بمغاميرهم للابحار شرقا نحو اسيا.
وعليه سيبقى الفقر في اقليم التجراي مصدر تهديد أمني لارتريا، على كافة الاصعدة. فهو تهديد سياسي واقتصادي واجتماعي، وحالة عدم الاستقرار التي يعيشها الشعب الارتري منذ اكثر من مئة عام وما قدمته مشاريع التنمية الايطالية من اغراءات وحتى هذا اليوم هو نتاج هذه العلاقة الاقتصادية المبنية على الاوهام التي يتفرد بها التجراي عن بقية المكونات الاثيوبية. فالامهرا مثلا حتى وان تمكنوا من حكم ارتريا الا انهم لم يهددوا امنها الاجتماعي ولم يحدثوا تغيير في تركيبتة سكانها.
ولا يمكن ان تنعم ارتريا بامن سياسي واجتماعي أو تشهد تعايش بين مكوناتها الاسلامية والمسيحية ما لم تجعل اي حكومة وطنية ارترية قضية الفقر والتنمية في هذا الاقليم على قمة اولوياتها، باعتبارها احدى مهددات الامن القومي الارتري ولا يتحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي الا بالتعاون في حل هذه المعضلة. فالتجراي في ارتريا لم يكونوا منذ العهد الايطالي مجرد عمالة وافدة، بل اصبحوا يلعبون ادوار سياسية حاسمة في تحديد مصير البلاد واداة فاعلة في حسم الصراعات البينية على السلطة.
فمهما فعل الشعب الارتري وبذل من ارواح للدفاع عن وجوده سوف لن ينعم بالامن والاستقرار ما لم يعترف بان الفقر في تجراي شوكة في خاصرته ولا مفر من التعاون بشانه، ولكن دون المساس باستقرار المجتمع الارتري، ودون جعل التجراي اداة في الصراع على السلطة في ارتريا.
ومن غير المستبعد بأن ما حققه التجراي على الارض في ظل حكم الرئيس اسياس قد اغرى أبي احمد ومن يقف وراءه للعمل على الدفع بالمزيد منهم الى ارتريا للالتفاف على مشروع الاستقلال برمته.
وفي هذه الحالة سوف لن يختلف ابي احمد في رؤيته عن اباطرة اثيوبيا الذين سبقوه اذا كان فعلا يرى خلاص الاقليم من فقره يكمن في فتح ابواب اسمرة ومصوع امام اهله، ولا يتم هذا دوما الا على حساب المجتمع المسلم في السهول الشرقية والغربية. لان اي توسع سكاني في المرتفعات يتم على حساب اراضيه وموارده واسقراره وامنه لما يصاحب هذا التوسع من عمليات الازاحة السكانية والتهجير باعتبارها اسهل الحلول المعتادة لحكام الهضبة وما ورائها عبر قرون طويلة. حيث يتم الدفع بسكان هذه السهول نحو السودان وهو ما شانه ان يولد صراعات لم تألفها المنطقة.
انعكاس التطورات الحالية على الاوضاع الداخلية الارترية:
اما على المستوى السياسي فلا اعتقد بان يكون لهذه الخطوات التصالحية انعكاسات كبيرة على الصعيد الداخلي الارتري. ان التطور المفاجئ في العلاقة الثنائية للبلدين اعطت اسياس الاحساس بالنصر وبدا وكأنه يفرض شروطه واجبر الطرف الاخر على الرضوخ له، مع ان الواقع يخالف ذلك. ولكن نشوة الاحساس بالانتصار الكاذب سوف تجعل الرجل ممتنعا عن اجراء اصلاحات أو تفعيل للدستور بل سيتحجج باعداد دستور جديد او يشغل الشارع باعداد ابنه لخلافته، وسيبقى السجناء منسيين من جميع الاطراف.
واخيرا يبقى مصير المعارضات التي يستضيفها البلدان رهن التعاون الامني كالعادة، وقد لا يكون الامر بذاك القدر من الخطورة على اي من الطرفين. فالمعارضة الاثيوبية يتم التخلص منها بتسريبها الى السودان ومنه الى بلدان المهجر، والبعض الاخر يتم توطينه في ارتريا لارتباطهم بعلاقات من نوع ما.
اما المعارضة الارترية فوجودها الفعلي لا يتعدى الواقع الافتراضي فهي دوما جاهزة لمثل هذه التحديات والرئيس الارتري يدرك جيدا سوف لن يرى هذه التنظيمات الا عبر واقعها الافتراضي فلا خوف عليها لانها بين ايدي أمنة.
الا ان القضية الاهم بالنسبة لكل ارتري تبقى الافراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المفقودين الى جانب هاجس الامن والسلامة الشخصية.
فنظرا لما اثارته وتثيره ممارسات الاجهزة الامنية على مدى اكثر من 28 عاما، من رعب وخوف بسبب الاعتقالات التعسفية والخطف والاخفاء القسري والقتل في الشوارع، وتلفيق التهم للاستيلاء على الاملاك فان قضية السلامة الشخصية لكل ارتري اصبحت اهم بكثير من تفعيل الدستور والعناق بين قادة البلدين. ولكن لا يتحقق هذا الا بوجود دستور وبالاحتكام الى القانون وتحييد الاجهزة العسكرية والامنية التي تسخر اليوم لخدمة مصالح قومية واحدة هي قومية التجرنية.
فجل من تركوا البلاد لم يتركوها بحثا عن حياة افضل في بلدان غيرهم بقدر ما تركوها مكرهين خوفا من غدر الاجهزة الامنية بهم، وغياب القانون، والنظام يدرك هذه الحقيقة فيتبعها استراتيجية للاقصاء بتوجيه هذه الممارسات ضد فئات بعينها من المجتمع الارتري.
……………….
لسان الدين عثمان
11/7/2018
* اعتذر لجميع من اجبرته الظروف القاهرة على ركوب امواج البحر على القوارب المطاطية واقدر عاليا الارواح التي زهقت خلال هذه الرحلات وعزائي لكل الذين فقدوا اعزاء لهم وانا واحد منهم. وما استخدامي لهذه الوسيلة الا لتقريب الصورة للقارئ.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=43334
حياك الله الاستاذ / لسان الدين عثمان
حقا مقال رائع جدا