العلاقات الارترية الاثيوبية بين مكايدات النخب وتواصل الشعوب ( 1 – 2 )
محمود عمر
بورتسودان
عاشت شعوب هذه المنطقة منذ حقب تاريخية موغلة في القدم علاقات متداخلة فكانت الممالك الاثيوبية القديمة تحج الي بيت المقدس متبعةً شاطئ البحر الأحمر منذ فترة نبي الله سليمان عليه السلام كما توضح الأسطورة الاثيوبية والتي نتج عنها تصاهر سليمان مع سلالة هيلي سلاسي، كما كانت هناك حروب دويلات الطراز الاسلامي مع الدويلات المسيحية، وكذلك حروب البجا مع ممالك الحبشة في كلٍّ من أكسوم وغوندر، وكذلك حرب حاكم شوا مع مملكة أكسوم وامتداد هذا الصراع داخل الأراضي والشعوب التي تقع ضمن حدود ارتريا الحالية بالإضافة لعلاقات التصاهر والاندماج المتبادل في المجتمعات، أما التداخل الآخر في هذه العلاقة فهو أن أي قادم الي اثيوبيا كان قدومه عبر البحر الأحمر بل عبر ارتريا بالتحديد، بدءاً بهجرة الأجاعز من اليمن أو ما سبقها من هجرات ثم المبشرين الدينيين منذ اليهودية ثم المسيحية ثم هجرة الصحابة الي الحبشة بعد الاسلام، وحتى إيطاليا التي خاضت حرباً ضروساً وحكمت اثيوبيا بعد هروب هيلي سلاسي دخلت الأراضي الاثيوبية عبر البوابة الارترية المطلة علي البحر الأحمر، إذاً هذا التواصل بشقيه السلبي والإيجابي يؤكد أزلية العلاقة وتقاطع المصالح والمضار بين الشعبين.
بعد بروز العصر الصناعي في اوربا وحاجتها للمواد الخام توجهت لتغطية حاجتها الي الدول النامية وخاصة افريقيا، فكانت الدول التي تقاسمت الموارد الافريقية هي فرنسا وبريطانيا وايطاليا ومنذ ذلك الحين تشكلت الدولة الارترية كمستعمرة ايطالية بقرار من ملك ايطاليا/ امبيرتو الأول في يناير 1890م، ولكن بالرغم من قيام الحدود السياسية ظلت المصالح الاستراتيجية للمجتمعات تتجاوز الحدود وزادت تعقداً في مرحلة قيام الحركات التحررية وعصبة الأمم حيث رأت نخبة من أبناء التجرنيا وبعض قياداتها المتنفذة ضرورة إيجاد وطن واحد للناطقين بالتجرينية وبتشجيع ومباركة من المرجعية الثقافية والدينية لكنيسة أكسوم وذلك بسبب التهديدات التي كانت تعانيها من حاكم شوا الأمهري وما يدعم هذه الحقائق المذكـِّــرة التي تقدمت بها قيادات من تجرنيا التجراي لوفد الأمم المتحدة الزائر لتجراي بعد انتصار الحلفاء للنظر في مصير المستعمرات الايطالية حيث طالب التجراويون في مذكرتهم بأن ينظر مصير التجراي كجزء من ارتريا، وانعكس هذا التواصل الاجتماعي في الصراع الذي احتدم بين نخب التجرنيا في مرحلة تقرير المصير، حيث قاد الأب الروحي لمشروع تجراي – تجرنيي ولد آب ولد ماريام تياراً يطالب بحكم مميز مشروط مع اثيوبيا يضمن مصالح التقرنية بما فيها امتداد التجراي في ارتريا وتشكل ثقل هذا التيار من التجراي وأبناء أكلي غوزاي وسرايي الذين لهم امتداداتهم الجغرافية والاجتماعية مع العمق التجراوي وكان هذا التيار يسعى لتقاسم السلطة مع حكام أديس أبابا الأمهرا، وقاد التيار الآخر السيد/ تدلا بايرو وكان يسعى لقيادة التجرنيا عبر قبيلة المركز (الحماسين) أسمرا، وبذلك يكون الحماسين سادة اسمرا وتتعامل أديس مع الحماسين لتأمين مصالحها في ارتريا أو التجرنية عموماً، واختارت أديس أبناء أسمرا، ومكن هذا التحالف الحماسين من تحقيق مكتسبات عدة من تعليم وثروة وسلطة حتى وصلوا لقيادة اثيوبيا عبر انقلاب الدرق (أمان عندوم).
بعد التحولات الضخمة التي مرت بها اثيوبيا عقب سقوط نظام هيلي سلاسي وسيطرة الدرق واعلان توجهه السياسي الموالي للمعسكر الشرقي تحول تفكير نخبة من أبناء التجرنيا الي صياغة العلاقة مع اثيوبيا من جديد وفق المصالح المشتركة، فكان إعادة لحمة تجراي تجرنيا من جديد حيث مثل الحماسين ركيزة المشروع لجاهزيتها أولاً بمشروعها النخبوي (نحن وأهدافنا) وثانياً لفقدانها حليف الأمس في اديس أببا (هيلي سلاسي)، ثم التصفيات الجسدية التي قام بها نظام الدرق لعدد من أبناء الحماسين شركاء هيلي سلاسي ثم التصفيات التي تلت انقلاب منقستو علي أمان عندوم وإغتياله وكل من كان موالياً له من الجنرالات، وتزامنت وتشابكت هذه التطورات المحلية مع الأوضاع الدولية المتمثلة في بحث الغرب عن موطئ قدم في هذه المنطقة الحيوية للصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي حيث بدأ الغرب الاهتمام بهذه القوى وعم هذا الاهتمام تلاحم التغراي والتجرنيا لمواجهة المصير المشترك في المنطقة حتى تمكن التحالف من تحقيق أهدافه بالقضاء علي دور جبهة التحرير الارترية ثم تحقيق النصر بسيطرة التجرنيا علي ارتريا والتجراي علي اثيوبيا والقضاء علي دور قبيلة المركز في اثيوبيا (الأمهرا)، بعد تحقيق هذا النصر بدأ الصراع القديم المتجدد بين رغبة أسمرا (حماسين) في استمرار إدارة المشروع من اسمرا وهي ترى أنها مكنت التجراي من السيطرة علي أديس وأن التجراي لا يمكنه الاستغناء عن اسمرا من جهة وبين طموح حكام اثيوبيا الجدد لتمثيل الصدارة وإدارة المشروع من أديس أبابا من جهة أخرى، ويظل صراع النخب التجرنياوية حول من الجدير والأولى بإدارة المنطقة قائماً، فإذا كانت نخبة التجرنيا في أديس وفرت فرصاً أفضل لإدارة الشأن الاثيوبي تحت مظلة مشروع جبهة (الإهودق) وأوجدت مناخ شراكة للشعوب الاثيوبية تحت النظام الفدرالي الاثني وإقرارها حق تقرير المصير للقوميات في الدستور والسعي لإيجاد شراكة استراتيجية حتى أقرت اللغة الامهرية لغة تفاهم مشترك بين الشعوب الاثيوبية بل ترجلت عن رئاسة الدولة لخيار اثيوبيا الكبرى، إلا أن التعامل مع الملف الارتري ظل يشكل أهمية، إذ تسعى اثيوبيا لخلق حليف مؤثر من أبناء التجرنيا الارتريين وحتى لا نتهم بالتهويل والمبالغة في قراءتنا للأوضاع نورد الأدلة التالية وتتمثل في مراجعة دراسة د. تسفاطين مدهني الأولى (ورقة نقاش) ودراسته الأخيرة عن (موت ارتريا) بالإضافة للمبادرة من طرف الحكومة الاثيوبية بإرجاع الممتلكات التي صودرت من الارتريين إبان أزمة الحرب الأخيرة، ثم توفير فرص دراسية مفتوحة لأبناء التجرنيا الارتريين في جامعة أديس والجامعات الاثيوبية الأخرى حيث وفرت لهم في العام 2011م وحده عدد 600 مقعد دراسي. كذلك نرى تجاهل الاثيوبيين الواضح للتنظيمات العريقة والاهتمام بالتنظيمات الشبابية الحديثة التي يسيطر علي غالبيتها شباب التجرنيا أو الموالون الأفكار الاثيوبية أو، ودليل آخر تواصل كلتا منظمات المجتمع المدني وقيامها بنشاطات تضامن مشتركة وكان أهمها إقامة سمينار موسع في نوفمبر 2014م بأديس أبابا تحت مظلة التواصل بين الشعبين الارتري والاثيوبي وكان الحضور أكثر من 200 شخص من مثقفين ورجال دين وواجهات مجتمعية من تجرنيا الدولتين وخاطبه السيد/ سبحت نقا أحد أعمدة السياسة في التجراي والأب الروحي لمشروع (تجراي – تجرنيي) في نسخته الحديثة والذي أكد علي عمق العلاقات الاستراتيجية بين الشعبين الارتري والاثيوبي وقال إن الأنظمة زائلة بينما مصالح الشعوب باقية. هذه الملاحظات تؤكد اهتمام نخبة التجرنيا في أديس بأهمية دورها في الشأن الارتري، أما الحماسين قبيلة المركز في اسمرا وبحكم قيادتها للمشروع في فترة الكفاح المسلح آثرت الاستمرار في إدارة المشروع من اسمرا وبنفس عقلية تحالف مرحلة التحرير بالاستمرار في النهج الإقصائي للقوى الارترية الأخرى السياسية منها والاجتماعية واعلان رأس النظام انفراده بالاستمتاع بنصرالاستقلال معتمداً علي تحالفه التجرنيوي فكان أول من زار ارتريا واحتفل باستقلالها هم التجراي وحرم منها أبناء الشهداء وكذلك الجرحى والمعاقون، وضرب حول نفسه طوقاً نفسياً عازلا أعلنه بمرسوم يندى له جبين كل غيور وهو بيان العفو العام وإلزام كل من عمل خارج الجبهة الشعبية بالاعتذار والدخول أفراداً وليس كيانات سياسية أو مدنية، وذلك للمشاركة والمساعدة في بناء الوطن علي حد زعمه، كما قام بعقد مؤتمر نقفة للجبهة الشعبية في 1994م وأحكم فيه حلقاته حتى أمام الشرفاء الذين ضللوا وخدعوا في نوايا دولة تجراي تجرنيا، وأفاق بعضهم وبدأوا التأوه والتحسر الذي واجهه النظام بالقتل والإلقاء بهم في غياهب السجون، ولم يسلم حتى من اختار الالتزام بقرار العودة الفردية بل تعرض للمحاكمات باعتبار ما كان وبزيادة التضييق علي الحريات، لكن الدولة الاثيوبية بدأت بتحديد أولوياتها بالإصلاح الداخلي والتعامل مع ارتريا بسياسة التعامل القانوني وكان أولها تحديد شروط استخدام العملة الاثيوبية، هذا الاستقلال الذاتي المعلن من أحد طرفي المشروع في البلدين أغضب الشقيق الأكبر في اسمرا فجن جنونه فكان الحل وصفته الطبيعية وهي الحرب لتأديب حكام اثيوبيا الجدد الخارجين عن طاعته فكانت صافرة البداية حرب بادمي، تلك القرية الوادعة المهملة التي سبق التنبيه بتبعيتها لارتريا من قبل جبهة التحرير الارترية وقاتلت فيها الشعبية مع التجراي في فترة شهر العسل التجرنياوي، وسقط فيها الشهداء من الجبهة والذين لم يذكرهم النظام حتى من باب التمسك بالحق. هذه الحرب التي سرعان ما تجاوزت النزاع الحدودي وأصبحت حرباً مفتوحة بين الدولتين وأطلق عليها المحللون (حرب الأصلعين علي مشط)، إننا لا ننكر نزاع دولتين علي تبعية منطقة حدودية وقد سبق النزاع علي حنيش التي استخدم فيها النظام القوة وبالرغم من سفك دماء أبنائنا الطاهرة ارتضت ارتريا واليمن اللجوء الي التحكيم وقد كسبت الأخيرة القضية وكان رأس النظام الارتري أول المهنئين لليمن بنتيجة الحكم، لذلك استخدام كل القدرات الارترية لإعادة بادمي كان امتحاناً مكشوفاً للشعب الارتري وكان بالإمكان تجاوزه بنفس الوسيلة التي انتصر بها اليمن علينا، لذلك نقول: لم تكن بادمي إلا صافرة البداية لصراع السلطة والهيمنة بين ملاك مشروع تجراي تجرنيي الذي ظل عالقاً حتى الآن بل أعادت سيمفونية الغزو الاثيوبي مبرراً للقضاء علي كل ما يعنيه الاستقلال حيث أصبح كل من يتحدث عن قيم الحرية والاستقلال من دستور وعدالة اجتماعية وإعادةالسلطة للشعب يلوث بمسحوق وصمة (الطابور الخامس)، ذلك السم الناقع الذي قتلت به الزمرة قادة بارزين ومناضلين أشاوس يتقزم كل متطاول أمام علو قامتهم وارتفاع همتهم، كما تجتهد نخبة اسمرا في لعب دورها في الوضع الاثيوبي والاحتماء بحلفائها حيث تحتضن معارضة اثيوبية تجراوية برز دورها في الدفاع عن النظام الارتري بعد الضعف والهوان الذي يعيشه، حيث يستخدمهم حتى الآن في حمايته، إنهم تنظيم ال(دمهت) التجراوي المعارض الذي أصبح يمثل قوة الحماية الأساسية لنظام إسياس دون أن يرف له جفن من خجل أو حياء.
أما نخب قبيلة المركز خارج النظام فقد آثرت الاستمرار في تمثيل النهج واصفة النظام القائم بنظام الفرد وأنهم أهلاً لإسقاطه ولكن لم يخرجوا من عباءة الاستعلاء التجرنياوي الحماسيناوي وينظرون لمكونات التنظيمات السياسية من المجتمعات الأخرى نظرة دون – وطنية، ويرون أنهم البديل للنظام مع الاحتفاظ بالمكتسبات التي حققتها قبيلة المركز في المراحل السابقة ويحقنون الشعب بمهدئات الغزو والأطماع الاثيوبية بل يخوِّنون كل من يزور اثيوبيا ويمكننا أن نستند علي بعض حراكهم في الآونة الأخيرة من لقاء (سدري) الذي أطلق عليه لقاء مثقفين ثم لقاء ضاحية باريس (مدرخ) الذي أمن علي انتمائه لمشروع الجبهة الشعبية بل صيانته ليكون صالحاً لكل زمان ومكان ثم لقاء فرجينيا الذي أطلق علي نفسه اجتماع خبراء ارتريين وبعض القيادات التي تتخبأ وراء عباءات تنظيمية مختلفة، جل هذه القوى من الذين سخروا المشروع الوطني بأكمله لخدمة أهداف منفيستو (نحن وأهدافنا) الإقصائي، بل لا يخجلون من القول بنزاهة وطهارة مشروع الشعبية وأن إسياس هو الذي لوثه وشوهه، فتنحصر المهمة عندهم علي إسقاط إسياس فقط كحاكم مع الإبقاء علي مشروع الشعبية والمنفيستو الشهير، وليس لتلك القوى من رؤية جديدة للتعامل مع ماضي وحاضر سوءات نخبة التجرنية اللهم الا اجترار نضالات الماضي السحيق من بطولات مرحلة الكفاح المسلح وتلاحم المقاتلين مع الذين أنتجهم مصنع الشعبية ومن الطبيعي أن لا يتعالى المصنوع أو العامل علي الصانع أو صاحب المصنع وهو يحمل ماركته المسجلة، بل يعتقد ذلك العامل أو بالأحرى (الشغال) أن باب الولوج للوطن والوطنية هو التقرب من قبيلة المركز وتقليدها بدونية سافرة حتى يصل التقليد ادعاء (ودّي اسمرا). وتقف هذه النخبة علي منصة أهليتها لوراثة النظام المتهالك وتجديد علاقتها منفردة .
والوقائع والتحليلات أعلاه يمكننا القول إن نخبة التجرنيا انفردت باستخدام العمق الاثيوبي لتحقيق مكتسبات لإثنية بعينها دون الالتفات لبناء الدولة الارترية بإعادة صياغة مشروع الدولة الارترية، وقائلاً من يقول: كيف ذلك ومشروع البنية التحتية يسير علي قدمٍ وساق وشاشة التلفزيون الارتري تعرض صباح مساء الشعب وهو يحفر الأرض ويبني الجسور ويزرع السهول والتلال، نحن لا نتحدث عن هذا، وإن كان ذلك يعد بناءاً فإن حكومة أفورقي لم تبلغ من البناء معشار ما بلغه المستعمرون الطليان. إننا نقصد بناء وتنمية شعب كانت تتنازعه هويات مختلفة وحقق بالرغم من التباين الهويوي تحرير أرضه وكان من الضرورة إعادة اللحمة الوطنية عبر نوافذ مفتوحة وموائد مستديرة محفوفة بمختلف مكونات الشعب الارتري السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والجغرافية لتكملة معنى وجدوى الاستقلال في نفوس أسر الشهداء والمقاتلين والشعب المكلوم المشرَّد والمطارد حتى داخل وطنه، وليس الانفراد بالسلطة والتمثيل الصوري وادعاء الأبوية والاستعلاء، وبذلك تكون قبيلة المركز الارترية بالذات قد أهملت مشروع بناء الدولة في ارتريا ولم تجتهد قيد أنملة في البحث عن إعادة تشكيل الوعي الوطني الارتري بكل ما هو إيجابي وبناء من الرؤى والممارسات.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=32910
أحدث النعليقات