الغـربـة….. نازحا ولاجئــا!

 بقلم :  كـرار هـابو (أبو علي)

hiabu1_k@yahoo.com

 

الغريب عن  بلدو مهما طال غيابو مصيرو يرجع لأهلوا وأصحابوأ (الطيب  عبدالله)

 

السفر حار حرارة النار، وقيل انه جمرة منها، والمسافر – عينو قوية – حيث يتأهب للرحيل والمغادرة. الأهل والأصحاب تفضحهم اعينهم لمرارة الفراق، فراق العزيز الغالي أبا كان أو ابنا أو حبيبا أو صديقا، والمفارق متهم بقوة العين لأنه يشق طريقه رغما عن دموع المودعين، ودموعه أيضا، ومع تبدل المكان والزمان وتبدل الحال تتبدل المشاعر والأحاسيس تجاه من غادرهم. يطيب المكان للبعض فينصهرون في البيئة ويكونوا جزءً من مجتمعها، وربما يستقبلون فيه المزيد من القادمين الجدد.

شخصيا جربت هذا، نعم جربته حين نزحنا داخل البلد، واتجهنا شمالا بعيدا عن العدو الذي كان يلاحقنا ويطاردنا ثم يحرق بيوتنا، وجربتها ثانية حين اتجهت غربا الى حيث معاقل الثورة، وجربتها ثالثا حين اتجهت صوب الحدود البعيدة لإنضم الى الجحافل من اللاجئين، في بعض التجارب زرفت دموعا وانا اودع المعارف، وفي البعض الآخر اختلطت الدموع والدماء لان الهروب كان كبيرا.

التجربة الثالثة كانت أهون، الموت الذي عرفته لم يكن موجودا، هنا كل شئ آمن، كثير من الطمآنينة وقليل من الاستقرار النفسي، حصلت على بطاقة لاجئ وتصريح مرور كتب عليه ما يلي: (يسمح للوافد الأرتري – س – بالسفر من كسلا الى الخرطوم على ان يبلغ الجهات الرسمية عند الوصول)، كان لكلمتى (لاجئ) و(وافد) وقعا مختلفا في نفسي، واحترمت الضابط الذي كتب التصريح لمجرد انه اختار كلمة (وافد)، تمنيت لو كان أحد قادتنا قبل تجاوز الحدود.

الحياة أخذ وعطاء، ومتعرجات كثيرة، والشاطر هو من يأخذ قدر ما يعطي والعكس صحيح، ويسلك الدروب مثل غيره. وحبل النجاة هو مثل حبل الغرق تماما، اذا لم نربطه باحكام أو نمسكه بحرص أنزلناه معنا الى القاع، والانسان ابن بيئته،يتكيف معها، يندمج فيها وينصهر، يصبح احد شخوصها، يمارس طقوسها، وربما يؤثر عليها فتغلب سماته على هذه البيئة. الكائنات هي الأخرى تفهم لغات بعضها البعض، بالممارسة طبعا، كأن تقول في بلدة ما:( تـــــؤ …..) للبقرة، فتنصرف عن موضعها طواعية، وتقول:( عـــر.) للخروف في مكان ما ونفس الكلمة للحمار – أجاركم الله – في مكان آخر.

هذه البقرة أو أي من الثلاثة اذا حملناهم الى بلاد أخرى ربما لن يفهموا لغة اهل البلد الا بعد حين، بعد ممارسة ومعايشة. ايضا هذه حدثت، عندما زرت ذات مرة احد مخيمات اللاجئين وكان أهله حين يهشون الحيوانات يستخدمون لغاتهم وهم حديثي اللجوء، وفي الزيارة الثانية بعد سنوات وجدت ان اللغة قد تغيرت، وحتى البقرة ماعادوا يقولون لها (تــؤ…)!! اذ اكتسبوا جميعا لغة جديدة في واقع بيئي جديد.

الآثار السلبية لفراق الأمكنة لها وقع شديد، لكن تجاوزها ممكن اذا ما أخذنا بالاسباب، أسباب هذا الفراق، فراق البنت لأهلها مثلا حين تتزوج ويتم الحاقها بأهل زوجها، وهجرة الناس طلبا للعمل أو التعليم، والالتحاق بالثورة كالحالة الارترية، والنزوح واللجوء. والآثار النفسية لكل حالة تختلف عن الأخرى، والناس أصناف وقدراتهم على التكيف والتحمل تتفاوت بحسب تلك الأصناف.

واللجوء ظاهرة بشرية منتشرة بصورة مخيفة في عالم اليوم، ومن أهم أسبابها: السياسة والإقتصاد والدين، وقد عرف المجتمع الأرتري هذه الظاهرة منذ أن رفض الإنصياع للمستعمر والمحتل، وكل النزاعات والحروب التي دارت في ارتريا خلفت من ورائها اعدادا هائلة من النازحين واللاجئين أكثرهم سلك طريقه الى السودان. هنالك حالات أخرى من اللجوء مماثلة لحالتنا، في الشرق الأوسط مثلا أو في آسيا، والحالة الأرترية تظل استثنائية الى حد كبير، فما تمتع به الأرتريون والأثيوبيون في السودان من معاملة خاصة وترحيب واسع لم يكن متاحا لآخرين (فلسطيني لبنان مثلا).

يتذكر أحد ابناء ’طعديت‘ مشاركته في رمي الجمرات، حين التحق باحد المدارس ليكمل تعليمه، الجمرات التي يرميها الطلاب على شرطة مكافحة الشغب، وكان يرمي بلا هوادة لجهله ان المسالة مجرد تعبير عن الرفض وليس قتالا بين أبناء الفرق المتنافسة حين يهزم فريق منافس، كتلك التي كان يمارسها قبل اللجوء، بل وكان يهتف مع آخرين من أمثاله ضد الحكومة بلكنتهم المعروفة وفي جيب كل منهم بطاقة لاجئ.

ان ظروف السودان الاقتصادية ربما كانت مواتية لاستيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين الأرتريين والأثيوبيين، ورغم ان الأمم المتحدة ترصد ميزانيات مقدرة لمواجهة احتياجات اللاجئين الا أن الأهم في الأمر ظل الشعب السوداني وما ينفرد به من روح التعايش والتعاضد واكرام الضيف، وما يقابلك شخص الا و(يجرجرك) الى مأدبة او وليمة، ولسان حاله يقول: (يا ضال الطريق ميل على أهل القرى)، وان كنت جارا لاحدهم فان (الصحون) المليئة بالأكل تعلو جدار منزلك كأنها أطباقا فضائية تهبط الى الأرض.

التعدد الثقافي  في السودان وتنوعه اتاح للاجئين ممارسة عاداتهم وثقافاتهم في الأفراح والأتراح، ولن تستغرب اذا وقفت يوما في احد أحياء المدينة، على خيمة عرس غير سودانية، تضرب فيها الطبول والآلات الموسيقية الشعبية الخاصة بكل فئة من فئات اللاجئين وينخرط  اللاجئ  والمواطن في دوائر الرقص المعروفة وهات ( أُشُــمْ… حــادي .. حادي… حادي) .

يقول المصريون في حب السودانيين ( مصر والسودان حتة واحدة)، وأقول: (ارتريا جل سودان حتـاتـا)، أي ارتريا هي أخت السودان، ملامح الشعبين واحدة، والسحنات واحدة، والأمزجة واحدة. يقول أحد المجربين لو ان ارتري وسوداني ركبا الباص في رحلة قصيرة او طويلة فانهما سرعان ما ينخرطا في (الونسة) التي تستمر بهما طول الرحلة، وكذلك في الحفلات والمناسبات، وهو عكس الحال عندما يكون الأمر بينهم وآخرين!

 

ألم أقل لكم السحنات ( سوداتريا ) والوجدان ( سوداتريا ) والخلق ( سوداتريا ) والمزاج ( سوداتريا ).

 

آخـر الأمزجــة:

  • ·       التحية للاستاذ/ أحمد عبدالقادر احد مؤسسي جمعية الصداقة السودانية – الأرترية في ولاية البحر الأحمر، ومحرر نشرة ( سوداتريا) التابعة للجمعية.
  • ·       التحية الى الاستاذة الباحثة/ أميرة حسن وأرجو أن تضعي بعض مما جاء عاليه في الاعتبار وانت تكملين بحثك، مبروك مقدما الماجستير وعقبال الدكتوراة.
  • ·       والتحية لكل من عرفت هذه الأمزجة طريقا الى نفسه.

 

كـرار هـابو (أبو علي)

 

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6297

نشرت بواسطة في مارس 7 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010