القرن الافريقي ….. وآخر المستجدات
الأهمية الأستراتيجية لدول القرن الأفريقي:
بداية لقد اكتسبت منطقة القرن الأفريقي تاريخياً أهمية استراتيجية بالغة لموقعها المميزة بإطلالتها على البحار المهمة في العالم كممرات للتجارة الدولية والمتمثلة في البحر الأحمر الذي يربط بين قناة السويس عند البحر المتوسط وباب المندي المطل على المحيط الهندي وبحر العرب وبالتالي ربط شمال العالم بجنوبه، فضلاً لقرب منطقة القرن الافريقي من منابع النفط بمنطقة الخليج العربي.
الأمر الذي جعل من منطقة القرن الافريقي تقع في دائرة التوتر والصراعات الأقليمية والدولية وقد زادت الأهمية الجيوبولتيكية للقرن الافريقي خاصة بعد شق قناة السويس عام 1869م.(1)
وقد أدرك قدماء السكان قيمة الربط بين الساحل الاسيوي في شبه الجزيرة العربية وبين الساحل الافريقي الى قلب القارة السوداء، كما عرفوا قيمة الربط بين المحيط الهندي والبحر الأحمر والبحر الابيض المتوسط كأقصر طريق للملاحة، والتجارة، وبسط النفوذ السياسي والعسكري.
ولهذا كله اندفع الفرنسيين الى المباشرة في حفر قناة السويس لتكون همزة الوصل بين البحر الأحمر والابيض المتوسط مختصرين طريق رأس الرجاء الصالح الى الغرب بمقدار تلثي المسافة(2). الأمر الذي زاد من أهمية منطقة القرن الافريقي في التاريخ الحديث بالنسبة للقوى الدولية ليس لكونها مطلة على أهم ممر مائي لحركة الملاحة التجارية فقط بل لكونها شاهد حي على حركة مرور البوارج والسفن الحربية الغربية والامريكية من مواقع انطلاقها الى مواقع انتشارها في أغاصي البحار وأعماقها.. وبالتالي فإن القرن الافريقي بحكم موقعه المتوسط لأكبر الاحتياطي نفطي في العالم وباعتباره من أهم نقاط التحكم الاستراتيجي في خنق الملاحة المدنية والعسكرية في البحر الأحمر.
وعليه فان أهمية القرن الافريقي تتعاظم يوماً بعد يوم بالنسبة لمنطقتنا العربية سياسياً واقتصادياً وأمنياً واستراتيجياً في الوقت الحاضر مثلما كان الحال في العصر البعيد.
النزاعات والحروب في القرن الافريقي… الاسباب والتداعيات:
وقبل الدخول في النزاعات والحروب التي شهدتها منطقة القرن الافريقي من الواجب أن أقدم تعريفاً للمنطقة، والتي جاءت تسميتها إلى أنها تشبه قرن (وحيد القرن) إذ يحدها من الشمال البحر الأحمر ومن الشرق المحيط الهندي وخليج عدن، وهي المنطقة التي تشتمل من الناحية الجيوسياسية كلاً من الصومال، وإثيوبيا، وإرتريا، وجيبوتي، وتمتد شمالاً على ساحل البحر الأحمر، ويدخل السودان وكينيا بإعتبارهما منطقة خلفية للقرن الأفريقي.
وفي تعريف أمريكي جديد يربط بين الدول المذكورة أعلاه وعدد من دول شرق أفريقيا ومنطقة البحيرات العظمى حيث إصطلح على تسميته بالقرن الأفريقي العظيم، على غرار تسمية أمريكا للمنطقة العربية، بالشرق الأوسط الكبير الذي يضم اسرائيل…
وللدلالة على طبيعة النزاعات والحروب التي شهدتها وتشهدها منطقة القرن الافريقي لا بد من الاشارة الى أن تاريخ القرن الافريقي يؤكد بأن الصراع حوله كان قائماً منذ زمن بعيد لإرتباطه بالممرات المائية الهامة للتجارة العالمية.. كما كانت المنطقة وسواحلها الطويلة وثرواتها جاذبة للغزاة.. وكانت أيضاً منطقة، مهمة في مرحلة الحروب الباردة وأشتد فيها الصراع بين الدولتين العظيميين الاتحاد السوفياتي سابقاً وأمريكا، كما كانت على الدوام عاملاً مؤثراً في الصراع العربي الاسرائيلي منذ نشاة دولة اسرائيل، ولذلك فإن منطقة القرن الافريقي منذ بداية العهد الاستعماري وإلى يومنا هذا ظلت في دائرة الأهتمام الغربي والامريكي والاسرائيلي، وما زالت تعاني من الأرث الاستعماري الذي جعل منها منطقة متفجرة بدلاً من أن تكون منطقة موحدة ومستقرة نتيجة لتكوينها الهندسي بشرياً وطبيعياً ونظراً للتداخل الاجتماعي والثقافي بين السودان وإرتريا حيث قبائل “البني عامر، والهدندوة، والرشايدة “التي لها امتداداتها بين البلدين” وبين اثيوبيا وارتريا حيث قؤمية التغري المنتشرة على حدود البلدين” وبين ارتريا وجيبوتي واثيوبيا حيث قومية العفر التي لها امتدادها وتواجدها بين كافة هذه الدول، وبين الصومال وجيبوتي الذي كان يعرف بالصومال الفرنسي.
وبالرغم من حالة التداخل والتشابك المشترك بين شعوب القرن الافريقي والخريطة السياسية الراهنة فإن الصراعات التي تشهدها دول المنطقة تتسم بطبيعة بالغة التعقيد نابعة من تعددها وأبعادها الحضارية والدينية والعرقية والاقتصادية، وتختزل في داخلها صراعات عميقة وإن برزت في بعض جوانبها المعلنة، الخلافات الحدودية التي تظهر من حين إلى آخر بين دول المنطقة.
وهنا يمكنني أن أرجع بعض صراعات القرن الافريقي للعوامل التالية:
1. المورثات الاستعمارية القديمة: يتضح لنا بأن تأثير الموروث الاستعماري بالنسبة للخريطة السياسية، للقرن الأفريقي تتعارض والى حد كبير مع التوزيعات القومية والعرقية، والقبلية واللغوية المكونة للكيانات السياسية لدول المنطقة حيث فرض الاستعمار حدوداً سياسية مصطنعة تسببت فيما بعد بنشوب حروب دموية بين بلدان المنطقة، والحالة، الابرز هي الحرب الاخيرة التي دارت بين اثيوبيا وارتريا في 1998 – 2000م حول ملكية مثلث (بادمي – شيرارو – زالميسا) إلا أن تأثير مسألة الحدود كان اكثر سلبية على الصومال الموحد الذي كان يضم الجزئين الشمالي والجنوبي اللذين كانا تحت الاحتلال البريطاني – والايطالي، وجيبوتي التي كانت تسمى الصومال الفرنسي قبل الاستقلال، والجزء الرابع هو الصومال الغربي ما يعرف بإقليم “أوغادين” الخاضع للسيطرة الاثيوبية، والجزء الخامس هو شرق كينيا الذي ضمته بريطانيا الى مستعمراتها الكينية قبل الاستقلال، إن هذه الاجزاء كلها كانت دولة واحدة تسمى (الصومال الكبير) ولم يستطع الصومال من تحقيق أهدافه في وحدة أجزاء الصومال بل على العكس تماماً فإن الصومال يعيش حالياً في أزمة طاحنة، اطاحت بكل مؤسسات الدولة في كافة المجالات.
2. أزمة الاندماج الوطني في منطقة القرن الافريقي – تشكل أزمة الاندماج الوطني احد الاسباب الرئيسية للصراعات الداخلية لدول المنطقة حيث طغت الاعتبارات القومية والعرقية، والقبلية على الانتماءات والولاءات الوطنية لسيادة الدولة وعلى مبدأ المواطنة، وقد أدى هذا الوضع الى هيمنة الروح القبلية على النظم الحاكمة واستبعاد واقصاء بقية المكونات الاجتماعية والسياسية عن المشاركة في الحكم والحياة السياسية والاقتصادية للدولة.
وفي هذا الخصوص من المهم أن نشير إلى نموذجين من الحكم في القرن الافريقي يدلان بصورة واضحة الى ما ذهبت اليه في هيمنة مبدأ الانحياز الى القومية والقبلية لحكم البلاد، فالأول هو نظام سياد بري في الصومال الذي جعله من قبيلة “الداروت” المنتمي اليها تتحكم في كافة الأجهزة الحيوية في مؤسسات الدولة مستبعداً القبائل الصومالية الأخرى. وفي مقدمتها قبيلة (الهوية كبرى قبائل مقديشو” الأمر الذي أثار حفيظة القبائل المستبعدة وتمردها عليه الى ان سقط نظامه في 1991 وإنهارت معه الدولة وغرق الصومال في أزمة حرب أهلية ما زال يعاني منها.
والثاني هو نظام أسياس أفورقي في إرتريا حيث استحوذت قومية “التغرنية” التي ينتسب اليها على مقاليد الحكم وفرض ثقافتها على بقية مكونات المجتمع الأرتري منذ اعلان استقلال إرتريا في 24/5/1993.
وهكذا تجد منطقة القرن الافريقي نفسها أنها لم تتخلص من رواسب مورثات الحقبة الاستعمارية التي تحمل في طياتها بواعث أزمات جديدة في المنطقة ويمكنني هنا أن أستعرض ما شهدته دول القرن الافريقي في المرحلة الراهنة وهي على النحو الآتي:
1. حالة النزاع والحرب بين ارتريا واثيوبيا:
توقع الكثيرين من المراقبين والمتابعين لشؤون القرن الافريقي والصراعات والحروب الدائرة فيه بأن المنطقة متجهة نحو نوعاً من الاستقرار خاصة بعد إعلان استقلال ارتريا عن اثيوبيا واعتراف الاخيرة بإرتريا كدولة مستقلة في عام 1993 بعد حرب إستمرت لأكثر من ثلاثين عاماً. وتعزز هذا التوقع لأن كلا الرئيسيين ملس زيناوي في اثيوبيا وأفورقي في ارتريا ينحدران في اصولهما العرقية من قومية التغراي الممتدة بين البلديين، وأنهما يتماثلان في التجربة الثورية والنضال المشترك الهادف الى اسقاط نظام منغستو، وأنهما يحظيان بقبول ورضى أمريكي ساعدهما في إحداث التغير والوصول الى سدة الحكم، وأنهما قد يحدثان نوعاً من التحول الهام في منطقة القرن الإفريقي يصب لصالح التوجهات السياسية والاستراتيجية لأمريكا، ويساهمان كذلك في تعزيز نفوذها باعتبارهما روافع هامة في تقوية وتحقيق المصالح الامريكية في المنطقة.
إلا أن المعطيات على أرض الواقع خالفت، كافة هذه التوقعات عندما أطلت الأزمة الحدودية بين البلدين حول ملكية، مثلث “بادمي” على الحدود الجنوبية الغربية، والتي عكست في حقيقتها احد أوجه الصراع أو احد مخرجاته حيث انه يرتبط في جزء منه بالاوضاع الاقتصادية والمبادلات التجارية مع العالم الخارجي لكون اثيوبيا تحولت الى دولة داخلية ليست لديها منفذ بحري، وقد اتضح ذلك في الاتفاقيات التي تم توقيعها عقب استقلال إرتريا حيث ضغطت اثيوبيا على الجانب الأرتري لإستغلال الموانىء الارترية مقابل دفع رسوم رمزية تقدر بـ 1.5% ثم طالبت بإلغائها بعد ذلك، وفي جزء آخر يرتبط الصراع بالقيادة السياسية في كلا البلدين حيث لم يخفى رئيس وزراء اثيوبيا ملس زيناوي رغبته في إقامة علاقة كنفدرالية مع إرتريا بالرغم من استقلالها عن إثيوبيا. وبالمقابل يشدد الجانب الارتري حرصه على التخلص من الإرث السياسي الاثيوبي الذي ما زال يشكل مخاوف حقيقية وهاجساً نفسياً على علاقة البلدين. لهذه الاسباب وغيرها اندفعت ارتريا ببدأ الهجوم على المناطق الحدودية واندلاع الحرب بين الجانبين بين عامي 1998 – 2000م راح ضحيتها ما يصل إلى 70 ألف من الجانبين وأنفق عليها ملايين الدولارات. حتى جاء وقف إطلاق النار، وتوقيع إتفاقية الجزائر في ديسمبر 2000م والبدأ في نشر مراقبين دوليين وقوات حفظ سلام دولية في منطقة منزوعة السلاح، وتشكيل لجنة دولية للتحكيم يكون حكمها نهائياً وإلزامياً، وبالفعل صدر الحكم النهائي في أبريل 2003) ليصبح محل جدل وخلاف بين طرفي النزاع رغم مهنيته وقانونيته وكأي حكم دولي لحدود رسمها الاستعمار وتقاتل عليها الاشقاء فقد جاء حكم اللجنة الدولية لصالح اثيوبيا في منطقة “شيرارو وزالمبسا” ولصالح إرتريا في منطقة “بادمي” ولكن انفاذ حكم المحكمة الدولية وإنزاله على أرض الواقع لا يزال يواجه عقبات وصعوبات كثيرة منها ما يتعلق بعدم جدية طرفي النزاع ومنها ما يتعلق بالبعد الخارجي المتمثل في دور القوى الدولية التي بدت منحازا الى الجانب الاثيوبي، فالولايات المتحدة كانت وما زالت تراهن على اثيوبيا من أجل ابقائها شوكة في مواجهة القوى الإسلامية في السودان والصومال من ناحية، وإمكانية تهديد الأمن القومي المصري والسوداني من ناحية أخرى، وبالنسبة لروسيا فهي ترى في رئيس وزراء اثيوبيا ملس زيناوي الصديق الاجدر بتوثيق الصلة معه، والأمر نفسه بالنسبة لإسرائيل التي تحولت من دعم إرتريا في البداية لدعم اثيوبيا مقابل استخدام ورقة المياه.
لذلك فإن حالة الصراع بين ارتريا واثيوبيا تحكمه الطبيعة المعقدة في العلاقة بين البلدين التي يسودها الصراع ولا مكان فيها للعوامل التي جمعت بينهما.. بالنظر الى هشاشة الوضع على الحدود واستمرار عوامل الصراع حيث يتهم كل طرف الآخر بحشد قواته والقيام بإنتهاكات على الحدود بينهما الممتدة بحوالي الف كيلو متر.
واذا ما تطورت الامور نحو التصعيد فإنه لم يكن مفاجئاً فمنذ وقف اطلاق النار لم يدخل الطرفان في أية مفاوضات للتطبيع أو لتنفيذ قرار التحكيم ومن أهمها وضع العلامات على ارض الواقع. بل حاول كل طرف استغلال المناسبات لتبادل الاتهامات والبحث عن الزرائع لابقاء فتيل الازمة مشتعلاً.
هذا الواقع يعزز الاعتقاد لدى كل المراقبين بأن البلدين قاب قوسين من تفجر الاوضاع وأن أجواء الحرب تخيم في المنطقة ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة لوقفها أو تحدث عوامل داخلية تغير من الاوضاع في البلدين تدفعهما بإعادة حساباتهما.
2. حالة الازمة بين ارتريا وجيبوتي:
لم تنفع خشية العديد من تدهور الاوضاع في منطقة القرن الافريقي الملتهبة فمرة أخرى تدخل إرتريا طرفاً في نزاع مع دولة جارة لها عندما هاجمت وحدات عسكرية ارترية منطقة تعرف بتلة (رأس دميرة) على الحدود الجيبوتية حيث تقع خلف جزيرة صغيرة اسمها (جزيرة دميرة) التي تطل مباشرة على باب المندب عام 2008م. وادعو ملكيته مطلقين النار على الجنود الجيبوتيين المتواجدين في المنطقة فقتلوا وجرحوا عدداً منهم وهكذا زادت إرتريا من تفجر الاوضاع في القرن الافريقي المضطرب على الدوام الأمر الذي استفز الفرنسيين والامريكان الذين لهم قواعد عسكرية في جيبوتي وكذلك جامعة الدول العربية ومجلس الأمن الذي دعى ارتريا فوراً بسحب جنودها من المنطقة خلال مدة قصيرة وكرر دعوته اليها بالانسحاب مجدداً مع مطلع عام 2009 في غضون خمسة أيام.
ووجدت إرتريا نفسها بعد هذا الاعتداء المفاجىء في موقف زاد من عزلتها، وكسبت جيبوتي الدولة الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 460.700 نسمة ومساحتها لا تتجاوز 22.000كم2 تعاطف الدول العربية والإفريقية وموقف اجماع من مجلس الأمن الدولي الذي أدان النظام الارتيري نتيجةً لتدخلاته أيضاً في ملف الأزمة الصومالية من خلال دعمه وتأيديه لحركة الشباب المجاهدين والحزب الإسلامي مما أثار حفيظة مجلس الأمن الدولي والذي أصدر قراره رقم 1907 تحت البند السابع والذي يفرض عقوبات صارمة على النظام الارتيري وبالرغم من ذلك ما زالت جيبوتي لها هواجسها ومخاوفها من تكرار ارتريا عدوانها على أراضيها..
3. حالة الأزمة الصومالية:
من المعلوم أن تطورات الأزمة الصومالية تأتي في صدارة الاحداث التي يشهدها القرن الافريقي وذلك عندما ارتضى الصوماليين لأنفسهم بأن الولاء للقبيلة أولاً مدخلاً للسلطة ثم الوطن ونسوا أو تناسوا بأن الوطن هو الحاضنة الطبيعية لكل المكونات القبلية والاجتماعية والسياسية والمذهبية لكل الصوماليين ليتحملوا بذلك قبل غيرهم بما آلت اليه الاوضاع في بلادهم التي مزقتها الحرب الأهلية بين الاشقاء الاعداء منذ عام 1991م. فأنهارت الدولة وإتسع الشرخ الاجتماعي بين القبائل وتعمق الانقسام السياسي بظهور ما يسمى بجمهورية ارض الصومال التي تطالب الانفصال عن الوطن “الأم” كنتاج طبيعي لإفرازات الحرب الأهلية التي جعلت من مقديشو العاصمة مدينة أشباح الابتعاد منها هروب والاقتراب منها موت.
وفي ظل تراجع مشروع الدولة وإنتشار المليشيات العسكرية في عموم الصومال وغياب حكومة مركزية قوية تسيطر على الاوضاع الهشة، فإن الأزمة الصومالية بلغت من السوء والتعقيد ما يصعب التكهن بنتائجه فكان من الطبيعي أن تدخل عوامل جديدة منها ما هو داخلي يتمثل في بروز المحاكم الاسلامية الصومالية على الساحة وآخر خارجي يتمثل في التدخل الاثيوبي والامريكي والارتري في الشأن الصومالي ليشكلان معاً صورة المشهد السياسي الحالي للازمة الصومالية.
– ولو بدأنا بالمحاكم الاسلامية الصومالية:
فإن نشأت المحاكم كانت بصورة أولية عام 1994م كتجمع يضم شيوخ القبائل لتكون حكماً على النزاعات والخلافات بين الناس بعد أن ضاقوا زرعاً من المليشيات وغاب دور الحكومة، ومع إحساس الصوماليين بنزاهتها ودورها وجدة القبول وزاد عددها ثم إندمجت في كيان واحد عام 2004م وتحولت من آلية لفض المنازعات الى تنظيم سياسي بعد النجاح الذي حققته خاصة في بسط الأمن بمناطق تواجدها مما دفعها بإتخاذ خطوة مهمة تعزز من خلالها تواجدها على الساحة الصومالية، وذلك بتأسيس مجلسين في عام 2005م وهما:
أ. المجلس التنفيذي للمحاكم برئاسة / الشيخ شريف شيخ أحمد.
ب. المجلس التشريعي للمحاكم برئاسة / الشيخ حسن طاهر عويس.
وهكذا أصبحت المحاكم الاسلامية القيادة الطبيعية للشعب الصومالي وتعززت مكانتها ودورها في الاوساط الصومالية بعد أن إنضم اليها العسكريون الصوماليين السابقون وعدد كبير من أفراد الحرب كما أنها لم تخلو في داخلها من ما هو متشدد ومعتدل الأمر الذي القى بظلاله عليها فيما بعد.
أما العامل الخارجي في الأزمة يبرز من خلال التدخل الأثيوبي المدعوم أمريكا في الشأن الصومالي والذي ينطلق في دوافعه من حسابات خاصة تحكمها أهداف المصالح والمخاوف في آن واحد فأما المصالح فإن إثيوبيا مستفيدة من حالة التفكك والانقسام في أقاليم الصومال بإستخدامها لميناء “بربرة” الواقع على إقليم الشمال “البونت لاند” في مبادلتها التجارية مع العالم، وأما المخاوف فتكمن من سيطرة المحاكم الاسلامية على مقاليد الحكم وهذا يعني من وجهة النظر الاثيوبية بأنها ستكون القوة الداعمة لحركات المعارضة العرقية والدينية داخل اثيوبيا ذاتها، وقد تعيد في أذهان الصوماليين بضرورة استعادة إقليم “أوغادين” لهذه الاسباب وغيرها والتي تختلط فيها المصالح بالمخاوف اندفعت اثيوبيا لغزو الصومال تحقيقاً لغاياتها وتنفيذاً لرغبات قوى دولية وعلى وجه التحديد امريكا، وأيضاً تلبية لرغبة حكومة عبد الله يوسف أنذاك التي كانت بحاجة ماسة لمساعدة اثيوبيا من اجل تمكينها لبسط سيطرتها على الصومال امام تعاظم نفوذ الحركات الاسلامية. وقد وجدت امريكا أن هناك ثمة تطابق في الاهداف مع اثيوبيا تدعم من استراتيجيها في القرن الافريقي عامة والصومال تحديداً لأن تجربة أمريكا السابقة كانت مريرة ولأن أوضاع امريكا في العراق وأفغانستان لا تسمح لها بالتدخل العسكري في الصومال.
لذلك قامت الرؤية الامريكية على ضرورة البحث عن قوة اقليمية تتولى مهمة تحقيق الاهداف الامريكية، وليست هناك سوى اثيوبيا وذلك لأسباب تاريخية وآخرى تتعلق بالقدرات العسكرية. فإرتريا مثلاً لا تصلح لذلك ولهذا دعمت امريكا اثيوبيا في حربها ضد ارتريا. وفضلاً على ذلك فإن هناك اسباب خفية تدفع امريكا بالاهتمام بالصومال حيث أكدت دراسات امريكية حديثة، بأن الصومال به كميات هائلة من النفط وأعدت خرائط تفصيلية لتوزيع الابار على الاراضي الصومالية من قبل شركة “شيفرون” خلال السنوات الماضية مؤكدة بأن النفط الصومالي جاهز للإنتاج ولكن امريكا حرصت على التكتم في عمليات التنقيب حتى لا يتكرر سيناريو السودان الذي يصدر 65% من نفطه الى الصين.
وعليه فإن غزو اثيوبيا للصومال نابع مما أفضينا بالإشارة اليه بغية تحقيق انتصار عسكري سريع على المحاكم الاسلامية، وهذا ما حصل في الايام الاولى من الغزو، ولكن مع مرور الايام ثبت العكس تماماً حيث أن الاستراتيجية الاثيوبية ضربت في مقتل ودفعت اثيوبيا ثمناً باهظاً لوجودها في الصومال مادياً ومن أرواح جنودها وبالتالي قررت الانسحاب الكامل من الصومال مع نهاية 2008م.
واتجهت اثيوبيا وامريكا بتغير اسلوبهما والتحول من سياسة الحسم العسكري الى سياسة الاحتواء. ولذلك شاهدنا الحضور الاثيوبي والامريكي في مؤتمر جيبوتي في نهاية 2008 بين الحكومة الانتقالية والمحاكم الاسلامية جناح جيبوتي برئاسة شيخ شريف والذي حضرته ايضاً كل من جامعة الدول العربية والاتحاد الافريقي والذي أدى إلى انتخاب شيخ شريف رئيساً جديداً للصومال بدلاً من عبد الله يوسف المستقيل، وان التعاطي مع حكومة شريف ذات التوجه الاسلامية المعتدل تفرضه مقتضيات المرحلة وضروراتها.
وبالرغم من المكاسب التي حققتها المحاكم الاسلامية إلا أنها تواجه صعوبات كبيرة متمثلة في المواجهات العسكرية التي تشنها حركة “الشباب المجاهدين” “والمحاكم الاسلامية جناح أسمرا” برئاسة طاهر عويس اللذان يعتبران حكومة شريف غير شرعية وعميله للأجنبي ولا يمكن التعامل معها ولذلك فإن الازمة الصومالية مرشحة نحو المزيد من الصراع بالرغم من بوادر الانفراج الذي شهدته مؤخراً.
وخلاصة القول: بعد هذا الاستطراد حول أزمات القرن الافريقي المتلاحقة والتي تعكس في الكثير من جوانبها حالة الاضطراب والصراعات والحروب الدموية التي الحقت الاذى بشعوب المنطقة الذين ما زالوا يعانون من عذابات القبلية المقتية، والفقر، والجوع، والقهر، وتسلط الحكام، والتشرد واللجوء والحرمان من أبسط شروط الحياة المدنية الكريمة.
لذلك كله فإن انعكاس الاحداث الدائرة في القرن الافريقي على الامن القومي العربي كبيرة وعميقة في مداها وخير دليل على ذلك أزمة دارفور وتداعياتها الخطيرة على وحدة السودان وأمنه واستقراره وسيادته الوطنية المستقلة.
وعليه فإن الاوضاع في منطقة القرن الافريقي مهمة بالنسبة للدول العربية كما أراها ويتفق فيها معي الكثيرين من المراقبين والمتابعين والمهتمين بشأنها لأسباب عديدة أبرزها:
1. الجوار الجغرافي حيث التداخل البشري وعلاقات القربى، والتفاعل التاريخي الحضاري بين المنطقة العربية والقرن الأفريقي عبر قرون طويلة بكل تفاعلاتها التاريخية والدينية والثقافية، وعلاقات المصالح.
2. أمن النفط والماء، وأمن البحر الأحمر بكل ما يعنيه كعقدة مواصلات حيوية، ترتبط بالامن الغذائي والاقتصادي لكل دول الخليج العربي، بالاضافة الى أسباب اخرى استراتيجية بالغة الأهمية تتعلق بالمفهوم العريض للأمن القومي لكل من أسيا العربية ووادي النيل.
وتأسيساً لكل ما حاولت ان أطرحه بخصوص الاوضاع في القرن الافريقي وما يشهده من مستجدات متواترة من الصعب الاحاطة بها كاملة أو تغطيتها بصورة شاملة. إلا أنني أرى بأن الغياب العربي في تحقيق التواصل بمنطقة القرن الافريقي سياسياً واقتصادياً وثقافياً غير مبرر لما بينهما من صلات قوية ضاربة في عمق التاريخ ولهذا ينبغي أن ينصب الأهتمام العربي في هذه المرحلة وما بعدها على إدامة التواصل بمنطقة القرن الافريقي والانفتاح نحو شعوبها وتلمس همومها ومشكلاتها وأن لا تترك المنطقة لتجاذبات القوى الدولية كساحة مفتوحة لتحقيق مصالحها وبسط نفوذها دون أن يكون للعرب دوراً فيها.
إدريس عبد الله أحمد قرجاج
أمين سر اتحاد الكتاب والصحفيين الأرتيريين
(1) ألقيت هذه المحاضرة في منتدى الفكر العربي في قاعة سمو الأمير الحسن بن طلال حفظه الله بحضور مستشار سمو الأمير د. همام غصيب و د. موسى بيرزات سفير الخارجية الأردنية وكذلك الدكتور حسن نافعة أمين عام المنتدى وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة وقد حضر المحاضرة عدداً من الأمناء السابقين وأستاذة الجامعات وبعض السفراء العرب وكذلك نخبة من الكتاب والصحفيين العرب,
(2) د.الامين عبد الرزاق – دور ارتريا في استقرار منطقة القرن الافريقي ص 11.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=9389
أحدث النعليقات