اللغة ليست دينا ولا هي عامل تفريق ولكن !!! ؟
اللغة من حيث الأصل ليست ديناً ، وليست في قداسة الأديان ، ولكن لكل واقع في مجتمع ما، حال تخصه ، ولكل ممارسة نتائج تتفرع عنها ،وما ينتج عن واقع مختل أو ممارسة وسلوك معين لا يقدح في الأصل .
هذا مدخل مقتضب للعنوان أعلاه ، والمضمون سأرتب الحديث عنه وفق ترتيب كلمات العنوان :
1ـ اللغة ليست دينا
2 ـ اللغة ليست عامل تفريق ضرورة
3ـ ولكن ؟!!
اللغة ليست دينا :
اللغة واللون والجنس والعرق ليست ديناً ، بمعنى أن الدين لا ينبني على هذه الأمور ، ولا يكون قيامه عليها ، بل الدين الصحيح لا يرتب عليها حكما من الأحكام ، ولا يجعلها مزية من مزايا الناس ، لأنه ليس لهم يد في اختيارها ، وليست من كسبهم ، وبالتالي فهي ليست مناط تفاضل بينهم وإنما هي آية من آيات إبداع الخالق كما قال سبحانه ﭽ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ الروم: ٢٢ وقد بين الحكمة من ذلك إذ قال ﭽ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ الحجرات: ١٣ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد رتب الجزاء الموعود على الكسب والفعال ، وليس على اختلاف الألوان والألسن والأعراق ، التي هي اختياره سبحانه وليست من اختيارهم .
وأما الدين فعلى العكس من ذلك هو من كسبهم وفق قناعاتهم واختيارهم ، ولذلك لم يسق الخالق جل في علاه الناس إلى الدين كرهاً ،إنما جعله قائماً على البراهين والقناعة كما قال سبحانه ﭽ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼ البقرة: ٢٥٦ ،
ولأن اللغة واللون لا يمثلان شيئاً فارقاً في ميزان الله أتى الدين الخاتم لعموم الخلق على اختلافهم في اللغات والألوان والأجناس بدين واحد ﭽ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﭼ سبأ: ٢٨
والدين ليس هذا بابه ، فها أنت تشاهد في الواقع أناساً تختلف ألسنتهم وألوانهم وأعراقهم ومع ذلك يتفقون في دين ولا غضاضة ، والعكس صحيح ، فقد تراهم يجتمعون في كل ذلك ويختلفون في الدين وهذا مشاهد وهو الحاصل.
وبناء على هذه الحقائق فإن اللغة من حيث الأصل ليست هي الدين ولا الدين يقف في حدودها بل هو أوسع من كل اللغات.
اللغة ليست عامل تفريق :
واللغة والاختلاف فيها ليس هو عامل تفريق وخلاف لذاته ، وإنما هو عامل تنوع وثراء ،و لا ينشأ الخلاف والتفرق لمجرد الاختلاف في اللغة والجنس .
وواقع المجتمعات السوية عند الخلو من الإحن يشهد على ذلك ، إذ أننا نرى الناس يتعاملون من حيث الأصل مع اللغات المختلفة بمرونة وأريحية ، فالوافد منهم على مجتمع ما ، يتكلم لغة من وفد إليهم، وإن كان لا يعرفها يسارع بتعلمها إن كان سيبقى بينهم وليس ثم لغة أخرى مشتركة ، والأقلية لا تجد حرجاً في التحدث بلغة الكثرة الغالبة في المجال العام ، مع بقاء لغتها في المساحة الخاصة بها ، واللغة التي يختص بها علم معين أو صناعة معينة يتعامل معها كل محتاج لذلك العلم وتلك الصناعة دونما حرج ، هذا ما عليه حال البشرية مع اللغات ، ولا تستثنى لغة من ذلك حتى لو كانت مقدسة عند أهلها ، فمنزلتها عند غيرهم هي على قدر المساحة التي تحتلها ، وأهميتها على قدر حاجتهم إليها ليس إلا .
وأكثر دول العالم تذخر بلغات متنوعة ومختلفة ، ويعيش فيها أهل تلك اللغات في تعايش وانسجام ضمن دولة واحد ، ولا ينشأ الصراع والنزاع بسب اختلاف اللغات إلا حين تكون هناك سياسات تقوم على قصد الإقصاء والتذويب لبعض تلك اللغات لحساب البعض الآخر.
و لقد كان وضع اللغات في إرتريا قبل مجيء هذا النظام القائم وسياساته على الحال السوية التي تكون فيها اللغات متعايشة يمضي إيقاعها في تناغم وتجانس ، وكان تعامل الناس مع لغات مجتمعهم المختلفة بالقبول والتعرف والانسجام ، فاللغات واللهجات المنطوق بها في القطر كلها كانت حاضرة ومتعايشة ومتجاورة ، كتعايش أهلها وتجاورهم ، وحضور كل منها كان على قدر وجوده الطبيعي ، ووفور الموفور منها على قدر امتداد مساحته الطبيعية ، ففي حين تتوافر العربية في ناحية تتوافر التقرينية في ناحية ، والمقصود بهذا التوافر المذكور ما كان عليه أكثر الحال في تلك النواحي ، وكل ذلك الوفور للعربية والتقرينية هو دون غياب لبقية اللغات المنطوق بها في نواحي وأجزاء القطر ، ولم تكن ثمة مشكلة في هذا التنوع والاختلاف في اللغة ، وقد نشأنا ووجدنا الكثير من آبائنا يحسن لغة أو أكثر من تلك اللغات المتنوعة المنطوق بها في عموم القطر ، وكم كنا نرى من يعرف منهم أكثر من لغة ، أنه يزهو ويفاخر بذلك على قدر ما يحسن من تلك اللغات أو يجيد.
وإعطاء أصحاب اللغة المختلفة هذا الشعور من الزهو والفخر لمن يجيد لغة أخرى ، وطريقة تعلم الناس لتلك اللغات واكتسابهم لها ، هي مما يدل بشكل قاطع على أن اختلاف اللغات في إرتريا ،كان بمثابة عامل تنوع وثراء ولم يكن عامل نفور وتفريق ، لأن وسيلة تعلمهم للغات واكتسابهم لها في تلك الفترة ، كان بالمساكنة والمعاشرة والجوار الدائم ، أوالذي تقتضيه ظروف التنقل والترحال وطلب الرزق في أرجاء الوطن ، ولم يكن التعلم بفرض سياسية تعليمية ولا إعلامية .
ولكن :
يشذ عن هذه القاعدة في تعامل الناس مع اللغات بالمرونة والأريحية دون أي غضاضة ، الأوضاع الاستثنائية غير السوية ، والتي يأتي فيها مستعمر أو مستطيل على مجتمع ما، ليفرض لغة ويحلها مكان لغتهم على وجه الاستعلاء والغلبة ، أو أن يقوم متنفذ في مجتمع متعدد اللغات بتغليب لغة على البقية ،بأي ذريعة كانت وتحت أي ستار ، تعسفاً على وجه يؤدي إلى إقصاء وتهميش اللغات الأخرى وإذابتها في اللغة المغلبة قصدا ، مما يشعر ناطقي المغلبة بالفوقية ، وناطقي اللغات الأخرى بالدونية ، فهنا يتغير الوضع ، وتكون القاعدة الأصلية في تعامل الناس مع اللغات بمرونة وأريحية قد انخر مت .
وفي هذه الحال غير السوية تصبح اللغات عامل تفريق ونزاع لا عامل تعايش وتنوع وإثراء .
وواقع حال اللغات في إرتريا منذ مجيء هذا النظام القائم ، هو من جنس الأحوال غير السوية التي يصبح فيها أمر اللغة أمراً يسبب نزاعا وتفرقة وللتدليل على ذلك نأخذ مقارنة مختصرة لحال اللغتين العربية والتقرينية .
من خلال النقاط الآتية :
المقياس الأول : قبل مجيء هذا النظام القائم الآن ، هو بالنظر لما كان عليه واقع المجتمع ، وليس بالنظر إلى النظام في الفترة السابقة لأنها فترة استعمار فلا يعنينا ما كان عليه الإعلام ولا التعليم ولا الدوائر رغم ما كان يقوم عليه من محاباة وتغليب .
وإذا جئنا للنظر إلى اللغتين العربية والتقرينية في واقع حال المجتمع وتعاملاته ، قبل هذا النظام ، فإننا نجد لهما حضوراً ووفوراً وقد يكثر وفور إحداهما في ناحية ، والأخرى في ناحية وقد يتوافران بنسب في نواحي ولم يكن حضور اللغة العربية على وجه العموم بأقل من حضور التقرينية رغم أنها لم تكن المحببة لدى المستعمر .
المقياس الثاني : أدبيات الثورة الإرترية ، وخطابها المكتوب ، ولقاءاتها الجماهيرية التعبوية ، بما فيها الجبهة الشعبية ، كان حضور اللغة العربية فيه أكثر وفرة، من التقرينية .
المقياس الثالث: هو أن الدين الإسلامي مكون أساسي من مكونات الشعب الإرتري ونسبة المسلمين حتى على حد وصف النظام القائم لا تقل عن الخمسين في المائة ، واللغة العربية هي لغة هذا الدين ، والمسلمون مرتبطون بها ارتباطاً وثيقاً ، واللغة العربية من خلال هذا المقياس وإن كانت لا تفرض على كل الشعب الإرتري ، إلا أن حضورها الطبيعي لا يمكن أن يقل عن ما يوازي هذه النسبة .
وعليه فإن فرض هذا النظام لسياسة تغليب اللغة التقرينية بجعلها لغة الدولة فرضاً ، ولغة الإعلام واقعاً ، واللغة الرئيسية في التعليم ممارسة ،بل وحتى لغة الشارع تكريساً .
يعد خروجاً عن الوضع السوي الذي تمثله اللغات من التنوع الثراء و والتعارف ، وخروجاً عن المعهود من تعامل الشعوب المتعايشة في وطن واحد مع لغاتها المختلفة، وفوق ذلك هو نقل للحالة الطبيعية الصحية التي كان عليها واقع الحال في إرتريا حتى في زمن المستعمر، إلى حالة مرضية تصبح فيها اللغة خط تماس ، ويكون أمرها في غاية من الحساسية وحين يصل فرض لغة ما ، أو تهميش أخرى ؛ إلى هذه الدرجة من التعسف ، فإن اللغات تدخل في دائرة الصراع من أجل البقاء ويأخذ أمرها منحاً آخر ، تغدوا فيه اللغة الخاصة بمثابة المقدس ، وخط الدفاع الأول عن الهوية ، والشخصية ، والنقل منها كالنقل من دين إلى دين ، واللغة الأخرى المفروضة بمثابة الهوية المغايرة ، والمقدس المخالف .
وعندما طبقت الشعبية سياسة تهميش اللغات وفرض اللغة التقرينية ،وكان من بين تلك السياسات ما أسمته بالقوميات ، الذي قسمت فيه القوميات على أساس اللغات ، وكان من نتاج ذلك محاولة اعتبار قبيلة الجبرته المسلمة العريقة ضمن قومية واحدة مع غيرهم من ناطقي لغة التقرينية ، تحت مسمى القومية التقرينية ، تغليباً لجانب اللغة وإغفالاً لفارق الدين الذي هو المقوم الرئيس لتميز قوم عن قوم ، أو رسم هوية لشعب دون هوية أخرى وقد رفض الإخوة الجبرتة ذلك بكل إباء ، وفطنة ، وبعد نظر ، وسجلوا ذلك الموقف التاريخي المشرف ، الذي آثروا فيه ما يميزيهم على ما يذيبهم ، ورفضوا الدخول تحت مسمى قومية التقرينية الذي يضمهم تعسفاً مع من لا يلتقون معه في دين.
وعليه فإن فرض التقرينية على هذا النحو المتعسف ، سواء كان بوصفها لغة على عموم الشعب الإرتري ، أو بوصفها قومية على الإخوة الجبرتة ، هو أمر مرفوض من الكل ، فالجبرتة وإن كانوا ناطقين باللغة التقرينية ، إلا أنهم قبل ذلك ؛ لهم دين به يعتزون ، واسم به يتمزون .
وخاتمة القول ما كان أمر اللغة ليصل إلى هذه الدرجة من الحساسية ، وهذا القدر المتداخل مع الدين والهوية ، إلا بسبب ممارسات الشعبية الإقصائية التي أقصت فيها بقية اللغات وفي مقدمتها اللغة العربية التي تمثل لعموم المسلمين في إرتريا لغة الدين والكتاب، ونسبة المسلمين في إرتريا معروفة ولا يتناسب معها هذا الواقع الذي تكرسه الشعبية ، بالإضافة إلى ما كان عليه الحال من تعايش اللغات ، وما كان للعربية من الحضور والزخم الذي أشرنا إليه، وقد قفذت عليه الشعبية.
وعلى كل فهذا مسلك سوء اختارته الشعبية لضرب التعايش السلمي الذي كان عليه أهل إرتريا ، وحالة مرضية أحلتها مكان الوضع السوي لاختلاف اللغات .
وهو في نهاية المطاف تاريخ أسود سجلته الشعبية على نفسها ، لكنه لا يعدوا كونه بمثابة زبد تحاول أن تغطي به على ما ينفع الناس ، وعاقبة الزبد أن يذهب جفاء والمرض قد يطول لكنه يزول.
أبوحاتم عبد الرحمن
.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=13462
أحدث النعليقات