المثقف الإرتري المسلم ووجود مجتمعه بين الحقيقة والادعاء

يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت: (أنا أفكر إذن أنا موجود) وإذا ما جاز لنا أن ننطلق من مقولة ديكارت هذه في الحديث عن (وجود المجتمع المسلم السياسي في إرتريا) هل هو حقيقة أم ادعاء؟ فيمكننا أن نقول: ما دام ثمة أناس من المجتمع الإرتري المسلم يفكرون من منطلقات عقيدة هذا المجتمع في أطروحاتهم السياسية، فإن هذا المجتمع إذن موجود، إذ الشيء لا يأتي من لا شيء، ولولا وجوده لما كان وجودهم، بغض النظر عن التباين الفكري بين الطرفين، وعن الحجم الكمي الذي يمثله وجوده ووجودهم في الواقع السياسي، و بغض النظر أيضا عن مقدار وطبيعة وعيهم ووعيه بالعقيدة التي يؤمنون بها معا، هل هما على درجة واحدة من الإدارك بحقيقة هذه العقيدة ومدلولها فيما تعنيه، هل هي مجرد إيمانيات وجدانية جامدة، لا علاقة لها أبدا بنشاطه السياسي، والاقتصادي، والثقافي، أم أنها منهج حياة شامل، يجب أن يتخذ منها قاعدة تفكيره السياسي في مشاريعه السياسية؟.

ينفي الأخ أبو وضاح محمد مسكور في حواره مع الأخ إدريس همد ــ وللأخوين مني كل الشكر والتقدير والتهنئة بصيام رمضان وقدوم العيد ــ وجود مجتمع مسلم سياسي، يحمل مشروعا سياسيا من منطلقات إسلامية في إرتريا، ذاهبا إلى أن الموجود فقط إنما (هو اجتهادات لقوى سياسية، تبحث عن مجتمع ) هو في الحقيقة لا وجود له على ميدان الواقع، مشيرا إلى أن الوجود الفعلي والفكري للمسلمين في إرتريا يتمثل فقط في (وجود مسلمين عقائديا في اطار صيغة مجتمعية).

 ويكون الأخ أبو وضاح محقا في نفيه هذا، إذا ما كان يقصد وعي هذا المجتمع بالمشروع الإسلامي، وهنا من الممكن أن نقول بانعدام هذا المجتمع، ولكن ليس انعداما كليا وإنما جزئيا، إلا أنه من الخطأ أن يكون انعدام هذا الوعي أو عدم انعدامه، كليا أو جزئيا، هو مدخلنا إلى الحديث عن وجود هذا المجتمع أو عدم وجوده؛ لأن الوعي بالمشاريع وحملها، أيا كانت طبيعة هذه المشاريع هو من المتغيرات، ولا يمكن أن تكون المتغيرات هي المقياس أو المعيار في نفي وجود مجتمع ما أو إثباته، وإنما المعيار في النفي وعدم النفي هو الثابت المتفق عليه، وهو هنا (وجود مسلمين في إرتريا عقديا في إطار صيغة مجتمعية) وهذا موجود فعلا، لا يملك أحد إنكاره، وهو محل اتفاق الجميع، وفي هذه الحالة يكون النقاش حول قابلية هؤلاء المسلمين لتقبل المشروع الإسلامي وحمله، والقابلية من المتغيرات، ومن الصعب أن يجزم أحدنا بنفي هذه القابلية كليا؛ بحكم أن الإنسان له قابلية التحول والتغير، فهو ليس كائنا جامدا، يلزم حالة واحدة لا يتغير عنها، وإنما هو في تبدل مستمر، ومشاريعه التي يحملها هي تبع لتحولاته وتغيراته، وما دام هو بهذا الوصف، فمن الممكن جدا أن ترتفع معدلات قابلية المسلم الإرتري لحمل مشروع سياسي ذي منطلقات إسلامية، أو تنخفض وتهبط إلى المستويات الدنيا حتى تصل درجة الانعدام، حسب طبيعة خطاب هذا المشروع السياسي، ذي المنطلقات الإسلامية، بمعنى هل هو في ذاته خطاب واقعي يجعل من مشروعه متناسبا مع المصلحة الواقعية زمانا ومكانا، فيتحرك بين المجتمع وفق مراعاة قرب الإنسان وبعده من تحقيق هذه المصلحة، أم أنه خطاب مثالي لا مجال للواقعية فيه؟ وعلى أساس من هذا الفقه يكون نجاح ذاك المشروع وفشله في هذا المجتمع أو ذاك المجتمع، والدين في طبيعته إنما جاء لمصلحة المجتمع، وعندما لا يكون الدين منسجما مع مصلحة المجتمع يكون التناقض بينه وبين المجتمع كبيرا وحادا؛ وعندها لا بد أن نكتشف وجود خلل ما في وعينا بالدين، أو في الدين ذاته، إما بتحريف طرأ عليه، أو بتأويل تعسفي من عندنا لا يتمشى وطبيعته، وعليه ما دام وجود المسلمين في إرتريا هو وجود عقائدي ثابت، فإن حملهم لمشروع سياسي ذي منطلقات إسلامية لا أقول ممكن فحسب، وإنما موجود بأقدار مختلفة، وقابل للنمو والتطور؛ ذلك أن مفهوم هذا المجتمع لمعنى العقيدة التي يحملها وعلاقتها بشؤون حياته لم يعد هو عين مفهومه لها في ماضيه، فما زال الدين يتجدد في ذاته يوما بعد يوم، فبعد أن كان دينا منعزلا عن ميادين الحياة، حابسا نفسه في تكايا التصوف وأضرحة أوليائهم وحولياتهم، أصبح اليوم عند عدد كبير لا يستهان به من الشباب، دينا متحررا عن كل خرافة، يصل العقيدة بالحياة السياسية، كما يصلها بالحياة الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، ويقدم هوية الذات على هذا الأساس.

الذين ينظرون اليوم إلى المجتمع الإرتري المسلم، ويحللون تفاعلاته السياسية من واقع الجمود على فهم يجعل من (العقيدة) معنى مفصولا عن الحياة، هم في الحقيقة غير مواكبين لنمو وتطور حالة التدين في المجتمع الإرتري المسلم، وهذه أحد أهم أزمات المثقف الإرتري المسلم في علاقته بمجتمعه كما أرى، من أحد أسبابها جموده على مفاهيمه التقليدية للدين، الموروثة أصلا عن ماضي علاقة المجتمع بالدين، وتخلفه بكثير عن مواكبة تطور وعي مجتمعه بالدين وعلاقته بالحياة، ونتيجة لهذا التخلف يحسب أن الأمر لا يعدو من أن يكون (اجتهادات لقوى سياسية تبحث عن مجتمع) غير موجود أصلا، وتصور ديني لا يكمن إلا في ذهنية الدكتور جلال عن مجتمع (الكبسا)، حمله على أن يبحث له عن (مقابل ديني)؛ الأمر الذي يعني في نظر هؤلاء مجافاة للحقيقة، ومجانبة للدقة!! مع أن واقع التدين عند المجتمع الإرتري المسلم يقول غير الذي يقولونه.

وما قاله الأخ أبو وضاح في النقاش، من أن هذا نابع من تصور للدكتور جلال عن مجتمع (الكبسا) هو كلام لا يعبر عن الحقيقة، وإنما هو تعبير عن فهم صاحبه لخطاب الدكتور جلال، ومفهوم الخطاب ليس هو الخطاب.

أعتقد المسألة أكبر من أن تختزل بهذه الطريقة التبسيطية، إنها تحولات اجتماعية كبيرة، تحدث على مختلف الأصعدة والمستويات، تتطلب منا وقفة عميقة في تحليل واقع صلة مجتمعنا المسلم بدينه، حتى نحدد مسافة اقترابنا منه أو ابتعادنا عنه، فوعي الناس بالدين بات اليوم يتحرك خارج إطار الاجتهادات السياسية لهذه القوى وتلك، وأيضا خارج  تصورات الأفراد عن هذا المجتمع وذاك، وعلينا أن نتجدد كما يتجدد مجتمعنا.

والانطلاق من ملاحظة قوة الروابط الاجتماعية، بين أفراد هذا المجتمع المسلم في مكان ما، وضعفها بينه وبين مجتمع مسلم في مكان آخر من الوطن نفسه، وإقامة التحالفات السياسية على ضوء ذلك، ليس دليلا كافيا على انعدام وجود مجتمع سياسي يحمل مشروعا ذا منطلقات إسلامية، فمن الممكن أن يكون هذا الوجود مع وجود هذه الظاهرة، وهذه قضية أخرى تتطلب منا نقاشا آخر، لكن لا بأس أن أورد هنا مثال الحركة الإسلامية في كردستان العراق، ونظيرتها الحركة الإسلامية في بغداد التي يمثلها الحزب الإسلامي العراقي، ذلك أن اهتمامات وتحالفات كل منهما تختلف نوعا ما عن اهتمامات وتحالفات الأخرى، وأن علاقة كل منهما بمحيطه أعمق بكثير من علاقته بالأخرى، ومرد ذلك يعود إلى أن المشاريع السياسية مهما كانت منطلقات حامليها الفكرية متحدة، فإنها محكومة بمصالح البيئة الاجتماعية، ينظر إليها وفق فقه الواقع وتحدياته، وتباين الاجتهادات السياسية في معالجاته والتعاطي معه، والتوفيق بين المطلوب شرعا والممكن واقعا، وترتيب الأولويات والموازنة بينها إقداما وإحجاما.

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح

القاهرة

27/9/1433هـ الموافق 15/8/ 2012م

 

 

 

 

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25213

نشرت بواسطة في أغسطس 16 2012 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010