المثقف المسلم الإرتري وأصناف المثقفين
المثقفون هم الصفوة من المجتمع، لديهم قدرات علمية متفاوتة، يسهمون بها في رفع وعي المجتمع بمصالحه السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، على أسس، وقواعد فكرية، حسب مدارسهم التي ينتمون إليها وينطلقون منها.
والمثقفون ليسوا على درجة واحدة في توظيف قدراتهم العلمية والفكرية لصالح مجتمعهم، وإنما هم على مستويات ودرجات متباينة، فهناك المثقف المبدئي الذي يعمل في خدمة ما يحمل من مبادئ، وما يعتنق من قناعات، وهناك المثقف النفعي الانتهازي الذي يجعل من المبادئ مطية له إلى منافعه الشخصية، وهناك المثقف الانعزالي السلبي الذي يعيش بعيدا عن اهتمامات مجتمعه وهمومه.، إذا ما استنهضته قال لك: وأنا مالي!!
والمثقف المسلم في المجتمع الإرتري هو كغيره من المثقفين تتنازعه هذه الأوصاف الثلاثة، وأعني بالمثقف المسلم هنا من ينطلق من قيم المجتمع المسلم الإرتري في تحليل الإشكاليات القائمة وتقديم الحلول الواقعية لها.
المثقفون والكيانات السياسية
ينضوي عدد من المثقفين الإرتريين اليوم في كيانات سياسية مختلفة، ولكل كيان سياسي منهج فكري في بناء مثقفيه، وعلى ضوء هذا المنهج الفكري يختار المثقف الإرتري الجهة التي تناسبه وتمثل وجهته الفكرية؛ فينضوي فيها متى رأى ذلك؛ ليسهم من خلالها في بناء مجتمعه، وخوض الصراعات السياسية التي تفرضها طبيعة هذا البناء.
المطلع على التثقيف السياسي للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا (الجزء الأول والثاني) يجد بروز المنهجية الماركسية في تحليل المجتمع الإرتري واضحا بشكل قوي، حيث أسهم المثقفون الماركسيون في التنظير لبناء هذا التنظيم بكل إخلاص وتفان، وبعد أن تحولت الجبهة الشعبية إلى حزب باسم (حزب الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية) شهدت حالة من الصراع بين مثقفيها، ففي حين نادى جماعة من هؤلاء المثقفين بإجراء إصلاحات وترميمات داخلية، قد تكون شكلية في ذاتها، قام آخرون منهم بمواجهتهم، بل وقمعهم، متهمين إياهم بالخيانة والتآمر على الحزب ومصلحة الوطن.
مهما كان الموقف من النظرية التي تبناها هؤلاء المثقفون في بناء حزب الجبهة الشعبية، ومن الانشطار الذي شهده صفهم الداخلي عقب التحرير 2001م، فإن الذي لا مراء فيه إن الحزب أضحى أسيرا في يد مجموعة شيفونية من مثقفي التجرنية الذين صبغوا الدولة والمجتمع بصبغتهم القومية، وهكذا أخفق الحزب كامل الإخفاق في تسيير شأن الدولة، بل في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، وما عاد هنالك اليوم حزب بالمعنى المؤسسي الحقيقي للحزب، فضلا من أن تكون له نظرية وطنية تسيره، ومثقفون وطنيون يقودونه، وأصبح الشوعيون الأوائل من مثقفي الحزب بين مهمشين أو محنطين في متحف التاريخ، كالدمى الفرعونية، يزورهم الناس للذكرى والاعتبار، يوقعون في نهاية كل شهر على مقدار من المرتبات المخصصة لهم، وبين آخرين معتقلين في السجون لمجرد أنهم احتجوا على بعض السياسات الشيفونية، ونهجها الدكتاتوري.
إزاء هذا الوضع الشيفوني أضحى المثقف في الجبهة الشعبية مجرد مظهر شكلي، لا وزن له، ولا أهمية تذكر، كل ما يسند إليه لا يعدو أكثر من تنفيذ ما يؤمر به، وتبرير مواقف الدكتاتور، والدفاع عن سياساته الفردية، والترويج لها، وبهذا فقد مثقف الجبهة الشعبية دوره الريادي وبات لا يجرؤ على النقد، إلا في الحدود المرسومة له، لأن كل من انتقد متجاوزا الخطوط الحمراء حلت به اللعنة الأسياسية، ومن حلت به اللعنة الأسياسية كان السجن مأواه، والقبر مثواه.
من الطبيعي أن تبرز هذه الحالة شكلا من أشكال المثقفين الممسوخين داخل الجبهة الشعبية، الذين لا يجيدون غير التطبيل السياسي، ولا يكتبون إلا ما كان دجلا ونفاقا، الذين يضيقون ذرعا من الأفكار التجديدية، والآراء النقدية، متخذين من صحف النظام ومواقعه الإلكترونية منفذا للتعبير عن دجلهم ونفاقهم.
انطلاقا من هذه الحالة المزرية التي يلمسها الجمبع بكل ما تفرزه من تشوهات ثقافية، أحلل واقع المثقف الإرتري بشكل عام على النحو التالي:
المثقف المبدئي
المثقف المبدئي هو الذي يناضل في سبيل عقيدة يحملها، ومع ذلك يقدر العقل، ويتعامل مع الفكر، ويتفاعل مع الحوار العقلاني المنطقي، مهما بلغ حدا من التعصب، ولا يرضى لذاته أن يجعل منها ظهر حمار يركب، فهو يتطلع دائما إلى التحرر في ضوء القناعات الفكرية التي يحملها ويؤمن بها، وينشد التغيير الإيجابي بشكل مستمر كما يراه، وينحاز دائما إلى مصلحة المجتمع كما يراها، ويقوم بتحليل وغربلة كل ما يقال له، ويرسل إليه، من تعميمات وتعليمات، ويسجل مواقف تاريخية لحظة الضرورة الملحة والمناسبة، في سبيل المبدأ الذي يؤمن به، لكن ليس بالضرورة أن تكون هذه المواقف التاريخية تنحصر في النطق بكلمة حق أمام حاكم جائر، يذهب ضحيتها سجينا، أو قتيلا، وإنما قد تكون بالانسحاب من حالة الذيلية والتبعية التي يراد له أن ينساق لها، ويلمسها بأم عينيه، إذ ليست التضحية بالذات مطلوبة لذات التضحية، وإنما لأهداف وغايات وطنية سامية، قد تكون حياته لها في لحظة بعينها، صامتا منحازا إلى ركن آمن، أفضل من مماته أو سجنه في سبيلها، أو بمعنى آخر هو الذي يعرف متى يموت أو متى يحيا في سبيل فكره.
ولأن المثقف المبدئي يمارس النقد العلني البناء، متى ما وجد الظرف مناسبا، والفرصة متاحة، ملتزما سلوكياته الراقية، نجده دائما لا يتضايق أو يتضجر من النقد لآرائه وأفكاره، لإيمانه اليقين بأن النقد الملتزم مظهر حضاري، لا بد منه في الرقي بالشعوب، ولهذا نراه يستعذب الحوار، ويحاول أن يحدد محاور الإلتقاء؛ ليجعل منها محل وفاق وطني، ويؤجل محاور الخلاف إلى حين مناسب، ولا يحاول أبدا نفي الآخر أو تذويبه في ذاته، أو رميه بالتهم، وتشويهه بالأباطيل، لكون ذلك لا يمكن ان يكون إلا وفق رؤية قمعية، تؤسس حتما لمشروع ديكتاتوري، طائفي، شوفيني، أو آحادي فردي، لايهمه هذا ولا ذاك، وهذا ما يتنافى مع منهجيته.
إن هذه الخصائص الإيجابية في المثقف المبدئي تجعل منه محل سخط وعدم رضا من القيادة الدكتاتورية أو الطائفية، وتعرضه دوما للعزل والتهميش بشكل وآخر، قد يصل إلى تلفيق التهم الباطلة بحقه، من أجل سحقه أخلاقيا، وتبرير الرمي به في أغبية السجون والمعتقلات، تخلصا منه بكل ما يحمل من أفكار تحررية؛ ليحل محله المثقف النفعي الانتهازي الوصولي.
المثقف الانتهازي النفعي
المثقف الانتهازي النفعي بشكل عام هو من يلوي عنق الحقيقة كما يود لها الدكتاتور أن تلوى، ويتلون لكل حالة بلونها، وهو من يسهم في صناعة هذا الدكتاتور ثم يعمل على اضفاء هالة من القداسة على شخصيته، حين يكيل له المديح تباعا، ويجعل من ظلمه عدالة، ومن قمعه رحمة، ومن هزائمه انتصارا، ومن كل معارضيه عملاء وخونه، ومرتزقة.
هذا المثقف الانتهازي النفعي بسلوكه هذا لا شخصية له، فهو كالماء يتلون بلون إنائه، أينما توجهه مصالحه يتوجه، إن أحسن الدكتاتور يحسن، وإن أساء الدكتاتور يسيئ، تسيره المنفعة الذاتية، ليس له قابلية ذاتية للتحرر من حالة الامتهان التي يعيشها، تتسم سايكلوجيته النفسية بأخلاقيات النفاق والمزايدات، ويمارس هذا الجانب من السلوكيات بنفس ممتهنة راضية بالدونية والاحتقار، ترتعد فرائصه من الصنم الذي صنعه، وينحني له رغبة ورهبة ، كل ما يستهويه هو الرقص والطرب على أنغام الدكتاتورية!!.
أصناف المثقفين الانتهازيين
ليس كل المثقفين الانتهازيين على درجة واحدة من الانتهازية النفعية، وسوء النية، وعلى نمط واحد في تعاملهم مع المثقفين المبدئيين، وفي ولائهم للأنظمة الشيفونية والدكتاتورية، فهم على صنفين اثنين هما:
أولا: انتهازيون تحركهم الأحقاد
المثقف الانتهازي الحاقد هو الذي تحركه إلى جانب منفعته الشخصية جملة من الأحقاد التي لا نهاية لها، بكل ثقلها وتراكماتها، وتنوعاتها، إلى الحد الذي لا يتمكن فيه من التوقف لحظة للتفكير النزيه، بالرغم من أنه قد يمتلك قدرات التفكير، لكنه من ثقل الأحقاد التي يحملها يمضي في طريق الغواية، وهو على وعي بخطورة طريقه عليه، وعلى المجتمع، بل وعلى الحزب الذي ينتمي إليه أيضا، تدفعه إلى ذلك جملة عقد نفسية، من نحو تصفية حسابات جهوية، أو عشائرية، أو طائفية، أو طبقية، أو تنظيمية، أو الشعور بدونية اجتماعية، ينفث سموم الحقد، وينشر ثقافة الكراهية التي تشبع بها عقله، وتراه يجترها كلما وجد إلى ذلك سبيلا، وكثيرا ما يستغل فيه الدكتاتور هذه العقد التي تعميه، فيتخذ منه بوقا، ويتخذ منه جلادا، ويتخذ منه جزارا، ويتخذ منه جبارا، ويتخذ منه مخبرا.
هذا النوع من المثقفين الانتهازيين يمثل أكبر عائق في طريق الخلاص الوطني؛ لكونه ليس نفعيا فحسب وإنما أيضا حاقدا في ذاته، انتقاميا في سلوكياته، شرسا في خصومته، معقدا في نفسيته، يعتمد القمع، ويؤيد القمع، ويمارس القمع، فهو الجلاد الأول، وهو السوط الأقوى في يد الجلادين، وهو الزنزانة المظلمة بكل ما فيها من فنون التعذيب النفسي والبدني، وهو المخبر الأعظم، الخاوي من أدنى مروءة إنسانية، يتتبع مجالس الناس وأحاديثهم، وسقطات ألسنتهم، يطلق لسانه ليصف الآخرين بالعمالة، والخيانة، والإرهاب، والطابور الخامس… إلى غير ذلك من المفردات الجارحة التي يسمعها من فم رئيسه، ويتربى عليها، ويرقص على أنغامها، وقديما قيل: ابن البط عوام.
أفضل وسيلة للتعامل مع هذا الصنف من المثقفين الانتهازيين هو محاصرتهم اجتماعيا، بكشف مكايداتهم، وتعرية أساليبهم، وتسليط الضوء على نفسيتهم المعقدة، وتحليلها تحليلا علميا، من خلال ما يكتبون، والبحث عن خلفيتهم التاريخية، وسيرتهم الاجتماعية، ثم توعية الناس بأخطارهم، حتى يأخذوا منهم حذرهم، عند كل مسجد، ومعبد، ومأتم، ومحفل، ومقهى، ومطعم… والسخرية منهم بتحويلهم إلى نموذج للإخفاق، والفشل، والعقد النفسية، والدناءة، والخسة، باعتبارهم وباء اجتماعيا، يمكن أن يصيب الآخرين بالعدوى، ومن ضروريات الطب الوقائي كرتنتهم ثقافيا، حفظا لحياة الآخرين الثقافية.
ثانيا: انتهازيون لهم قابلية الصحوة
يضم معسكر المثقفين الانتهازيين من له قابلية الصحوة، من يعيش حالة من تأنيب الضمير، قد يفيق في لحظة من اللحظات؛ ليصحح من وجهته الخاطئة، وليمارس حقه الطبيعي في إعادة البناء، والنقد الذاتي.
هذا النوع من المثقفين الانتهازيين، ممن لهم قابلية اليقظة والصحوة ميزتهم أنهم متحررون من الأحقاد، لذا يجب الاقتراب منهم، ومخاطبة ضميرهم الوطني بين الحين والآخر؛ لأنه متى ما صحت ضمائرهم عادوا إلى رشدهم، وصارت لهم قابلية العدول عن الخط المنحرف؛ فيعملون بإخلاص وطني، ومن بين هؤلاء من كان ساذجا مضللا، فمن هو إذن المثقف الساذج المضلل؟ .
المثقف الساذج المضلل
من الممكن أن يكون الإنسان مثقفا، ولكن في الوقت نفسه ساذجا، توظف طاقاته الثقافية لأهداف تخريبية، ذات نزعات دكتاتورية وشيفونية لفترة من حياته، ولكن من المستحيل أن يبقى ساذجا طول حياته، يعمل ضد مصلحته، تسخره توجهات شوفينية لمآربها الخاصة، وتركبه نزعات طائفية، وكأنه حمار يحمل أسفارا ( كتبا)، تخدعه الشعارات الكاذبة، وعليه أتساءل: حتى متى سيبقى هؤلاء المثقفون الساذجون الذين يطلق عليهم الشوعيون وصف (المغفل النافع) مجرد أشخاص تسخرهم الشيوفيينية لخدمتها والدفاع عنها باسم الوحدة الوطنية وهم لا يشعرون، مضللون عن نقد منطقي وواقعي للحالة المزرية الماثلة أمام الجميع، والتي يعاني منها وطنهم؟!!
أظن أن مثقفا يمتلك مقدارا من الوعي الوطني لا يرضى لنفسه أن يكون غوغائيا بهذا الشكل، يلعب هذا الدور غير المناسب لإنسانيته، وغير اللائق بوطنيته، وعليه أن يحاول القيام بعملية نقد ذاتي لنشاطاته أولا، ثم بعد ذلك نقد موضوعي للتوجهات الشيفونية بشكل عام، وللواقع الشوفيني القائم، لا ليتركه نهائيا، ولكن ليحرره من هيمنة الدكتاتورية ونزعتها الشيفونية، وليرتقي به إلى عمل مؤسسي، يعلي من شأن المواطن الإرتري، ويمنحه حريته الحقيقية، وحقوقه المسلوبة، وبهذا يبني وطنا تسوده العدالة، وتعمه الحرية، ويأمن فيه الجميع من الجوع، والخوف.
عيد سعيد وكل عام وأنتم بخير
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
القاهرة
30 رمضان 1433هـ الموافق 18/8/2012م
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25278
أحدث النعليقات