المثقف المسلم .. مصطلح في حاجة إلى تعريف
المثقف مهما كانت وجهته الفكرية هو أحد أهم العناصر الأساسية في عملية التغيير الحقيقي والجوهري التي يشهدها مجتمعه، أو يمكن أن يشهدها، أيا كانت طبيعة هذا المجتمع، وأيا كان هذا التغيير، وحيث يكون المثقف منتميا إلى ثقافة قومه، معتزا بها، وفخورا ــ من غير عصبية تعميه عن نقد سلبياتها ــ يكون مردوده الثقافي على مجتمعه إيجابيا، وتكون انتقاداته بناءة، وحيث يكون المثقف منسلخا عن ثقافة قومه، متحرجا من الانتماء إليها، متنكرا لمبادئها وقيمها العقدية وأصالتها التاريخية يكون مردوده الثقافي على مجتمعه سلبيا، وتكون انتقاداته هدامة، يعيش الهزيمة في نفسه، فهو أسير قيودها، وتحت تحكمها، من خلالها ينظر إلى مجتمعه، فلا يرى فيهم إلا كل منقصة، يصفهم بالتخلف، ويسقط عليهم هزيمته الداخلية، ويود منهم أن يلحقوا بركب تلك الثقافة التي يعيش هو تحت ضغط هزيمتها.
هذا النوع من المثقفين يصدق عليهم تماما قول ابن خلدون في مقدمته: (المغلوب مولع بتقليد الغالب) فهم مغلوبون، ومن ثم هم مولعون بتقليد من غلبهم، والفناء في ذاته، يتحدثون لغته، ويتقمصون قيمه وشخصيته، وبهذا هم عبء على مجتمعهم، لا يزيدونه إلا خبالا.
مجتمعنا الإرتري المسلم يوجد فيه عدد غير قليل من هؤلاء المنهزمين، كما يوجد فيه عدد غير قليل أيضا من أولئك الفخورين المعتزين بثقافة مجتمعهم الإسلامي، الساعيين إلى تهذيبها بنقدها، يتخذون منها منطلق نهضتهم الفكرية، وبعث مجتمعهم من جديد؛ للقيام من بين ركام الهزيمة أو الهزائم المتتالية.
الحوار الدائر حاليا بشأن المثقف المسلم الإرتري ودوره المرتقب في تفاعلات الساحة الإرترية والذي أثارته غرفة الحوار الوطني الإرتري مشكورة، نابع بالتأكيد من الوعي بأهمية دور هذا المثقف من أي الفريقين كان، في البناء أو الهدم، وهنا أحيي بكل حرارة القائمين على أمر هذه الغرفة؛ لاهتمامهم بمثل هذه العناوين، وأطالبهم بمزيد منها.
جميل أن يعود هذا المصطلح ( المثقف المسلم ) اليوم إلى صفحات حواراتنا الإعلامية من جديد، بعد أن غاب غيبته الطويلة، من جراء المطاردات والمضايقات التي اتبعها ضده منظرو الثقافة اليسارية بتهريجاتهم الخرافية، ولكن حتى يكون النقاش بشأن دور المثقف المسلم مجديا ومفيدا، لابد أولا من تحديد معنى مصطلح ( المثقف المسلم) ماذا نعني بالمثقف المسلم؟ وما هي معاييره في نظرنا؟.
تحديد مصطلح المثقف المسلم
من المهم جدا أن نعلم أن للمصطلحات دلالاتها، ومن الضروري أيضا أن تكون هذه الدلالات واضحة في أذهاننا؛ ونحن نتحاور ونتخاطب بهذا المصطلح أو ذاك، وإلا كانت حواراتنا من نحو حوارات الطرشان كما يقولون، لا يستطيع طرف منا أن يفهم الآخر بصورة كاملة وواضحة، ومن هنا يلزمنا الإجابة أولا على سؤال: هل المقصود بـ(المثقف المسلم) هو من ينطلق في تفكيره من أصول الفكر الإسلامي وثقافته؟ أم هو كل من يحمل اسما إسلاميا، ويكتب في هويته إنه مسلم، بغض النظر عن المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها ؟
إن بعضنا يستخدم هذا المصطلح وهو يقصد منه معنى غير المعنى الذي يقصده مستخدم آخر للمصطلح نفسه؛ والبعض منا يستخدمه لمجرد أن الآخرين يستخدمونه، هكذا تقليدا من غير اهتمام بمدلوله؛ الأمر الذي يعني انعدام وحدة المفاهيم بيننا في المصطلح المستخدم، ومن ثم التناقض والتضارب والإخفاق في خلق وإيجاد خطاب مشترك واضح المعالم ومحدد المخرجات، يمكن أن يفهمه الانسان العادي من المجتمع المستهدف به، دون أي تعقيدات وفذلكات متكلفة .
أنا هنا لا أريد أن أضع تعريفا من عند نفسي لمصطلح (المثقف المسلم) وإنما أترك ذلك لإسهامات القراء وتعليقاتهم، ولكني أحب أن أوضح أني أستخدم هذا المصطلح على أنه وصف لمن ينطلق في تفكيره من أصول الفكر الإسلامي وثقافته، وليس لمن هويته إسلامية فقط، في حين أنه يتخذ من الفكر العلماني اللاديني بمختلف مدارسه مثلا نهجا له في تحليل الظواهر الاجتماعية، وتحديد المواقف منها، من غير أن يعير الفكر الإسلامي أدنى اهتمامه، وفي الوقت نفسه يحاول التعالي عليه، وهو لا يحسن قراءته بحكم تكوينه الثقافي ونشأته التربوية.
ذلك أن المثقف محكوم بالفكر الذي يعتنقه، وكفاءته العلمية ومقدرته الاستيعابية هي من يخلع عليه لقب (المثقف) لا مجرد ادعاءاته، ومن لا يحمل فكرا أيا كان هذا الفكر وينتمي إلى مدرسة من مدارسه لا يمكن أن يكون مؤهلا لحمل وصف (المثقف) وإنما هو (متثاقف) يقتات على موائد المثقفين، وإلا فقدنا التمييز بين الإنسان ( المثقف ) والإنسان (الأمي) الذي لا يكتب ولا يقرأ، أو شبه الأمي الذي لا يدرك معنى ما يقرأ، أو الذي يتصنع الثقافة وهو يفتقر إلى شروطها.
صحيح المثقفون ليسوا على مرتبة واحدة من الوعي والإدراك، مهما اتحدت مدارسهم أو اختلفت، ولا يمكن إلا أن يكونوا كذلك، سواء على مستوى الباحثين منهم، أو على مستوى الناشئين، أو على مستوى عطاءاتهم الفكرية، ولكن مع ذلك كله فإن القاسم المشترك بينهم هو أنهم حملة فكر بعينه، ينتمون إلى مدرسته، وعلى ضوئه يفكرون، ويحللون، وينقدون، وعنه يدافعون، وينافحون، فهناك المثقفون الفرانكوفونيون، وهناك المثقفون الأنجلوسكسيون، وهنالك المثقفون الماركسيون، وهنالك المثقفون الإسلاميون.
على أساس من هذا يفترض النظر إلى المثقف، وذلك بالتعرف على مدرسته الثقافية ومعاييرها، لا من خلال النظر إلى اسمه أو هويته الدينية المثبتة في بطاقته فقط، أو النظر إلى أسرته وتراثها الثقافي، وبناء عليه يتحدد عما إذا كان وصف ( المثقف المسلم ) ينطبق عليه أم لا، وساعتها يكون الحوار معه مجديا ومفيدا في آن واحد.
وبقليل من التأمل نجد أن وصف المثقف بـ(المسلم ) إنما جاء بقصد تمييزه عن المثقف الآخر غير المسلم، إلا أن بعض مستخدميه يستعملونه من منطلق النظر إلى الخلفية الاجتماعية، وليس الخلفية الفكرية، كذلك الأمر نفسه بالنسبة للمثقف المسيحي، أصبح ينسبه بعض منا إلى (المسيحية) من منطلق النظر إلى خلفيته الاجتماعية فقط، لا إلى خلفيته الفكرية، مع أنه قد لا يتخذ من المسيحية مرجعا له في تفكيره الثقافي، كما نفعل تماما مع ذاك الذي نصفه بـ(المثقف المسلم) مع أنه قد لا يتخذ من الإسلام مرجعا له في تفكيره الثقافي، وهذا في نظري أحد الأخطاء الكبيرة التي نقع فيها عند استخدامنا لمصطلحات من هذا النوع.
في الحلقة القادمة
مرجعية المثقف من مرجعية مجتمعه
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
القاهرة 18 رمضان 1433هـ الموافق 6/8/2012
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25037
أحدث النعليقات