المصفوفة الفاسدة
فتحي_عثمان
ما من حرب تشن دون خطاب كراهية عارم ومعد مسبقا يعمل بلا كلل لتجميل وجهها. ولا تستمر الحروب كذلك بدون خطاب مواز أو لاحق يدفع بالحجج وراء الحجج لتبرير “عدالتها”، بل وضرورتها.
وفي سياق تدخل اسياس في الحرب الأهلية الاثيوبية يعمل الخطابان جنبا إلى جنب: “زرع الكراهية وتبرير الحرب”. حتى هذه اللحظة يستميت الطرف المؤيد للتدخل ومبرريه من أجل اقناع الكل أن التدخل هو “حرب ارتريا” ومن أجل حاضرها الأبي ومستقبلها الزاهر.
هذا الاجتهاد المحموم أنتج “مصفوفة فاسدة” وهي في المحصلة النهائية خاسرة مؤداها أن التدخل في الحرب الأهلية الاثيوبية هو “حرب وطنية عادلة وضرورية” وأن من يعارضها هو “خائن للوطن ومناصر للعدو”
هذا التدخل ما كان ليتم ما لم يتم التمهيد له بهذه المصفوفة التي تشرخ البناء الوطني لعقود مقبلة، وتدفعنا لطرح سؤال مذهول لبناة هذه المصفوفة: “أين تقع الجموع الواقفة ضد التدخل في الحرب الأهلية الجارية في اثيوبيا والتي تعارض أطماع وياني في ارتريا في نفس الوقت؟ طبعا بحسب “منطق” أصحاب المصفوفة فإن هذا “مستحيل” أي لا يمكن أن تعارض تدخل اسياس وأطماع وياني في نفس الوقت: يجب أن تختار مع من تقف، ويبرر لهذه المصفوفة بأن الاختيار بين الاثنين “ضع خطا تحت كلمة بين” يخرج المرء من المنطقة الرمادية. والطبع لا تجيب المصفوفة القاصرة عن اختيار “الاثنين معا” لأنها تعتبر أن أحدهما يلغي الآخر.
لكن ألا يكون “تدخل اسياس” و”أطماع وياني” خياران يمكن تجاوزهما بخيار “عقلاني ووطني” ثالث؟
ببساطة أنه من ضياع القضية والحجة أن يستبدل المرء “طغيان” اسياس وفساده بطغيان وفساد قادمان من تيغراي سواء كان من الآغازيان أو من الوياني. فما فائدة استبدال “طاغية محلي” بآخر “مستورد”؟ هذا يدعم موقفنا الذي أكدناه سابقا غير مرة أن أي تغيير للحكم في ارتريا بأيدي خارجية يجعل هذا التغيير “مرهون” ومدين للآخرين، فمن يدعمك من أجل التغيير سيطالب بحقه منك، وهذا طبيعي. ومهما ثقلت “تكاليف” التغيير “ما حك جلدك كظفرك فتولى أنت جميع أمرك.”
الاجتهاد في محاولة رأب كسر المصفوفة الخاطئة ومعالجها منطقها المغلوط يتواصل يوما بعد يوم. فهذا منشور في الفيسبوك لسفير ارتري سابق في الاتحاد الأوروبي “يبرر” فيه وبالإنجليزية “تدخل ارتريا” في الشأن الاثيوبي بناء على “التاريخ والحق”. تاريخيا يشير السفير إلى أن ارتريا واثيوبيا لم تكفا يوما عن التدخل في شئون بعضهما بعضا. فإثيوبيا الغت الاتحاد الفيدرالي والجبهة الشعبية تدخلت مع وضد حركات ثورية اثيوبية من ضمنها حزب الشعب الثوري الاثيوبي والوياني “ولا يذكر السفير تحالف الشعبية والوياني ضد الجبهة” ويمضي في القول بأن التدخلات استمرت حتى دخول قوات الجيش الشعبي الارتري إلى اديس ابابا مع قوات الوياني وانسحابها في 1995. ويصور التدخلات كأمر طبيعي وتاريخي في العلاقات بين البلدين.
وبناء على هذا التاريخ فإن التدخلات المتبادلة أمر عادي. ويطالب السفير من من “يستنكرون” التدخل الارتري الحالي في تيغراي بأن عليهم “اقناع” الوياني بالكف عن حلم “تيغراي الكبرى”. وحسب منطقه أعلاه، يجزم السفير بأن ارتريا لن تكف عن التدخل في الشأن الاثيوبي ما لم يتم ترسيم الحدود واحترام السيادة وضمان سلامة الأراضي الارترية.
هذا “المدى” من التبرير للتدخل والذي بلغه السفير لم يصله حتى وزير الخارجية عثمان صالح في خطابه الأخير أمام الجمعية للأمم المتحدة، لسبب ان التدخل غير “مسوغ” قانونيا وضعيف سياسيا، لذلك تكتف الحكومة ومسئوليها بعدم إثارته، بينما يتبنى “سفير” مهمته وحسب الأعراف الدولية هي “حل الخلافات بالوسائل السلمية” تبرير الحرب وعقابيلها.
لا يستغرب صدور تبرير فطير كهذا من سفير سابق، لأن كتابته تأتي ضمن هذه المصفوفة المحددة سلفا والمرتبة، للأسف، وفق منطق مغلوط، من قبل مؤيدي الحرب والضاربين لطبولها. ولكن كل ذلك لا يحول المصفوفة من خانة الخطأ إلى خانة الصحة.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=46678
أحدث النعليقات