المظاهر الصوفية في كرن
الحلقة الأولى
ظلت المظاهر الصوفية في كرن، هي الوجه البارز من مفاهيم التدين الشائع، بين المجتمع الكرني، طوال الفترة التي كنا فيها، وتعتبر الطريقة المرغنية ( الختمية) أهم وأكبر طريقة صوفية، عرفها الإرتريون بشكل عام، والكرنيون بشكل خاص، كما أن كرن بقيت إلى حين وجودنا فيها أحد أهم معاقل الطريقة الختمية، بالإضافة إلى مصوع، وأغردات، حيث يضم ثراها جثمان الزعيم الروحي للرابطة الإسلامية السيد بكري، بن السيد جعفر المرغني، رحمهما الله.
استنتاجا مما قرأته في كتاب (طائفة الختمية أصولها التاريخية وأهم تعاليمها) للدكتور أحمد جلي، أن الطريقة المرغنية، دخلت إرتريا، عبر شرق السودان، مواطن قبائل البجا، (الهدندوا، والبني عامر)، حيث تولى أمر نشرها والقيام على شأنها، بين قبائل الشرق السيد الحسن بن السيد محمد عثمان المرغني رحمه الله، وذلك حين أوفده، والده مؤسس الطريقة الختمية، محمد عثمان المرغني، رحمه الله، من مكة المكرمة، إلى شرق السودان، فأسس قرية الختمية، في مدينة كسلا، وأقام بين ظهراني البجا، والحلنقة، ينشر فيهم طريقة أبيه، حتى توفاه الله عام 1896 م، ثم خلفه عليها ابنه محمد عثمان تاج السر، المتوفى عام 1886 م رحمهم الله جميعا.
لكن الدكتور بيان صالح يعيد دخولها إلى إرتريا، إلى عام 1827 م، ويذكر في رسالته العلمية ( الدعوة الإسلامية في إرتريا) أن الشيخ محمد عثمان المرغني نفسه، رحمه الله دخل إرتريا ” عن طريق مصوع، ومكث فيها عامين، ونشر فيها الإسلام بين آلاف من النصارى، والوثنيين، وانتظموا في طريقته، وبعد فترة أخرى عاد إلى إرتريا، عن طريق السودان، وأسلم على يديه عشرات الألوف، في أشهر معدودات، ثم عاد إلى مكة المكرمة، بعد أن أبقى فيهم خلفاءه…”.
وأحال الدكتور بيان صالح هذه المعلومة إلى كتاب (الإسلام في إثيوبيا) للكاتب الغربي (تريمنجهام)، وهذا ما يؤكده أيضا خليفة الخلفاء الفكي أحمد بن الخليفة عبد الله، فقد ذكر عنه ابنه عبد الفتاح أن السيد محمد عثمان المرغني وصل مصوع، ثم (لبكة) بالساحل، ومر بكرن، بعد ذلك أرسل خلفاء شمال السودان إلى كرن الخليفة عبد القادر الكنزي، الذي افتتح خلوة القرآن الكريم، ثم لحقه الخليفة مكي محمد أو (حمد)، ثم الخليفة الفكي أحمد، والد الخليفة عبد الله، وجد خليفة الخلفاء الفكي أحمد.
ولغرض دعوي كان هؤلاء الخلفاء يصاهرون القبائل النصرانية، بغية التأثير فيها، وكسبها إلى الصف الإسلامي، في تنافس حميم مع الإرساليات التنصيرية الإيطالية، المدعومة من المستعمر الإيطالي، وبهذا أضحت الطريقة المرغنية جزءا من النسيج الثقافي لمسلمي إرتريا، وصار لها على وجه الخصوص، وجود ثقافي مؤثر، بين قبائل البني عامر، والهدندوة، والحلنقة، عبر امتدادهم الجغرافي، من السودان إلى إرتريا، حيث طبعت وعيهم الديني بطابعها الصوفي، واستحوذت على كامل ولائهم، لبيت المرغني، متخذة من كسلا، وأغردات، وكرن، ومصوع، عواصم انطلاق، وانتشار بين كافة فئات المجتمع الإرتري.
واستقر بمصوع السيد هاشم بن السيد محمد عثمان المرغني، رحمه الله، بعد أن جاءها مبعوثا من والده بمكة، وله ضريح يزار بقصد التبرك، وفيه قال الفنان الأمين عبد اللطيف: (ضريح سيدي هاشم تتكللوا…) ومعنى (تتكللوا) تطوفوا، ومعلوم دينا أن الطواف خاص بالله وحده، عند الكعبة المشرفة فقط، ولكن الفنان ابن بيئته، لا يعكس إلا ما يراه ماثلا أمام عينيه، والفن مرآة لثقافة المجتمع..
وطبقا لما ذكره الدكتور عبد العزيز، الاستاذ بجامعة أفريقيا العالمية، بالخرطوم، في كتابه (أهل بلال): أن السيد هاشم ” ولد بمكة المكرمة… وتوفي في 2 جمادى الثانية عام 1319 هـ/1895 م ودفن بقرية حطملو، على أطراف مصوع، وترك أربعة من الأولاد، والبنات، هم: السيد محمد عثمان، والسيد جعفر، والسيدة مريم، والسيدة علوية”.
بالإضافة إلى مصوع توزع آل المرغني في أكثر من مدينة إرترية، فقد سكن أغردات السيد محمد عثمان المرغني، بينما سكن كرن السيد جعفر المرغني، وحسب كلام الدكتور عبد العزيز في كتابه أهل بلال “تزوجت السيدة علوية من ابن عمتها محمد صالح باعلوي المكي، ثم وقع بينهما خلاف، وطلقها لطلبها…”. أما السيدة مريم فأظنها استقرت في سواكن، ثم سنكات.
وبهذا وصلت الطريقة الختمية، بين هذه المدن، والحواضر، بوصال صوفي، ورابط ثقافي، أوجدت به، بين هذه المدن، تلاحما ثقافيا، وفكريا، وتأثيرا متبادلا، وهو أمر ما زلنا نلحظه، وسيبقى هذا التلاحم الثقافي، أيا كان نوعه، ما بقيت هذه القبائل، والشعوب، تعمر هذه المنطقة، بمختلف ثقافاتها، ومعتقداتها.
وأول من استوطن كرن من بيت المرغني، وتولى رعاية الطريقة الختمية فيها، هو السيد جعفر المرغني، رحمه الله تعالى، ثم خلفه عليها ابنه السيد بكري المرغني، ثم ابناه السيدان إبراهيم، وعبد الله المرغني، ثم الآن ابناهما السيد بكري، بن السيد إبراهيم، والسيد اسماعيل، بن السيد عبد الله، بارك الله في الأحفاد، ورحم الآباء، والأجداد.
الختمية ودورها الثقافي في كرن.
كغيرها من الطرق الصوفية، نشرت الطريقة المرغنية ثقافة صوفية، بين المجتمع الإرتري، وصار لها أتباع، ومريدون، وتكايا، وزوايا، في كثير من المدن، والريف الإرتري، تؤدى فيها الصلوات، وتنشد فيها المدائح النبوية، وتقام فيها ليالي قراءة المولد النبوي، وبالطبع كرن واحدة، من هذه المدن التي عرفت هذه الثقافة الصوفية، على الطريقة الختمية، وكان قرآن سيدنا بلال رحمه الله، في دائرة السيد جعفر المرغني أحد أقدم الخلاوي القرآنية، في مدينة كرن، ومهما كانت المآخذ على هذه الثقافة، ووجاهة النقد الموجه إليها، على أسس شرعية معتبرة وصائبة، فإن النظر إليها وتقويمها، من الزاوية السلبية فقط، أمر لا يستقيم ومنهج النقد الإسلامي، من هنا يلزم النظر إليها من جميع جوانبها، وفي إطار الظرف الزماني والمكاني الذي وفدت فيه، وساعتها سنجد أنها أسهمت بشكل عام، بشيئ من الإسهامات الإيجابية، المقدرة، والمعتبرة، في الدعوة إلى الله بين القبائل الوثنية، والنصرانية، وربط وجدان المجتمع بالعاطفة الإسلامية، وفي وصل الإنسان المسلم بالأدب العربي، عبر تذوق صنف من أصنافه، وهو الأدب الصوفي، ممثلا في المدائح النبوية، وبالرغم من أن كثيرا من هذه المدائح، لا يخلو من الغلو والإطراء، في ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وآل المرغني، على نحو يتنافى وتعاليم الدين، وأيضا على الرغم من أن كثيرا ممن يطربون لسماعها، من شعبنا، لا يعون مفهومها، ولا يدركون معانيها، إلا أنها من الناحية الإسلامية، أوجدت للإسلام موطأ قدم، في مجتمعات نائية، وقبائل وثنية، في المحيط الإرتري، وحافظت على إسلام فيه دخن، وخلل، وهذا خير من انتفاء الإسلام، وغيابه نهائيا، عن هذه القبائل، بسبب الهجمة التنصيرية، التي استهدفت القبائل الإرترية، في عهد الاستعمار الإيطالي، والانتداب البريطاني، ونجحت في تنصير فئات من قبائل المنسع، والسنحيت.
على أساس من هذا الوجود الإسلامي تبني اليوم حركة التجديد الإسلامي المعاصرة نشاطها، لتصحح المسار، وتوجه الناس نحو الصواب، الأمر الذي يعني بأن الدعوة الإسلامية في إرتريا هي عبارة عن جهود متراكمة فوق بعض، وأن الطريقة الختمية بما قدمت من نشاط دعوي واحدة من هذه المجهودات المقدرة، وأن كل جيل من الدعاة يجدد ما بناه الجيل السابق، من غير أن يهده هدا، وينفيه كاملا، وأن كل الذين جددوا اليوم في أنفسهم مفاهيم الدين، على وعي بنصوص الكتاب والسنة، وهدي السلف الصالح، لا بد أن يكونوا قبل ذلك مروا إما بذواتهم، أو بأصولهم، وأجدادهم، بسلوك الطريقة الختمية، ونهجها الصوفي، لأن الله تعالى هدى أجدادهم الأوائل، من الوثنية، والكفر، إلى الإسلام، ودين التوحيد، على يد دعاة هذه الطريقة، لكن لا يعني هذا أن كل ما لقنته الطريقة الختمية لهؤلاء الأجداد، وما جاءت به من تعاليم، صحيح وصواب، يجب التسليم به، وعدم التعرض له بالنقد والرد، والمراجعة العلمية، والفكرية.
وكان لرموز هذه الطريقة من آل المرغني، وتأثير ثقافتها، دور محمود في العمل الوطني، من العدل والإنصاف أن يحفظ لهم ويذكر، حيث حازت كرن شرف تأسيس الرابطة الإسلامية حين وجهت رسائل الدعوة لتأسيسها، باسم السيد بكري المرغني، ونظرا للولاء العاطفي، والوجداني، لبيت المرغني، استجاب لها الجميع، وتوافدوا لحضور المؤتمر التأسيسي للرابطة، وتبوأ السيد بكري المرغني زعامتها، وإن فارقها لاحقا.
وفي عهد الاستعمار الإثيوبي كان للسيد عبد الله المرغني ـ رحمه الله ـ وجاهة لدى الإدارة الإثيوبية في كرن، وكثيرا ما كان يوظف وجاهته هذه للتوسط، لدى هذه الإدارة، إذا ما اعتقلت مواطنا من مواطني كرن، بتهمة سياسية، ولهذا كان رحمه الله ملجأ كل أب، أو أسرة تبتلى، بمثل هذه الابتلاءات، وإليه يرجع الفضل بعد الله، في دفن موتى نكبة عونا، في السبعينيات، جعل الله ذلك في سجل حسناته، وأثابه عليه.
أما من الناحية الأدبية فقد غرست الثقافة الصوفية الختمية، في نفوس المسلمين تعلقا بالقصيدة العربية، وتذوقا لأدائها، ولو على سبيل الطرب، وهذا في حد ذاته نمط من أنماط الارتباط الوجداني، العاطفي، باللغة العربية، ووسيلة من وسائل توطينها، وتعميم نتاجها الأدبي، في وسط اجتماعي، عانت فيه الثقافة الإسلامية، واللغة العربية، وما زالت تعاني، من عزلة، ومطاردة ثقافية، من أنظمة الحكم الشيفونية، المتعاقبة، إلى يومنا هذا.
أهم مظاهر الثقافة الختمية في كرن.
من أهم مظاهر الثقافة الصوفية، التي رعتها الطريقة المرغنية في كرن، وأسست عليها نشاطها الصوفي، في التفاعل مع المجتمع، وربطه بمفاهيمها للدين ما يلي:ـ.
قراءة المولد كل ليلة الاثنين.
قراءة كتاب المولد النبوي لمؤلفه الشيخ محمد عثمان المرغني، رحمه الله، كل يوم الاثنين ظل تقليدا متبعا بين اتباع الطريقة الختمية في كرن، وحسبما ذكر مؤلفه: أنه كتبه بأمر نبوي، في رؤية منامية، وبشر بحضور البركة، عند قراءته، وصاغه صياغة مسجعة، تنتهي فواصل جمله، بحرف واحد. لكن ليس في الدين ما يسند هذا القول، فإن التشريع قد انتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن أكمل الله به الدين، وختم به النبوة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان يرى في المنام، لأن الشيطان لا يتمثل بصورته، إلا أنه لا يأمر أحدا، بأمر لم يشرعه في حياته، وما من أحد إلا يؤخذ منه، ويرد عليه، سوى المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وجرت العادة قراءة كتاب المولد بنغمة خاصة، ولمن حفظه وتلاه من حفظه كبير تقدير، واعجاب، واحترام، وعادة ما تكون قراءته في مسجد الحي بين المغرب والعشاء، في جلسة تتخللها قومة، مع إنشاد قول المرغني: ( مرحبا بالمصطفى…) ولعل هذا القيام مع الترحيب بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ناتج من الاعتقاد بحضوره صلى الله عليه وآله وسلم، عند قراءة كتاب المولد، وأيا كان الأمر فإن هذا التقليد مظهر من مظاهر الطريقة الختمية في كرن، وشكل من أشكال تعميق نهجها الصوفي، في ربط المجتمع بها، أيضا ظلت بيارق المراغنة ترفع في بعض المساجد، وتخرج بها جموع الختمية، في المناسبات الإسلامية، ومناسبات الطريقة المرغنية.
الإلتزام بقراءة الراتب والأذكار اليومية.
بجانب قراءة كتاب المولد النبوي كل يوم الاثنين ثمة التزامات أخرى، يقوم بها مريدو الطريقة المرغنية، من ذلك قراءة الراتب، وهو عبارة عن أدعية، وأذكار، وصلوات على الرسول صلى الله عليه وسلم، من هذه الصلوات، قولهم: (أفضل الصلاة على أسعد مخلوقاتك…) لا بد أن يرددها الحضور، عقب أداء كل فريضة مكتوبة، بصوت جماعي، وأيضا في المناسبات الاجتماعية، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه علم أصحابه الصلاة الإبراهيمية، والتي وردت بصيغ متعددة، منها قوله صلى الله عليه وسلم، كما في رواية مسلم: (اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد، وآل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) تقال بعد التشهد في الركعة الأخيرة، من كل فريضة، ونافلة .
ما معنى الحولية؟ وكيف كانت تقام حولية السيد بكري المرغني بكرن؟ هذا ما سنعرض له في الحلقة القادمة، فتابع معنا مشكورا.
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
28/5/2005
==================================
المظاهر الصوفية في كرن.
الحلقة الثانية.
حولية السيد بكري المرغني.
توفي السيد بكري المرغني رحمه الله، عام 1952 م ودار جدل حول مكان دفنه، السودان أم إرتريا، تمسك الكرنيون بدفنه في مدينتهم، ونازعوا السودانيين في ذلك، إلى أن استقر الأمر على دفنه بمدينة كرن، وبهذه المناسبة أقام أهل كرن ضريحا، على قبره، في دائرة السيد جعفر المرغني، المنزل الذي ولد فيه، وترعرع، وأضحى هذا الضريح مزارا، يزوره بعض الناس، ويقدمون له النذور، ويطوفون به، ويتمسحون بترابه، وكل هذه أمور منافية لتعاليم الدين، ومناقضة لعقيدة التوحيد، ولكنها هي الثقافة الصوفية، السائدة والمنتشرة، قَـلَّ من ينكرها، وقَـلَّ من يعلم مناقضتها للعقيدة الإسلامية، على كل إنها مظاهر الثقافة الصوفية، فما من بلد ساد فيه التصوف غير المنضبط، إلا وعمته القباب، والأضرحة، وتفشت فيه البدع، مثله في ذلك، مثل السودان، الذي تتكاثر فيها قباب، وأضرحة، مشايخ الطرق الصوفية، كذلك أقاموا له حولية، وهي نسبة إلى الحول، وهو العام الكامل، وباتت من أهم مظاهر الطريقة الختمية بكرن، وعبر هذه الحولية توثقت علاقات التواصل الثقافي، والاجتماعي، والرياضي، بين الكرنيين، والمصوعيين، إذ دأب المصوعيون على شد رحالهم إلى كرن لزيارة ضريح السيد بكري المرغني، في رحلة تسمى حولية السيد بكري، وفي العام نفسه يشد الكرنيون رحالهم إلى مصوع، لزيارة ضريح السيد هاشم المرغني، في رحلة تسمى حولية السيد هاشم المرغني، وهذا أيضا مما يتعارض وتعاليم الدين، إذا لا يجوز شد الرحال لزيارة القبور، واتخاذ أعياد موسمية لها.
ويستقبل كل من سكان المدينتين مصوع، وكرن، ضيوفهم، بكبير حفاوة وترحاب، فقبل وقت كاف من موعد حلول الحولية، تتهيأ كرن لاستقبال ضيوفها، وتجرى كل الاستعدادات اللازمة، من قبل الخلفاء لإنجاح هذا الموسم، ويوم الاستقبال يخرج أهل كرن مصطفين على جانبي الطريق العام، من شارع الزلط، ابتداء من نقطة تفتيش كرن، باتجاه أسمرا (بلوكو)، شيبا وشبابا، رجالا ونساء، صغارا، وكبارا، تتقدمهم كوكبة، من الخيالة، كل خيال على صهوة جواد مزركش، مرتديا لبسة سواكنية، ممسكا بإحدى يديه لجام فرسه، وبالأخرى سوطه، مستعرضا فروسيته، ومستمتعا بإيقاعات خبيب الفرس، وقرع حوافره، على الطريق المزفلط، في مشية هادئة، يرفع فيها الفرس قدميه الأماميتين، بين الحين والآخر، وسط حشد كبير، من المستقبلين، والناظرين، وعلى أنغام زغاريد، الأمهات، في جو من الحبور والسرور، تليهم السيارات الخصوصية، ثم التكاسي، والحافلات المستأجرة، ملآى بالركاب المستقبلين، ثم سيارات وحافلات الضيوف القادمين، ويدق الشباب بقبضة أياديهم، وبواطن أكفهم الجانب الخارجي، من الحافلة، من خلال نوافذها، مطلين برؤوسهم، وترى الجميع في حالة من الزهو، والابتهاج، في تظاهرة صوفية كبيرة، ينشدون الأناشيد المرغنية، يرفعون بها عقيرتهم، قائلين: (أبشروا بشرى لكم يا شباب بالمرغني) و ( شيئ لله يا مرغني، المكي والمدني)، وما أظنهم كانوا يدركون مدلول قولهم: ( شيئ لله يا مرغني) وما فيه من مناقضة العقيدة الإسلامية، ولكنه كان مجرد انفعال عاطفي، يفيض من النفوس، فيض المياه من أنهارها.
وهكذا يمضي الموكب حتى ينتهي به المسار إلى حوش المراغنة، بحلة السودان، ليوجه بعد ذلك الضيوف المحتفى بهم، إلى أماكن مبيتهم المخصصة لهم، ولتبدأ جولة أخرى، من الأنشطة، في الأمسية التالية.
في ظهيرة اليوم التالي من وصول أهل مصوع يتجه الكرنيون إلى الحوش، فقراؤهم وأغنياؤهم، إلا من كان له موقف عقدي، من هذه المظاهر، وما أقلهم، لتناول غداء (الرز)، فمنهم من يأكل بنية البركة، ومنهم من يأكل بنية إشباع البطن، ليس إلا، وما أبرئ نفسي، إن النفس لتواقة إلى الأكل، شأني في ذلك شأن جيلي، من شباب مدينتي كرن، ما كنا نفعل ذلك بقصد البركة، وإنما بقصد التلهي، والتشهي، إلى أن جاء حين الرشد والوعي الديني، على أصوله الصحيحة، ومفاهيمه المستقيمة، وترى تزاحما وتدافعا في الحصول على لقمة البركة من الأرز، ربما استدعى الأمر الاستعانة بالشرطة، لتنظيم التوزيع، ومن الناس من يأكل بشراهة وإعادة، مرة بعد أخرى، ويحكى أن رجلا مجنونا يقال له (عسر صلاتو) أكل حتى شبع، ثم ارتوى بكؤوس من الماء متتالية، مما أدى إلى وفاته، هكذا يحكى، والعهدة على الراوي، رحمه الله تعالى.
وما كان الزوار القادمون بهذه المناسبة هم أهل مصوع فحسب، وإن كان حظهم من الاستقبال والحفاوة، هو الأوفى والأجل، بالنظر إلى ما يناله غيرهم، بل ثمة وفود زائرة، من البني عامر، على رأسها خلفاء آل المرغني، في العشائر العامرية، تأتي من بركة، ربما من أغردات، أو حركوك، ومنصورة، وعدردي، التماسا للبركة حسب ما يعتقدون، ولتشارك بما لديها، من تراث ثقافي في هذا المهرجان الصوفي، ومن أهازيجهم، وأغانيهم، في آل المرغني، قولهم: ( عبد الله ود سيدي…أمت دايري كجيسي، إت ماي كَـرَّ تريشي، طير إبَّ شاشاتا، كِـرِيـتْ تِـجْـبَـأْ سميتا، سيدي المحجوب مرحيبا) تعبيرا عن اعتقادهم بأن خيبة رشاش المستعمر الإثيوبي، في إصابتهم بسوء وضرر، فيما كان يحدثه لهم، من مداهمات، واعتداءات، إنما كان كرامة لهم، بفضل ولائهم للطائفة المرغنية. وأغنية أخرى طالما تغنت بها المرأة الكرنية في مدح آل المرغني تقول: ( أبو إبراهيم موكل عد وكدن) وأبو إبراهيم هو السيد بكري رحمه الله، والأغنية تزعم أن الله أوكل إليه، حفظ الداخل والخارج!!.
وآخرون، من غيرهؤلاء، وهؤلاء، أناس يكتظ بهم الحوش، في هذه المناسبة، يأتون من هاهنا، وهنالك، يعرضون ما اختصوا به من فنون ورقصات، من ذلك ما كان يعرضه سكان (سودان طباب) من عزف على أوتار (الكِرار)، وتقديم رقصات أفريقية، أشبه ما تكون برقصات الزار، تعرف محليا بـ(لجبوجبو) يظل الراقص فيها يهز الجزء العلوي، من بدنه، وهو منحني على هيئة الركوع، يخرج منه صوت له أزيز، يحرك يديه، رفعا وخفضا، بسرعة متتالية، كالذي يطحن على المطحن تماما، أو أشد، ويبقى على هذا النحو يتصبب منه العرق، حتى يجهد، ويطيح، ويدخل في غيبوبة، يفيق عنها بعد لحظات، قد تطول قليلا، ربما بعد ما يرش عليه شيئ من الماء.
في مسافة غير بعيدة من ذلك تجد جمعا من الناس يرقصون على لعبة (الدلوكة) وهي رقصة سودانية، في الأصل، يدل شيوعها في كرن، وأغردات، وتسني، وربما مصوع، على التداخل الثقافي، بين السودان، ومدن منخفضات إرتريا، تمتاز بدقات خاصة على ( الكبرو)، والراقص فيها لابد أن ينسجم مع دقاتها، وإلا عيب عليه، وكان البارعون فيها، يشار إليهم بالبنان، وأغرب ما يلفت إليها الأنظار الجلد بالسياط، حين يتحدى أحد الراقصين كل من حوله، من المتفرجين، إذا كان فيهم رجل شجاع يباريه، وينازله، على الجلد بالسوط في الكتف، فينزل من يقبل التحدي، ويناوله من دعاه السوط، ليبادله الجلد، فينهال كل واحد منهما على صاحبه بالجلد الحاد، والمر، في الكتف إلى الظهر، أحيانا فوق ثوب، وأحيانا مجرد المنكبين، أمام مرآى من النساء والفتيات، اللائي يزغردن، كلما أثبت المجلود عدم اكتراثه بالجلد المنهال عليه، إلى أن ينسحب أحدهما، ونادرا ما يحدث الانسحاب، خشية العار، فيتدخل بعض المتفرجين لإنهاء هذا التباري الغريب، وبالذات إذا ما بدا على أحد الطرفين الإعياء، من شدة الجلد المتتالي عليه، إنه عمل غير مستحسن، لا أعرف له أصلا في تراثنا الثقافي، ولا إقرارا في شرعنا الإسلامي.
ويقام سوق تجاري من قبل أهل مصوع يعرضون فيه حلوى ( الصلة) وهي حلوى خاصة بأهل مصوع، غير معهودة الصنع، في مدينة كرن، لذا يكون لها رواجها، وأظنها صنعانية الأصل، جلبها اليمنيون إلى مصوع، ثم اكتسبت الهوية المصوعية، لتكون واحدة من نسيج الثقافة الإرترية، ولتعبر في الوقت ذاته عن حبال التواصل الثقافي، بين الإرترين، ومن جاورهم، من العالم العربي، عبر المنافذ البحرية، والبرية، السودان برا، واليمن، والحجاز بحرا، وتعتبر هذه الحلوى، من أهم معالم وخصائص حولية السيد بكري، أو حولية السيد هاشم، لا بد أن يذوق طعمها كل قادر على شرائها، من الأسر الكرنية. كذلك اختص أهل مصوع برقصة صوفية يذكرون الله على إيقاعها، تعرف بـ(الجباجيب) وهي عبارة عن حلقة دائرية، كبيرة الحجم، يجلس في وسطها شخصان، بيدي كل منهما عودان، يدقان بهما الطبلين، مع ترديد المدائح المرغنية، وما هكذا شرع الله العبادة، ولكن كما قلت: إنها الثقافة الصوفية.
وفي ركن آخر تشاهد حلقات المدائح النبوية، من الكرنيين، أو البركاويين، مصحوبة بضرب الطبول، بأصوات غاية في الحسن، والطرب، على اللحن السوداني، من ذلك صوت المداح الشهير بكرن، الشيخ طاهر، ما أجمل صوته حين يمدح آل المرغني بقصيدة يقول فيها: (السلام يا غنية، مريم المرغنية)، وفي حلقة الجباجيب تسمع قصائد أخرى من غزل الصوفية، بلحن مغاير، منها قصيدة تقول: (سلبت ليلى مني العقل…) أداء في غاية الروعة، بغض النظر عن الفحوى، والمحتوى، والموقف الشرعي، وهذا ما كان يهم معظم الشباب، لا أقل، أو أكثر.
وضمن فعاليات هذا الموسم تقام مباراة كرة قدم، إذ يأتي المصوعيون ومعهم فريق كرة قدم، كذلك الكرنيون حين يذهبون، وغالبا ما كان الفريق الذي يتبارى مع الفريق المصوعي إذا ما أتى كرن، أو في مصوع، إذا ما ذهب الكرنيون، هو فريق (عنسبا).
ولعل الغرض من إجراء مثل هذه المنافسات الرياضية هو تعميق الود، بين شباب هاتين المدينتين، واعتاد الكرنيون، والمصوعيون، على تبادل نكات طريفة، يستقيها كل منهم، من ملاحظاته للحالة الاجتماعية، في المدينتين.
في الليلة الأخيرة من ايام الحولية يتحلق الخلفاء جميعهم، في ساحة قريبة، من ضريح السيد بكري رحمه الله، جاعلين الضريح، وراء ظهورهم، ويشرعون تحت ضوء (الرتاين) والمصابيح الكهربائية، في قرآءة المناقب، بحضور السيد عبد الله المرغني، رحمه الله، ويتولى أمر قراءته خليفة الخلفاء الفكي أحمد بن الخليفة عبد الله، والمقصود بالمناقب تلك المآثر والمحامد التي حظي بها السيد محمد عثمان المرغني، مؤسس الطريقة الختمية.
وإذا ما قدر مجيئ الداعية الواعظ بحرقيقو الشيخ محمد آدم رحمه الله، ضمن الوفد الزائر نهض رحمه الله بعد قراءة المناقب، ليلقي موعظته المؤثرة، والمرققة، بطريقة فيها كثير من اللباقة، والفطنة، والحذر، يومئ ويشير إلى ما يرى فيه مخالفة شرعية، داعيا إلى التصحيح، والتصويب، بالتي هي أحسن، حتى لا يتهم بالنيل من الأسياد، أوالتقليل من مكانتهم، والاستهزاء بمقامهم، إما لجهل، أو غرض دفين.
في اليوم التالي تغادر الوفود الزائرة إلى ديارها، وتخلو كرن لتنفرد بذاتها، هكذا كان الاحتفال بحولية السيد بكري رحمه الله، فيما مضى، وأذكر، وبالتأكيد ليس هو الآن كما كان، فقد خلت المدينة من رجالها، اغترابا، ووفاة، وشهدت صحوة اسلامية راشدة، انحصر معها الفهم الصوفي للإسلام، وانكمش معها تأثير الثقافة الصوفية، ليس في كرن فحسب، وإنما أيضا في غيرها من المدن الإرترية، وما أظن مصوع بمنآى عن هذا التأثير، ولعل يبدو ذلك فيها بشكل أكثر وضوحا، يوم يعود إليها شبابها، من أرض الحجاز، والسودان، وسائر ديار المهجر.
ماكان أحد يجرؤ على إنكار ما يرى من مخالفات شرعية، من هذه المظاهرالصوفية، ومن فعل وسموه بوسمة الوهابية، وربما قامت فتنة كبيرة، ومما قرأته في ترجمة القاضي موسى آدم عمران، رحمه الله، في موقع المفتي إبراهيم مختار، رحمه الله، على الشبكة الدولية، وأنقله هنا بحرفه، أنه رحمه الله: ” حدثت بينه، وبين خلفاء المراغنة… فتنة كبيرة، نتيجة لنهيه عن بعض ما اعتادوه، من شعائر وأذكار. وقد استدعت هذه الفتنة، سفر المفتي إلى كرن، وإجراء التحقيقات، وجمع الطرفين، وإنهاء القضية بالمصالحة”.
وعندما أظهرت بعض النخب الكرنية المستنيرة استنكارها لبعض المظاهر الصوفية المخالفة للنهج الشرعي، في الخمسينيات، لم تسلم من التشويه، والتنفير، معتبرين إياها شرذمة واهبية، لابد من محاصرتها ومطاردتها، وأبرز من كان يمثلها في ذلكم الحين الشاعر عبد الرحمن سكاب رحمه الله، والسيد علي زبيبي، والسيد عبد العليم محمد علي بخيت، والسيد محمد كرار، والسيد هاشم حسن مهري، والسيد محمد كردي، رحم الله الأموات، وبارك في الأحياء.
هل ثمة مظاهر صوفية أخرى تعرفها كرن غير ما ذكر؟ وما هي؟
هذا ما سنعرض له في الحلقة القادمة، فتابع معنا مشكورا.
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
1/6/2005
=====================================
المظاهر الصوفية في كرن.
الحلقة الثالثة
مظاهر صوفية أخرى.
فيما قبل هذه الحلقة دار الحديث عن أهم مظاهر الطريقة المرغنية بكرن، والتي تكاد تكون خاصة بها، أما هذه الحلقة فهي عن مظاهر صوفية أخرى، عرفتها كرن، بعض من هذه المظاهر، عام، ومشترك، بين بلدان العالم الإسلامي، والبعض الآخر محلي، انفردت به كرن، عن غيرها، وتميزت به عن سواها، ومن أبرز هذه المظاهر الصوفية، العامة، والخاصة ما يلي:ـ
المولد النبوي.
الاحتفال بالمولد النبوي في الثاني عشر من ربيع الأول، من كل عام، عُـرْفٌ عَمَّ معظم بلدان العالم الإسلامي، فهل هو بحق مظهر صوفي محدث، أم سنة موروثة، عن جيل الصحابة؟.
الباحثون في التاريخ الإسلامي يقولون: إن الفاطميين العبيديين، حكام مصر ـ وهم شيعة ـ أول من سن الاحتفال بالمولد النبوي، ثم أخذه عنهم الصوفيون، وتناقلوه حتى أصبح عرفا عاما في معظم ديار الإسلام.
كرن مثلها مثل مثيلاتها، من المدن، والعواصم الإسلامية، تحتفل بهذه المناسبة، في مسجدها، عقب صلاة العصر، بتنظيم وإشراف لجنة الأوقاف. يقف القاضي متحدثا، عن يوم ولادته صلى الله عليه وسلم، مبينا ما صاحب ذلك من إرهاصات، ودلائل النبوة، وخوارق العادة، ثم يوزع على الحضور بعض المشروبات الغازية، (كوكاكولا، اسبرايت، فانتا)، ويلقي طلاب معهد الدين الإسلامي ـ أول معهد أسس بكرن ـ بعض الأناشيد، ذات الصلة بهذه المناسبة، منها قصيدة شوقي التي يقول مطلعها:ـ
ولد الهدى فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء.
الروح والملأ الملائك حوله للدين والدنيا به بشراء.
وما كانت حكومة الامبراطور حينها تعترف بأي مناسبة إسلامية، ولا يشهد رجالها يوم احتفاله إلا قليلا، ونادرا، ولكن يروى أنه في أحد احتفالات هذه المناسبة تقدم الشاعر الإرتري المرحوم عبد الرحمن سكاب، وفي الحضور رجال البرلمان، وعلية القوم، من رجال الدولة، وألقى قصيدة هجائية قال فيها: (عمائمهم بيضاء وتحتها شياطين)، في إشارة منه إلى من كان يراهم مداهنين وموالين، للنظام الإمبراطوري، ويقال: إنه لم يمكث بعدها في كرن طويلا، بل غادرها إلى الخارج.
بعد سقوط الإمبراطور، ومجيئ الدرك، جعل النظام الماركسي مناسبة المولد النبوي، واحدا من الأعياد الرسمية، عند الدولة، بجانب عيد الفطر والأضحى، في محاولة لإشعار مسلمي إثيوبيا كافة، بشيئ من المساواة، وعلى هذه الحال يسير اليوم نظام الجبهة الشعبية، وبشكل أشد حرصا يحول دون ربط السيرة النبوية، بواقع الحياة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس تاريخا وانتهى، ولكن سيظل قائدا أبديا، له حضوره الفكري، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي، ولابد أن تكون حياته منارة يهتدى بها، وتعاليمه واقعا مجسدا، وإلا لا معنى للاحتفال بيوم ولادته.
ما زال المسلمون في كرن يحتفلون ـ فيما أحسب ـ بهذه المناسبة، ربما بشيئ من التجديد، وفق مراعاة الظرف المحيط بهم.
رأس السنة الهجرية.
على غرار رأس السنة الميلادية، يحتفل المسلمون في كرن أيضا برأس السنة الهجرية، كما يحتفل بها سائر المسلمين، في المدن الإرترية، ويقام الاحتفال في الجامع، بعد صلاة العصر.
يقف القاضي متحدثا عن هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمكايدات التي واجهها من قومه، كفار قريش، والاستقبال الذي استقبل به من الأنصار، في المدينة المنورة.
كان الحضور يستمتع بهذا الإلقاء، ويتفاعل معه، ويخرج الجميع، وكل قد أدرك شيئا، مما سمع، بل وتأثر به، ولكن كان الإلقاء مجرد سرد للحدث، خال من الربط بينه، وبين الواقع، ولعل هذا نابع من الظرف الأمني القاسي وقتها، وظرف اليوم وإن كان لا يقل شراسة، عن ظرف الماضي، إلا أن من المهم جدا أن يرتقي الخطاب الإسلامي التوعوي في مخاطبته للجماهير المسلمة بمثل هذه الأحداث التاريخية، من السيرة النبوية، حتى لا تبقى السيرة مجرد تاريخ يروى، وأحداث جافة، لا علاقة لها بالواقع المعيش، والممارسات اليومية.
الاسراء والمعراج.
الاسراء والمعراج أيضا مناسبة من المناسبات التي يحتفل بها المسلمون في كرن، وتدور خطب هذه المناسبة حول معجزة الإسراء والمعراج، وما يقال في هذه المناسبة، هو عين ما قيل في التي قبلها، فيما يتعلق بمنهجية التعامل، مع السيرة النبوية وأحداثها. حادثة الإسراء والمعراج بكل ما تحمل من دلائل الإعجاز النبوي زاخرة بكثير من المعاني التي تحفز المسلم على استشراف تباشير المستقبل، ساعة المحن والشدة، واستشعار عظمة المسؤولية الملقاة على عاتقه، وهي التحرر من سلطان الخرافة، وطغيان المخلوق، وحمل هذه الرسالة إلى كل المقهورين، والمستضعفين، ودعوتهم إلى إلغاء كل الأغلال التي كبلهم بها الطغاة، والجبابرة، ولا بد أن تعني ضمن ما تعني الربط الأمني، والديني، بين الجزيرة العربية، وبلاد الشام، بين المسجد الأقصى، والحرمين في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ومن ثم تبصير المسلم الإرتري بالخطط الصهيونية، في هدم المسجد الأقصى، وإحلال الهيكل محله، وأثر الوجود الصهيوني في فلسطين على أمن ديار الإسلام، واستقرارها السياسي، وازدهارها الاقتصادي. أدرك أن التطرق إلى مثل ذلك جد عسير، تحت قبضة نظام قمعي، ذو علاقة مشبوهة بالكيان الصهيوني، وذو نهج عدواني في علاقته بالإسلام والمسلمين.
يوم عاشوراء.
من السنة الصوم في يوم عاشور، وتاسوعاء، من شهر الله المحرم، ولكن دأبت الشيعة، حيثما وجدت، في مثل هذا اليوم، على ضرب الخدود، ولطم الوجوه، وشق الجيوب، والنياحة على شهيد كربلاء، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته، سيد شباب أهل الجنة، الحسين بن علي، بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعن أبيه.
أما في كرن فقد جرت العادة على تهادي البليلة (جيفوت أدنقل) مطهية بأحلى أشكال الطهي، مشوبة بشيئ من السمن، مرشوشة بشيئ من السكر، كل أسرة توزع بليلتها، بنية البركة، على أسر الحي، وكذلك الأقارب، والمعارف في الأحياء المجاورة، وتستقبل في الوقت ذاته، ما يهدى إليها، من جيرانها وأقاربها، ويبدأ التوزيع من بعد العصر، إلى ما بعد المغرب، وفي هذا اليوم تمتلئ بطون أطفال كرن بمختلف أنواع البلايل، يأكلون منها ما طاب ولذ، ولا أدري من أين أصل هذه العادة، ربما لأحاديث موضوعة، تجعل من يوم عاشوراء، يوم روية وإشباع.
أربعاء إيدور.
أربعاء إيدور تأتي في السنة مرة واحدة، ولهذا سميت بأربعاء إيدور، حسب ظني، وفي هذه الأربعاء يأتي طلاب ( القرآن) بـ(القلو) إلى الخلوة، ويكتب بعض شيوخ الخلاوي القرآنية آيات من الذكر الحكيم على اللوح، ثم يغسلونها، في إناء يسمى زبدية، وتؤخذ إلى المنزل، ليشربها أفراد الأسرة، تبركا، أو استشفاء، أو حرزا من العيون الحاسدة، والضارة، ويسمونها ( ماي كتوب). الاستشفاء بالقرآن شربا، وتمسحا جائز دينا.
حولية النجاشي.
كانت حولية النجاشي رضي الله عنه واحدة من مظاهر النشاط الصوفي في كرن، لكنها لم تكن على حجم حولية السيد بكري المرغني.
في هذه الحولية تنطلق جموع من الكرنيين إلى تقراي لزيارة النجاشي، ومع أن اسم النجاشي هو (أسحمة) كما جاء في التاريخ الإسلامي، إلا أن الإرتريين، وربما أيضا مسلمي إثيوبيا يسمونه (أحمد النجاشي)، لكن ليس ثمة ما يثبت ـ حسب علمي ـ أنه بدل اسمه، وتسمى بأحمد، كما أنه ليس ما يثبت أن القبر الذي يزار هو فعلا قبره، وأن الحديث الذي يستندون إليه في زيارة قبر النجاشي، وهو ( من زار أحمد النجاش فكأنما زارني) حديث مكذوب، لآ أساس له من الصحة، ولو افترضنا جدلا أنه قبره، فلا يجوز شرعا شد الرحال لزيارة القبور، فكيف إذا كانت هذه الزيارة تشتمل على أعمال مناقضة للعقيدة، ومنافية للتوحيد.
مقامات صوفية.
ثمة مقامات صوفية في كرن، تعرف بمقامات الأولياء، تقام باسم من يعتقد فيه الناس الولاية، والصلاح، ليست كلها على درجة واحدة في الاهتمام، لها مناسباتها الأسبوعية، أو السنوية، والمقام هو عبارة عن مصلى، أو مكان توضع فيه البخور، ويقصده الزوار بالنذور، غالبا ما يكون سبب تأسيسه رؤية منامية، لأحد من يعتقد فيه الناس الصلاح، يزعم أنه رأى في المنام الشيخ الفلاني، وطلب منه أن ينشئ له مقاما، في المكان الفلاني، وهكذا ينشأ المقام، من بعد أن يشيع خبر الرؤيا في الناس، من هذه المقامات المشهورة، في كرن:ـ
مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني.
يقع مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني بالقرب من المدرسة الابتدائية للبنين بكرن، ولهذا المقام، من يقوم على أمره، ورعايته، وتأتي إليه التبرعات، وتقدم له النذور، ولأن الصوماليين هم أتباع الطريقة القادرية في كرن، فإن متولي أمر هذا المقام كان شيخا صوماليا، وكان يقيم ومعه بقية الصوماليين بكرن حولية للشيخ عبد القادر الجيلاني، في هذا المقام، لكنها لم تكن بمستوى حولية السيد بكري المرغني.
وما كان الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله كما يحكي عنه بعض المتصوفة، يدعو إلى إنشاء المقامات، وإقامة الحوليات، إنه بحق رجل صالح، عابد، زاهد، عالم بالسنة.
مقام السيد هاشم المرغني.
وكان بحشلا مقام للسيد هاشم المرغني، يقصدنه النساء، ويقدمن له النذور، والشموع، ويعلقن فيه الخرق، ويشربن عنده الجبنة، ويأكلن القرصي، طلبا للبركة، واتقاء للشرور والمكاره.
مياه جادق
مياه جادق مما يقصده بعض الناس في كرن للبركة، في أيام معدودات، وتنبع هذه المياه، في (مقارح) وتبدأ زيارته الموسمية من الشهر الثامن، إلى الشهر التاسع، يمشون إليها بالليل، على شكل مجموعات متصاحبة، من كل حي، ويرجعون منها في الصباح، يعتقدون في مياهها الشفاء من الأمراض النفسية، والعضوية، وهو ليس مقاما صوفيا، وإنما هو مقام نصراني في الأصل.
مقام شيخ الجبل.
مقام شيخ الجبل هو في قمة جبل (إيـتـعبـر)، وليس لهذا المقام من يتولى أمره، كما أن زواره هم من عنصر النساء، يجتمعن فيه إذا ما كان على واحدة منهن وفاء بنذر، فيقصدن هذا الجبل، وهناك يشربن الجبنة، ويأكلن (القجة) القرصي. ويكثر صعودهن إليه وقت توالي المصائب، وكثرة البلاوي، مما كان يحدث، من اعتداءات المستعمر الإثيوبي، وإحراقه للقرى، وسفكه للدماء البريئة، وأيضا عند الجفاف، وتأخر ماء السماء.
وقت صعودهن يحملن معهن خرقا من البيارق، وكذلك السعف، يحركنه يمنة ويسرة، وهن يقلن: أبري فجرنا دبري … يا الله بالعفوك… يا الله بالعفوك…
وعندما يأتي فرجت مدينة كرن ـ وهو أحد الدراويش الذين ألفوا مدينة كرن وألفتهم ـ يقصد أيضا هذا الجبل، ويقف على قمته، مؤذنا تارة، ومغردا، ومزغردا، تارة أخرى، قائلا: فرجت…فرجت…فرجت…لأمة فرجت.
وإذا ما نزل منه التف حوله الأطفال يجوب بهم شوارع المدينة، وبعض أحيائها، وهم يقولون من ورائه: فرجت… فرجت…لأمت فرجت.. إلى أن يتوقف بهم عند ساحة الجامع، ثم يشرع في إلقاء موعظته بلغة التجري، مذكرا الناس بأن الدنيا ليست دار دوام، ويورد في هذا الشأن بعض أشعار التجري، في حماقة من ينخدع للدنيا، وزخارفها.
وليس هذا فحسب، بل يظل يعظ الناس، بعد كل صلاة الظهر، والعصر، خارج المسجد، ما بقي في كرن، وعندما يحين وقت المغرب، يصعد هذا الجبل، فيؤذن فيه للمغرب، ثم يبدأ في ترديد أذكاره، وتوسلاته، التي منها فرجت … فرجت … فرجت…لأمة فرجت. وكان الأهالي يتفاءلون بقوله هذا، ويسألون الله معه الفرج، وهكذا يفعل، حتى يغادر كرن إلى أسمرا، حيث يقيم.
وكلمة (الدرويش) فارسية الأصل، تجمع على ( دراويش) وتعني عند الصوفية: الرجل الزاهد الجوال.
واشتهر بكرن أيضا دراويش آخرون، سكنوها، وأصبحوا معلما من معالمها، منهم رجل عرف باسم (اتقالي)، حمامة المسجد، دائم الصمت، خافت الصوت، إذا ما تكلم، نظيف الثوب، كثير العناية بصغيره، الذي لا بد أن يكون بلغ الآن سن الرجال، كم كان برعايته مهتما، يتولى بنفسه تغذيته بالوجبات اللازمة، من فطور، وغداء، وعشاء، في مطعم إدريس سمسون، ومقهى محمد جابر، أرجو أن يكون قد وفق في تعليمه، كما كان موفقا، في تغذيته، كان هذا الرجل، رحمه الله حيا وميتا ـ من شدة توقيره، وتقديره لاسم رسول الله صلى الله عليه يسلم ـ يسارع دون تردد أو تلفت إلى خلع عمامته، أو الجلوس على الأرض، إذا ما طلب منه ذلك أحد، باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنبي رأيك) أي أراك الله نبيه، وهذا دعاء في منتهى الحسن، يتمناه كل مسلم، عامر قلبه بحب الله، وحب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، رزقنا الله رؤيته، والشرب من حوضه، فداه أبي وأمي. كان الرجل رحمه الله، يتذوق حلاوة هذا الدعاء، ويستشعر عظمته، فيبادر إلى فعل ما طلب منه باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى الله أن يرزقه رؤية رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الأطفال والسوقيون، يستغلون فيه هذا الاستشعار، وهذا التذوق للعب به، والسخرية منه، وما كانوا يدرون أنهم يسيؤون صنعا، غفر الله للجميع، ورحم هذا الرجل رحمتا واسعة، حيا وميتا، وأصلح له ابنه الذي غذاه، ورباه صغيرا.
كذلك كان درويش آخر، إذا ما تأثر بأداء المديح النبوي أقحم نفسه، في وسط الحلقة، يتقافز فيها، من طرف إلى آخر، وبيده عصا من حديد، يهزها هزا، ولأنه كان يمشي حاسر الرأس، لا يلبس عمامة، مع كبر رأسه، دعاه مراهقوا كرن بـ( حنقل …) كان كسابقه ملازما للمسجد، يدخل في خصومة حادة، مع من يدعوه بهذا اللقب، ويقذفه من مكان بعيد بعصاه الحديدية، كما يقذف أحدنا الرمح، وربما طارده في سباق، يعجب الناظرين، من زقاق إلى آخر، لكن كثيرا ما كان يخفق في الإمساك بصيده. في أوائل الثمانينيات قابلته في كسلا، بالقرب من جامعها، فعرفني، وعرفته، وسلم علي، وسلمت عليه، مصافحا إياه، ثم قال لي وهو يبتسم رحمه الله حيا وميتا: (إنت حنقل … تبل إيعلك مثل أجنيت) فأجبته وأنا خجول: (إل ناي نئشنات يبا) ذاك من عمل الطفولة، يا عمنا، واستسمحته، فقال لي: (ناي بون همطي) أعطني ثمن شرب الجبنة، فأعطيته، فتبسم ضاحكا، وعفى عما مضى، وصرنا نتقابل بعد ذلك تكرارا، ثم اختفى، لم أره، منذ فترة طويلة، لا أدري، أعاد إلى كرن، أم توفاه الله؟ رحمه الله حيا وميتا.
وبمناسبة ذكر دراويش كرن لا بد من التذكير بذلك الرجل المعمر الذي أدركناه مقعدا، ونحن صغار، وعرفناه باسم ( آدم درويش)، كان يأوي إلى بيت صغير مصنوع، من الزنك، في الشارع العام، بالقرب من بيوت (آل شنقب) و(آل مارح) كان حسن الفأل، ولحسن فأله يأتيه الناس ويسألونه: ماذا رأيت لنا البارحة يا آدم؟ فيبشرهم بالخيرات، ويعطونه نقودا معدنية، وكان يسمي الطائرة (ببابور سما)، رحمه الله تعالى.
ومثله رجل آخر عَـمَّـر طويلا، كما يحكي عنه معاصروه، كان يبيع الجبنة في سوق بره، ويأتيه الناس للتبرك به، ومصافحته، اعتقادا منهم بأنه شاهد الخضر عليه السلام، ويركز الناس عند مصافحته في إبهامه، ظنا منهم بأن من شاهد الخضر يكون إبهامه ناعما، إلى حد الاشتباه بخلوه من العظم.
ليس الخضر بحي حتى يشاهده الناس، ولكن حكاوي بعض المتصوفة، تجعل منه شخصا حيا، يعيش بين ظهرانينا، يرانا ولا نراه، ولو كان حيا لأتى رسول الله، ولكن لم يثبت ذلك بنص صحيح، صريح.
ما هو التصوف؟ هل التصوف كله انحراف؟ أم التصوف كله استقامة وصواب؟ ما هو الموقف المعتدل من التصوف؟ وهل بالإمكان إقامة مهرجان إسلامي عام وأين؟ ذلك ما سنتحدث عنه في الحلقة القادمة، فتابع معنا مشكورا.
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
10/6/2005
=====================================
المظاهر الصوفية في كرن.
الحلقة الأخيرة
التصوف بين موقفين.
للناس من التصوف موقفان، على طرفي نقيض، موقف مغال في الموالاة، لا يرى في التصوف إلا صفاء الدين، ونقاءه، وطهره، ويرى في نقده انتقاصا من منزلة الصالحين، واستهزاء بالولاية، والأولياء، ونكرانا لأهل بيت رسول الله، وطعنا في السادة والأسياد، وموقف آخر موغل في المعاداة، ومتطرف في الكراهية، لا يرى التصوف إلا وكر شرور، ومنبت انحراف في الدين، فما هو التصوف أولا؟ ومتى ظهر ثانيا؟ وما الموقف منه ثالثا؟
التصوف ظهر أول ما ظهر بالبصرة، في القرن الثاني الهجري، من أناس رأوا في الإقبال إلى ملذات الحياة منقصة يأباها الدين ويمقتها، واتجهوا إلى الانعزال، للذكر، والعبادة، وعرفوا في تاريخنا الإسلامي بـ(اسم الصوفية والمتصوفة).
وجاءت كلمة الصوفية من النسبة إلى لبس الصوف، وهذا اختيار أبو طالب المكي الصوفي، وإليه يميل ابن خلدون في مقدمته، أما معناه فقد تعددت تعريفات الصوفية له، إلى حد تجاوزت فيه ألف قول ـ كما يقول السهروردي وهو من مشايخ الصوفية، توفي ببغداد سنة 632 هـ ـ. منها قول الشيخ أبي الحسن النوري، وهو من أجل مشايخ صوفية عصره، توفي عام 295 هـ حيث يقول: ” التصوف تَـرْكُ كل حظ النفس”.
أما ابن القيم فيعرفه بقوله: التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي، وتزكية النفس وتهذيبها، لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى، ومعية من تحبه…” انظر: مدارج السالكين 2/317
والموقف المعتدل من التصوف هو ما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 11/17ـ18 بقوله : ” طائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف… وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم، من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، ومنهم من يذنب فيتوب، أو لايتوب. ومن المنتسبين إليهم طوائف من أهل البدع، والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم، كالحلاج مثلا، فإن أكثر مشايخ الطرق أنكروه وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد بن محمد، سيد الطائفة…”
والتصوف في كرن خاصة، وفي إرتريا عامة، ليس معقدا كما هو في السودان، يمكن إصلاحه، وتصويبه، بأيسر السبل، لأن كثيرا من أتباع الطريقة المرغنية، والمتطرقين بها إنما يسلكون مسلكها، على سبيل التقليد، وليس على أساس من الفهم، والإدراك.
والحوار بالتي هي أحسن، والإقرار بالمحاسن لكل طريقة صوفية، مع نقد ما فيها، من مخالفات مناقضة للعقيدة الإسلامية، يصحح المسار، ويوجه الناس، وجهة صالحة، كما أن إقبال الشباب الإرتري المسلم إلى التصوف أضحى اليوم في حكم المعدوم، وأن جلهم بات يعاني من أزمة وعي، للإسلام وثقافته، وصار عرضة لنهب ثقافي، من تيارات الردة، والانحراف الفكري.
نحو انطلاقة ثقافية من كرن.
لا أظن ثمة مانع يحول دون إقامة مهرجان إسلامي، ثقافي، جامع، تلتقي فيه كل الفعاليات الثقافية، لتعرض فيه نتاجها الثقافي، والفكري، عبر ندوات فكرية، ونشاطات تراثية، وإبداعات أدبية، ومطارحات شعرية، يشارك فيه المسلمون، وغير المسلمين، على أساس من احترام القيم الدينية، والحوار الفكري، والديني، تكون له أهداف اجتماعية، ورياضية، وإنسانية، من خلاله يكون تواصل بين المدن الإرترية، وتعارف بين أدباء اللغة العربية، وغير العربية، ومفكروا الثقافة الإسلامية، وغير الإسلامية، ويكون ساحة ترويح مباح، فإن الإرتريين أناس يحبون اللهو، كما يكون سا حة حوار ديني، بين مختلف العقائد الدينية، لترسيخ وتثبيت قوائم التعايش الوطني، وللتعرف على ما لدى الآخر، من نقاط إيجابية، ويكون منطلقا لإزالة كل ما من شأنه أن يبدد تلاؤم وتعايش المجتمع الإرتري، بشتى مذاهبه الفكرية، والدينية.
كرن مؤهلة في اعتقادي لتكون منطلق هذا المهرجان، لما لها من رصيد تجربة حولية السيد بكري المرغني، التي جمعت بين كرن، ومصوع، وأدارت نشاطا صوفيا، كبير الحجم، ومتنوع الفعاليات، ثم لا بأس أن ينتقل هذا المهرجان من مدينة إلى أخرى، كل عام، في تطور مستمر.
في هذا المهرجان تكون الدائرة أوسع، لتشترك فيه كل المدن الإرترية، والبرنامج أشمل، لكل إنتاج الثقافة الإسلامية، وعطائها الأدبي، والفكري، والمجال أرحب للتحاور، والتجادل بين كل المعتقدات الدينية، والفكرية، ذلك ما نرجوه أن يكون في مناخ من الحرية، يسود قريبا، وفي غياب واختفاء النهج الشيفوني، وسياساته الأمنية القمعية، الإسكاتية، التي لا ترضى من غير صوتها، صوتا يعلو، ولا فكرا يطرح.
وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح
لندن
16/6/2005
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=8128
أحدث النعليقات