المعارضة الارترية أين المشكلة ؟ فقر وجهل وصـراع
دكتور الجبرتي
يقول المثل العربي (من لا يملك قوته ، لا يملك قراره ) ومن لايملك قوته فقير ، والفقير غلبان في كل الاديان ، ويؤمر القادرون علي اعطائه شئ مما اعطاهم الله ، خفية او علنا.
الفقر يمنع النوم ويمنع الراحة ، ويفقر العقل . اذ لا يستطيع الانسان وهو يحس بالنقص المادي ان يبتكر ويتقدم بل لن يفكر في سوي اشباع ضرورياته ومن يعول . ينظر للهم في عيونهم ،وللضعف في ابدانهم ، وللخواء في بطونهم ، فيزداد هما . والفقراء مضطهدون من الميسورين يسخرونهم لقضاء حاجاتهم ، مقابل منحهم ما يسد رمقهم لمواصلة الحياة التعيسة التي تخدم اهداف الميسورين والاغنياء . بذلك يصبح الفقر والافقار سياسة واسلوب لاستمرار نوع من الفوارق المادية بين الافراد والمجموعات .
حال المعارضة الارترية هو هذا الفقر والبؤس والجوع الذي يعاني منه كادره الذي يسعي للتضحية من اجل استمرار شعلة التعبير الرافض للدكتاتورية والظلم في البلاد . فقير وجائع ولا يعمل من اجل قوته اليومي ، بل ينتظر الهبات الرسمية لمحتضنيه ، او فتات لا يساوي تكلفة علبة سجائر يومية من اصحابه ومؤيديه في الفكرة. يخادعونه ، يناصرونه ، وهو في اعماقه يحفر فكرا للتصدي لهم ان افلحت العملية . فهو المضحي بعمره وجهده كله ، وهم لا يضحون بمثقال كوب شاي او علبة سجائر يوميا ، ويمنون عليه بعد ذلك ، وهم يشاهدون فمه الجاف من كثرة الحديث في السياسة . يرون ثقوب بنطاله و تعرجات قميصه من تحته . ينظرون الي يديه الضعيفتين وعظام كتفه التي تثقلها الجاكيتة ، لتتدلي علي جوانبه .
كل كوادر المعارضة تنتظر الرحمة التي تاتي مشحونة بالمن والاذي ، من ادارة المال ، وهي التي لا تكفي لاسبوع في بلاد المعارضة . ايجار لبيت ، وكهرباء وماء ، وخدمة اتصال بالتلفون والانترنت ، وكمبيوتر وطابعة بدون اوراق وحبر ، ووجبات من افقر الاغذية في البلاد . وحذاء اكل الدهر عليه وشرب . وملابس مهترئة. واطفال وزوجة وووو. بدون سيارة خاصة تقلهم وتؤمن سيرهم ليل نهار . يزاحمون الاثيوبيون علي مواصلاتهم ، يجادلون محاسب البص المزدحم حول نصف بر او ربعه ، نصف رصاصة او ربعها ، بينما نترك بقشيشا بالدولار في الحانات !!!
نعم هذه هي حالة 90 % من التنظيمات المعارضة ، وهذا فخر للأفراد المتطوعين براتب لا يساوي مائة دولار للشهر ، يصبرون علي جمر القضية يسبهم من اراد ويزدريهم زوارهم من البلاد الباردة والغنية ، يعزمونهم في الفنادق الراقية ليفرضوا عليهم الرأي ، ولما يريدون المغادرة ورغم معرفتهم بحالهم ، او رغبتهم في ان يقدموا شيئا مفيدا للمعارضة والعمل الذي يتفقون عليه ، يكرمونهم باقل من مما اكرموا به بنات الليل ، وصبابات الكؤوس الجميلات في الزهرة الجديدة !!
الشعب المعارض ايضا فقير وميسور ، لا يوجد غني بمعني الكلمة في المجتمع الارتري المعارض في الخارج . نصف المجتمع فقير وبائس جدا ، والنصف الاخر ميسور فقط . واذا قدرنا ان نصف المواطنين الارتريين ويزيد هم في الملاجئ القسرية والاختيارية . فان اللاجئين في الملاجئ القسرية في دول العالم الثالث هم الاقل اليوم . والميسورين هم من يقيمون في الملاجئ الاختيارية في دول الخليج والغرب الاوروبي والامريكي .
كل هؤلاء اضافة الي المجتمع المكبوت اللاجئ داخل بلاده ، يريدون من بعض الافراد الذين يتحملون اعباء التصريح بالمعارضة ، ويتبنون المواجهة الفكرية والسياسية وقليل جدا من العسكرية ، اضافة الي الجوع والفقر والعطش ، يريدون منهم فعلا يساوي ويؤثر في العملاق الدكتاتوري الطائفي السمين الشبعان ، الغني بذهب بيشة والمنح التي تقدم من الدول التي تستمتع بجراح الشعب الارتري ، وتجارة البشر والسلاح والعدوان واثمان الخيانة إضافة للاتاوات علي الخدمات الرسمية ، التي لا تنعكس خدمات في اي نسبة .
في لقاء جمعني ببعض أعضاء التنظيمات الارترية المعارضة في دول الخليج ، طلبوا مني تقييم لاوضاع المعارضة بحكم ترددي ومعرفتي بببعض القيادات ، وتعليقاتي وكتاباتي . وبعد ان اعطيتهم ما يريدون من حلوا الحديث والتحليل والمجاملات كالعادة ، سألتهم عن انتماءاتهم التنظيمة ، فرد كل منهم منشرحا مفتخرا بتنظيمه وحزبه . وسالتهم ايضا عن حجم المساهمات الشخصية التي يقدمونها للتنظيم الخاص بهم ، ليحقق لهم المعارضة التي يبغون !! فذكروا ان معظم الافراد في الخليج يدفعون شهريا مساهمة لا تتعدي خمسة عشرة ريال او درهم خليجي !! فقلت لهم هل ترون ان هذا يكفي لتحقيق اهدافكم ؟ هل تريدون دماء الشهداء بهذه التكلفة ؟ ام تريدون دموع الثكالي والمسجونين والاطفال والاسبيرات البشرية ؟ هل تعرفون كم يدفع مناصري النظام شهريا ؟ قالوا نعم ، يدفعون الكثير . وكم يصرف النظام لبقاءه ؟
كيف نطلب من حمارنا المنهك الضعيف المريض ان يحمل مثل حمل فيل الشعبية . كيف نريد منه مسابقته العمل وصراعه ومعارضته . فهو لا يملك اكثر من كونه يعتبر نفسه حمار ، ويعرف انه حمار . وان واجبه هو العمل من اجل الاخرين رغم كل الظروف . (التشبيه بالحمار شرف وليس استصغار او إساءة ، فهو ومنذ بدء الخليقة لم يقتل بشر ولم يرفض عملا ، وقد بنيت عليه وبه كل الحضارات الانسانية ، وخير تقدير له أنه شعار لأكبر دولة ديمقراطية في العالم )
أليس علينا اطعامه بقدر ما نطلب منه من عمل ؟ اليس علينا الاهتمام بصحته واسرته حتي لا يضعف او يهتم بشئ غير اعمالنا ؟ هل نستمع لرايه ونهتم ببرامجه الخاصة التي يطرحها عليها ، ونواكبه ونعمل ما يطلب منا ليتم العمل ؟ هل ندفع بقدر ما نطالب من اعمال ونتائج من تنظيماتنا ؟ من احزابنا ؟ من معارضتنا ؟
احرجت جدا عندما رايت ثلاثة من كوادر التنظيمات الارترية المضحين من اجل الا تقع راية النضال واسم المعارضة ، في اديس ابابا ، يحتمون بمظلة مهترئة من الامطار ، ارجلهم متسخة بالطين ، ملابسهم مبللة ، متكئين علي حائط احد المحلات ، يسخرون علي ظرفهم ، في احتقار للمصائب واستصغار للأهوال . احتقرت نفسي امامهم رغم انني علي غير فكرهم او حزبهم .
الفقر أبو الجهل ، حين يطول عمر الفقر فهو يلد الجهل . والجهل يعمل علي استمرار نسب ابيه . ويصاحبه الضعف والخور ، واللا مبالاة بالتجويد والكماليات التي لا بد منها . وهذا ما حدث خلال ربع القرن السابق وخلاله تحكمت الدكتاتورية الطائفية، وغنيت و ازالت جهلها بتعلم كل وسائل الدكتاتورية والظلم والقهر والسرقة .
جهلت المعارضة بسبب الفقر ، فلم يتفرغ للعمل النخبة المتعلمة والخبرات ، لانها لن تجد مقومات العمل الاساسية ،المادية منها والمعنوية . تبني المناضلون التقدم وضحوا بارواحهم واسرهم وو ، واصبحوا قادة بمرور الزمن وتساقط الخبرات والمثقفين .
لم يستطع المضحون بالعمل ، ان يوفروا الخطط والبرامج الاستراتيجية والعمل المنظم لاسقاط النظام كاملا ، او مواجهته لحد من الحدود المناسبة . ليس لعيب او قصد منهم ، انما هو قصور اساسي في الامكانيات الفكرية والمادية ، فهم يتحملون مسؤوليات اكبر من مستوياتهم .
إذا يقود المعارضة ويتحمل المسؤوليات المباشرة والتخطيط والمواجهات ، مناضلين مستعدين للدخول في اي مجال من اجل الا يسقط العمل او يتوقف ، وما ينتج عن فدائيتهم هذه هو واقع المعارضة ومستقبلها الماثل ، اي واقع المجتمع الارتري المغلوب علي أمره ، والباحث عن الخلاص ، عبر هذا التكوين الواقعي .
هل سيتحقق بهذا الشكل من الفقر والجهل ، طموح وآمال الشعب الارتري ؟ هل سيتوقف نزيف الشباب والاطفال ؟ ام هل ستتوقف تجارة البشر والاسبيرات البشرية ؟ كيف سيغير النظام وكيف سيتغير ؟
هل نستحق ان نسالهم ونحاربهم أو نلعنهم ؟ أونضع كل اللوم والتقصير عليهم ؟ كيف يتسني لفرد اومجموعة ارترية تبحث عن الخلاص عبر هؤلاء الفقراء الضعفاء ، وهي لا تقويهم وتشبعهم ، وتساعدهم بخبراتها وعلمها وتجاربها ؟
فالنتيجة الحتمية لمثل هذه المكونات هي الفشل الاكيد ،وهو الواقع الذي نعيشه .
ونتيجة اضافية للفقر والجهل هي الصراع علي المناصب والموارد البائسة . ثم صراع علي الحاضر والمستقبل . وصراع باي اسلوب وعلي اي مستوي . فمنذ ان سمي التحالف الارتري والمعارضة السياسية وهي بهذا الشكل ، ولد معها الصراع الجهوي والطائفي والمصلحي . ليس لان هنالك صراع بين الجهات الارترية او الطوائف الارترية ، انما هو بين هؤلاء فقط . هؤلاء الذين يديرون دفة التنظيمات والاحزاب المعارضة ، بالفقر والجهل والجوع . بعشرة ريالات او كرونات ، بتكلفة اقل عشرة مرات عن صندوق السجائر ، أو تكلفة ساعة انترنت يوميا ؟
يريدون ان لا يفقدوا الموجود ، ولا يخسروا المستقبل الشخصي . يريدون الحياة الكريمة والافضل . يتحالفون بينهم لتقسيم ميزانية التحالف والمجلس ووووو . فنتبعهم من دون علم ووعي وبحث عميق لما يزعمونه من مشكلات . وتبدأ الالات الاعلامية وانصاف المثقفين ، ومتعلمي الكتابة ، ومريضي النفوس والعملاء عن قصد وعن غير قصد ، والباحثون عن الشهرة علي جراح الوطن . ومناضلي الفيس بوك والمجلات الالكترونية ، والظهور التلفزيوني . يلونون ويوسعون ويتفلسفون في شرح وطرح المشكلات الشخصية ، فيلبسونها تعميما مخلا يهددونه به الكيان المنهك ، الوطن المجروح من ابناءه ، فتارة هؤلاء ، واخري اولئك .
كيف لي ان العن المعارضة ؟ كيف لي ان انتظر منها شيئ ؟ كم دفعت من عمري لأحافظ علي بيضة المعارضة ؟ كم دفعت من مرتبي أو من تكلفة اجازتي السنوية الي شرق آسيا ؟ انا احتقر نفسي امامهم جميعا ، فقد انفقت ثمن سيارة كاملة لنزهة قمت بها وفي اديس ابابا وانا اتجول معهم !! ما احقرني وما اعظمهم !!
هل هذا عذر كاف لفشلنا ؟ هل نحن معارضون حقا ؟ هل نحن متألمون حقيقة لما يجري داخل البلاد ؟ هل نحن بافعالنا هذه اهل المسؤولية ؟ آه ..أعجزعن المواصلة .. هذا يكفي!! الخلل فينا واضح اذا ليس في موقع اخر .
كلنا نحلل المشكلات الارترية بدقة وننجح في ذلك ، لكننا لم نطرح الحلول حتي اليوم لماذا ؟
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=33889
شكراً لكاتب المقالة علي عكسه لهذه الحقائق المؤلمة وهي أكثر من هذا في الحقيقة وما لم نرى قيم وصفات إنكار الذات والنقد الذات لن يصلح الحال .. نتابع كتاباتك النافدة والجادة وننتظر المزيد .