المعتقلون الإرتريون { ضميرنا المغيب }
14-ابريل – يوم المعتقل الإرتري
سيـــــرة معتقل
مداد الوفاء وإن قل!
للأستاذ / ادريس سعيــــد محمد على
لعلها لحظة فريدة بمعني الكلمة أن أمتلك أعصابي فاستعيد ذاكرة الصبى، ذاكرة ﻷخوة ورفقة العمر والغربة. وقد ولي ربيع العمركطيف حاملا كل الاماني العظام فاصبح سرابا اطبقت عليه عاديات الزمان فلم يكن فيه خيار غير هذ التغييب القسري عن الدنيا باسرها لا لجرم اقترف غير الانتماء لهذا الوطن المستبد بالاوفياء.
لا اعلم من اين استجمع عبارات تصف مآساة ليست حصرا ولكنها نموذج. وكل يصف الوجع من موضع اساه وكل الجسد مكلوم؛ وبذكر عظامها تنفطر الأفئدة فلاتقوي الحروف ان تقوم مقام لظي القلوب. ما أحر أن تصف الحال بنفسها بهذه الاحرف القاسية كقساوة قلبي الذي بقي علي قيد الحياة من غير حراك. تمنيت أن أكون المغيب ويبقى اولئك المغيبون أمثال الاستاذ ادريس سعيد محمد علي ورفاقه الاقوياء الاوفياء الخلص للوطن والدين لكان حال الدنيا أفضل؛ ولكن قدر الله ان يذهبو ويغيبوا أحياء ونبقي نحن من غير حراك. لعلها ذكري تحيينا فنتذكر مآسينا وخياباتنا لابنائنا علهم ينفضوا عنا هذا الركام.
عرفت اﻷستاذ ادريس منذ الصغر، كان كبيرا بعقلبه واهتماماته. رفع شأن الوطن منذ نعومة أظافره، كان استاذا منذ ان كان في المرحلة الابتدائية والاعدادية حيث كان موهوبا في توصيل المعلومة لأقرانه ، يهرع اليه الطلاب اكثر من معلميهم لﻹستعانة به في شرح المسائل الصعبة. فكان لهم اخا واستاذا مميزا في كل شيئ. ولوكان غاويا لغير العلم الشرعي ورسالته العظيمة لفتحت له الحياة أوسع ابواب الشهرة في مجال الرياضة، حيث كاد أشبال مريخ السودان أن يتلقفوه من الصف السابع ولكنه رفض لانه كان يعي رسالته حقا، و لم يخبر بذالك الشيخ محمد ادريس – المربي والمعلم الفاضل الذي غرس فيه وفي أمثاله معاني التضحية والوفاء وكان بمثابة الوالد للجميع اطال الله في عمره وبارك في ذريته؛ وما ذكر أحد من ذالك الجيل والا وكانت للشيخ محمد ادريس يد وفضل من الرعاية والتوجيه في وقت لم ترق فيه هموم الاخرين سوى للمأكل والمشرب – .
بعد ان اكمل المرحلة الاعدادية بتفوق وتهيأ لدخول المركز الاسلامي الافريقي توفي والده فاصر على العودة إلى الوطن والاهل رغم اصرار الشيخ محمد ادريس ووالدته لتكملة دراسته. ولا أنسي عبارته الشهيرة عندما قلت له “عليك ان تكمل الدراسة ويمكن ان تنتقل الاسرة الي السودان” فرد قائلا “لايمكن ان يفلح ارضنا فلاح وانا عايش هذا قدري وسوف ارعي اخوتي بنفسي والله يعيننا”.
انتقل ادريس الي قدره وبروح وطنية عالية بدأ التدريس بمعهد حلحل مع الشيخ ادريس حامد سعدالله أطال الله في عمره وبارك في ذريته، – وهو حامل راية العلم والدين والذي كان يقدم له النصح – . وقد طلب منه الانتقال الي معهد الضياء بكرن كي يعينه في التدريس هناك. وقد كان اﻷستاذ إدريس موضع تقدير واعجاب من الشيخ ومن معه من الاساتذة. بعد انتقاله الي مدينة كرن تمكن من تعلم اللغة التجرينية والامهرية بسرعة فائقة فأعانتاه في التواصل بالمجتمع المحيط واصبحت علاقاته واسعة في المدينة لدرجة ان بعض مرضي النفوس بداوا يشيعون انه يهدف الي امر ما من وراء هذا الالتفاف؛ وهذا داب من لايعرفون النفوس الكبيرة فهم صغار النفوس ضيقي العقول تضيق عليهم الارض مع الاحرار. ﻷنهم يحبوا أن يعشوا وحدهم كالخفافيش في ظلمات الجهل والضلال.
حقا الحديث عن اﻷستاذ ادريس ليس حديثا عاديا، إنها ذكرى تفتح الباب على مأساة متشعبة تعصف بالحياة. لكن تلك النفوس الكبيرة تتلقاها صابرة كالجبل الأشم لا تهزه الريح، ودائما تاتي المحن بقدر إيمان وصلابة من يتلقاها.
بتاريخ 24/12/1994 في وقت متاخر من الليل تسور المنزل عساكر ملثمون من زبانية الهقدف فطرق أحدهم باب المنزل؛ خرج اﻷستاذ إدريس بثبات وبثياب النوم فسأله “اين ادريس؟” أجابه وهو يعلم مكنون السؤال وكيد السائل طالما أخفي وجهه باللثام “أنا إدريس”، طلب منه أن يرافقهم خارج البيت للحديث معه فادرك أن الامر سوف يطول فأراد أن يغير ملابس النوم فرفض العسكري. وعند فناء البيت اجتمع باقي العصابة وسأل الجندي الدليل الملثم بلغة التجري “أهذا إدريس” قال “نعم إنه إدريس” . عندها غطى وجهه وقيده واقتادوه إلي سيارة كانت في انتظارهم. قبل ان تتحرك السيارة أرادت والدته التي هرعت عند سماع الحركة أن تلحقته ببعض الثياب قائلة لهم “السجن للرجال خذوا ثيابه معه”. دفع بها أحد الجنود حتي سقطت على الارض. لكن تلك المرأة التي أرضعت اﻷستاذ إدريس الرجولة استدعت في تلك اللحظة كل معاني الثبات وآثرت الصبر على الجزع. تذكرت ان الصبية خلفها يحتاجون إلى من يقف معهم.
ترى لوجزعت من سينقل الدرس للابناء والاحفاد؟! من سيخبرهم بمختطف والدهم مع أقرانه الابرياء؛؟! أدركت في أعماقها أن سلسلة الإختطاف واﻹختفاء القسري سوف تطول. حين علم أخوه بخبر اﻹعتقال تقدم صف اﻷبوة قادما من السودان قاطعا دراسته في جامعة عطبرة السودانية فعاد ليعول الاسرة؛ ليجد نفسه مجندا هو الاخرقسرا لتصبح الاسرتين من غير عائل. فتقدم أخاه الآخر الذي لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر عائلا ومعينا لكن أيادي الغدر لم تهمله كثيرا، فاقتيد مجبرا إلى التجنيد واصبحت الأسرتين من غير معيل ومعين. واختلط الحابل بالنابل ومازالت اسوار الشموخ والمروءة تعلو منيعة دون انكسار. وأخيرا وصلت أيادي الغدر إلى الابن الاصغر الذي كان في الفصل السابع فقط لانه طويل القامة ولان أهل الغدر قصار النظر . يومها نصح ناصح أم إدريس أن تترك ارتريا وتتجه الي السودان فكان ردها “انهم يريدون هذا ولكنيني مؤمنة ان اﻵجال بيد الله وإني لأغادر الوطن”. لله درك من أم ، يا أم ادريس فقدتك أمة وليس أسرة، عشت كريمة ومت عزيزة، رضيت بأقدار الله فقدرالله لك أن تدفني في وطنك كما أحببت لتكوني نبراسا لﻷجيال.
ترك اﻷستاذ إدريس خلفه أربع من الابناء والبنات جميعا قد تجاوزوا المآسآة بحمدالله وقد تزوجت كبرى البنات بأحد ابناء السجناء.
الحرية ﻷحرارنا في السجون والخزي والعار لزبانية الهقدف الجبناء.
اسرع خطواتك ياعام كيلا يهنأ ظالم
كتبه /عثمان جمع علي
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=36864
أحدث النعليقات