الموت.. والتفكير الغوغائي

ليست الغوغائية أداة التفكير السياسي فحسب، في عالم الأحيآء، وإنما للغوغائية أيضا رأي في الموت، وعالم ما بعد الموت، فبالرغم من أنها تبصر آيات الله في خلق الإنسان أطوارا، من بعد ضعف قوة، ومن بعد قوة ضعفا، وشيبة، تأبى أن تقر بلسانها أن آخر أطوار الإنسان في مسيرته الحياتية هو خلود في الجنة، أو النار. (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة، يخلق ما يشآء، وهو العلي القدير).

لكن بالرغم من كل ما تتعلل به الغوغائية في نظرتها إلى الموت، وعالم ما بعد الموت، فإن الحقيقة التي لا يمكن أن تنكرها، هي أن الإنسان إذا ما استكمل أجله، وبلغ أمده، طويت صحائفه، واخترمته منيته، على أي حال كان، قويا عزيزا، أو ضعيفا مهانا، أو شابا فتيا، أو شيخا هرما. ” والله خلقكم، ثم يتوفاكم، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، لكي لا يعلم بعد علم شيئا، إن الله عليم قدير”.

وعليه لا أحد من البشر مهما بلغت به الغوغائية يستطيع دفع الموت عن أحد، فالله وحده يهب الحياة لمن يشآء، وينزعها عمن يشآء. ” وإنا لنحن نحي ونميت، ونحن الوارثون”.

ومع ذلك وجد في العباد غوغائيون زعموا لأنفسهم خاصية الإحيآء، والإماتة، منازعين الله فيهما، إذ زعم الطاغية (نمرود) أنه يحي ويميت، فقال لإبراهيم عليه السلام: (أنا أحي وأميت)، حين قال له إبراهيم عليه السلام، وهو يحاوره: (ربي الذي يحي ويميت).

قال ذلك وهو يقر في داخل نفسه أنه أضعف من جناح بعوضة، لا يدرؤ الموت عن نفسه فضلا من أن يهب الحياة لغيره، ولكنه طغيان الغوغائية، وإرادة العلو في الأرض بالفساد، عندما يتحكمان بالإنسان، ويستبدان به، يحملانه على مثل هذه الادعآءات، التي سرعان ما تتلاشى حين يأتيه الموت، وهو عنه غافل، كشأن فرعون، الذي قال الله فيه: ” حتى إذا أدركه الغرق، قال: آمنت، أنه لا إله إلا الله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين”.

وحديثا كثيرا ما ردد ( ماو تسنغ) الذي قضى حياته ملحدا اسم الجلالة (الله) مرات، ومرات، حين طوقه المرض، من مفاصل ركبه، وأدرك أن الموت قد لامس منه حبل الوريد، وأنه أعجز من أن يدفعه عن نفسه، متمردا عليه، وثائرا.

تحدث عنه الرئيس الأمريكي الأسبق (جورج بوش) الأب في كتابه ( التطلع إلى الأمام)، إذ زاره مع كسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، يوم كان سفيرا لها، في بكين، في عهد فورد، فقال: سأله كسنجر عن حاله… فقال (ماو): إني ذاهب إلى السمآء قريبا، لقد تلقيت دعوة من الله [ يعني أنه سيموت] فقال له كسنجر، وهو يبتسم: لاتقبلها قريبا. [أي تمرد عليها، وارفضها، ولكن هيهات..هيهات].

لقد أبدى بوش الأب دهشته من ترديد (ماو) اسم الجلالة فقال: كلمات مذهلة، عندما يقولها زعيم أكبر بلد شيوعي، في العالم… ثم أردف قائلا: واستمر ماو يشير في أحاديثه إلى الله.”

وما هذا بالشيئ المدهش لنا نحن المسلمين، فالذين ينكرون وجود الخالق، وسلطانه عليهم إنما يقولون ذلك بأفواههم، في حين قلوبهم تستيقن ربوبيته تعالى عليهم، وعلى الكون جميعه، وهذا ما أشار إليه القرآن، حين ذكر عن فرعون قوله: ( أنا ربكم الأعلى) إذ بين المولى عز وجل، في آية أخرى، أن هذا مجرد ادعآء منه باللسان، وإلا فإنه يوقن بربوبية الخالق عليه، وذلك في قوله تعالى: ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم).

ولقد عبر فرعون عن هذا اليقن ساعة الغرق، إذ قال: (آمنت، أنه لا إله إلا الله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين).

لكن أبى الله إلا أن يميته غرقا، وينجي بدنه، ليكون آية لمن خلفه ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون).

الموت فوق قهر القاهرين.

ومن هنا أن سلطان الموت في عقيدة المسلم أقوى من أن تقهره المعامل الطبية، وأن يتمرد عليه طاغية، وأنه لا بد من موت، ما دامت هنالك حياة، ولا بد من حياة ما دام هنالك موت، فتلك سنة الله في العباد، ليبلوهم أيهم أحسن عملا: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). ولن يكون للموت زوال عن الوجود، إلا حين يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ويؤتى بالموت على صورة (كبش) ليذبح بين الجنة، والنار، ثم ينادى مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.

وهو ليس بعدم محض، ولا هو فنآء خالص، وإنما هو انقطاع صلة الروح بالبدن، لفترة من الزمن، يعقبها بعث ونشور، ثم جنة، ونار، مثله في ذلك مثل صلة الروح بالبدن، ساعة النوم، تعقبها يقظة، بعد غفوة، ولهذا قال المولى عز وجل: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى).

المسلم والموت.

وما دامت هذه هي حقيقة الموت في حس المسلم، وعقيدته، فمن البداهة أيكون المسلم أحرص الناس على الموت لله، وفي سبيل الله، كما هو أحرص الناس على أن تكون حياته كلها لله (قل إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين) ( يا أيها آمنوا، اتقوا الله، حق تقاته، ولا تموتن، إلا وأنتم مسلمون).

ومن هنا سأل يوسف عليه السلام ربه عندما آتاه الملك، وعلمه من تأويل الأحاديث، ومكنه في أرض مصر، يتبوء منها حيث يشآء، أن يميته مسلما، فقال: ( ربي قد آتيتني الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، أنت ولي في الدنيا، والآخرة، توفني مسلما، وألحقني بالصالحين).

ولن يتمنى مؤمن أبدا موتة الكافرين، لأن الله يقول: ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله).

وفرارا من موتة الكفر سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقين موتانا كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ودعانا إلى سؤال الله تعالى، حسن الخاتمة.

أبعث بعد موت؟

هل هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، أم هناك بعث ونشور، وجنة ونار؟ سؤال طالما أثار فضول الإنسان، وأكثر فيه الجدل، ولكن هل من معنى للحياة بكل آلامها، وآمالها، من غير أن يكون لها يوم موعود، يوفى فيه الصابرون أجرهم بغير حساب، ويلقى فيه المجرمون أشد العذاب؟!!

ذلك أمر غير معقول، ولهذا أبت الماركسية، وهي نظرية إلحادية، عابت على من أسمتهم بالميتفازقيين إيمانهم باليوم الآخر، أبت إلا أن تبشر أتباعها بيوم موعود، من صنع خيالها، وغوغائية مفكرها، كارل ماركس، وهو طور (المشاعية الأعلى) يوم لا يكون للرأسمالية وجود أبدا، وتكون النعم خالصة للماركسيين، دون غيرهم، حيث تختفي الدولة، ويسود الأمن بين الناس، بلا سجن، ولا سجان، ويرعى الذئب مع الغنم، ويعبث الصبيان بالثعبان، وينعم كل ماركسي بقدر حاجته.

هذا هو اليوم الموعود الذي صنعته الماركسية، وبشرت به أتباعها، وإن برهنت الأيام على خرفه، وكل ما يمكن أن يفيدنا به أن الأديان ليست وحدها التي تبشرالإنسان باليوم الموعود، وإنما حتى الفلسفات الإلحادية، لأنه لا معنى للحياة، ما لم يعقبها يوم يحاسب فيه الإنسان حسابا يسيرا، أو عسيرا، ويلقى فيه جزاء وفاقا، وإنتظار ذلك اليوم، جزء من تكوين الإنسان النفسي، وفطرة فطره الله عليها، ولن تجد لفطرة الله تبديلا.

وما دام الأمر كذلك فلم بعض الناس أكثر جدلا وكفرا، بمسألة البعث، والنشور، والجنة والنار؟.

ما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون، وهم في شك، مما يقولون، ولكن عندما تطغى فيهم نزعتهم الإفسادية، على معدلات نزعتهم الإصلاحية، يخيل إليهم أن الحياة لهو، وعبث، وأنها لحظة متعة وتنقضي، وليس بعدها محاسبة، ومساءلة، ومن ثم يصعب عليهم أن ينظروا إلى أبعد مما تنظر إليه نزعتهم الإفسادية، مع أن الحياة حولهم في ذاتها مبنية على المساءلة، والمحاسبة، والعقاب، والثواب، فالدولة تثيب، وتعاقب، وكذلك الأب في المنزل، والمعلم في المدرسة، وما الرسوب والنجاح، إلا مظهر من مظاهر الثواب، والعقاب، ومع ذلك يأبى هؤلاء أن تنتهي هذه الحياة المركبة في ذاتها، من الثواب والعقاب، بيوم يكون فيه رسوب، ونجاح، وثواب، وعقاب، وجنة، ونار.

ليس لهذا من تفسير سوى أنه أماني، وضمور في مشاعر الإحساس بالمسؤولية، وطبيعي أن من تحركه مثل هذه الأماني، والمشاعر، في علاقاته بالناس، أن يمتهن حياتهم، ويتحكم في إراداتهم، وأن يجعل منهم مجرد قطيع بين يديه، يقتل هذا، ويسجن هذا، يتصرف فيهم كيف يشآء، ومتى يشآء، من غير أن يخاف عقباها، إذا ما قدر أن يكون لهم حاكما، ولهذا قال نمرود: (أنا أحي واميت) ثم جآء للبرهنت على ذلك بشخصين، قتل أحدهما، وأبقى الآخر!!.

وهذا الصنف من البشر هم الذين سخروا من الرسل عندما خاطبوا فيهم ضمير المسؤولية، وأشعروهم بأن الحياة ليست عبثا ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟!!) ورأوا في مثل هذا الإنذار ترديد الأساطير، وترويجها بين الناس، وبكل غوغائية قالوا: (أ إذا متنا وكنا ترابا، وعظاما أ إنا لمبعوثون؟ لقد وعدنا نحن، وآباؤنا هذا، من قبل، إن هذا إلآ أساطير الأولين). ( وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون) وقالوا ساخرين من إيمان الرسول بمسألة البعث، ودعوة الناس إلى التصديق بها، مستبعدين وقوعها ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين، إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا، وما نحن له بمؤمنين).

وقد تقدم واحد من هؤلآء الغوغآء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيده عظم قد رم وبلي، وبعد أن فتته بين أصبعيه، قال متهكما: أيحي ربك هذا ـ يا محمد ـ بعد أن رم؟.

قال: نعم، ويبعثك، ويدخلك النار.

وقد حدثنا القرآن عن حوار هذه الشخصية الغوغائية، مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف أنها تحجرت عن التفكير السوي المسؤول، حين استبد بها التفكير الغوغائي، مذكرا إياها، وكل من يماثلها، على مر الأيام، والأزمان، بأن الذي أوجدها من العدم، قادر أن يوجدها تارة أخرى، فقال عز وجل: ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال: من يحي العظام وهي رميم؟ قل: يحيها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم.).

 

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح

لندن

3/9/2005

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6201

نشرت بواسطة في سبتمبر 3 2005 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010