النقاب ***
صلاح إبراهيم عبي
صورة القلق
((كيف تعود يا عبد الكريم إلى البلاد وحيدا! البعض من زملائك عادوا وهم يحملون أطفالهم،وبعضهم عاد حاملا حقائب مليئة بالذي منه،فكيف تستطيع أنت أن تعيش في الوطن الوليد دون طفل أو حقيبة!!! وهل تكفيك شهاداتك العلمية!!!
ثم ماذا فعلت من أجل مريم تلك التي يعرف كل أبناء الوطن، هي لك منذ الولادة، هل ستتركها هنا في مدينة الغربة هذه ،وهل ستدفن حبك لها،هنا؟؟؟
مريم!
إذا عاد إليها هدوؤها الروحي والنفسي تستطيع مقاومة العالم كله،لكنها الآن منهارة تماما…إني أفكر في ((هنا)) وأتناسى أن مستقبلنا ((هناك))،فإذا استطعت إقناعها بالذهاب إلى الوطن الذي ((هناك)) فكيف ستتعرف عليها أمها!!! وكيف سيناديها كبار القوم بعد أن أزالت أسباب اللقب الجميل الذي أطلقوه عليها في القرية.))
صورة حكاية القلق
كانت مريم من بين أجمل بنات كليتها الجامعية ،بالأحرى كانت الأجمل عندما ينادونها بأم شلوخ،وكان عبد الكريم محط أنظار الجميع ، ليس لعبقريته بل للونه الداكن ،ولكنته الخاصة والتي تخبر الجميع بأنه تعلم اللغة العربية في هذه البلاد.
عبد الكريم حاول وكل الارتريين إقناع مريم بأن جمالها ولونها وتاريخها وقوامها ونجاحها وشلوخها كل متكامل، عناصر تكمل بعضها بعضا ولا يمكن فصلها ، ومريم ((أزعجتها)) الشلوخ لأنها كانت تجمع الطلاب والطالبات حولها مندهشين من هذه التشوهات التي تعلو وجهها.
تحكي مريم بأسى:- كم مرة حكيت لهم كذبا عن قسوة الجنود الإثيوبيين الذين شوهوا وجهي ، كنت أخلط هذه الكذبة البيضاء بالحقيقة التي كان يعيشها شعبنا تحت جبروت الإثيوبيين الذين أحرقوا البيوت والأجساد والكتب.
يدافع عبد الكريم عن كل التاريخ الارتري :-وما الذي أجبرك على ذلك؟لم لا تخبريهم بأن الشلوخ هي جزء من تراثنا الإنساني ،وأنها علامة على انتمائك إلى جماعتنا الارترية التي ترفع سيرتها الرأس.
:- لن يستطيعوا استيعاب فكرة إن هذه عادات قبلية ،ثم كيف ترضى أن توصف قبائلنا بالتخلف؟
وعبد الكريم يدافع عن الشلوخ المريمية من أجل الهوية. يا مريم إنهم هنا _ وسط هذه العمارات والصحون التلفزيونية والسيارات الفارهة_ يرسمون الوشم على شفاه بناتهم،والرجال يرسمونها على أذرعهم دلالة على رجولتهم وشجاعتهم،فمن السهل إذن إقناعهم ببساطة بأن الشلوخ هي ما تشبه الوشم عندهم ،ثم إن هذا كله ليس مهما، فالأهم هو جمالك الداخلي الفردي،وأنا لا استطيع تصور مريم دون شلوخ، أما أهلنا في القرية فلن يقبلوا ما ستقومين به.
بجزم ترد عليه مريم :-انتهى الأمر يا عبده،وغدا صباحا موعدي مع الدكتور.
وجاء صباح الغد وفقدت مريم تفاصيل وجهها،وغابت الحيوية عن حركة الارتريين جميعهم،وانصرفت عنها صديقاتها ومعجباتها من بنات الجامعة.
من صور الاحتجاج
عبد الكريم ينفض الغبار عن ذاكرته،وعاد بها إلى أغاني ذلك الصعلوك في القرية والذي كان يتغنى بجمال مريم معلنا أن ((الشلوخ نعمة وادينا التي تجلب الأمطار ،
وأن الشلوخ عندما يراها الزماجا في وجه رجل يهربون إلى مراكزهم ليخبروا زملاءهم بأن
في الجبل رجل مشلخ)).
والآن تأتي هذه الساذجة لتعلن إن الشلوخ تجلب لها النحس وتثير اشمئزاز زميلاتها …يا مريم ليتك أعلنت الحرب علي واحتفظت بالوجه المشلخ شعارا لنا جميعا… ليتني كنت طبيبا لأحرم تشويه الوجوه ، ليت كرن كلها تأتي إلى هنا لتحتج معي، ليت أغوردات كانت هنا بخورها الجميل لتحكي عن مريم التي تخلت عن وجهها من اجل مدينة دخلتها لتكسب علما فخرجت منها دون وجه… ليتني أعلن سخطي أمام الطبيب الذي أعمل مشرطه في وجه مريم ليمحو هوية شعب.
صورة ما قبل القرار
الآن كم هي حزينة هذه المريم ،تصحو في الرابعة صباحا لتمسح آثار الخطوط الستة لعملية ((التجميل)) بمراهم بليدة ،فتعمل هذه المراهم على حرق تلك الآثار حتى تمام السابعة لتذهب بعدها مريم إلى الكلية فتجد نفسها تدخل في دوامة جديدة من الأسئلة تطرحها زميلاتها ،كيف أزلت يا مريم ذلك التشويه الذي كان في وجهك؟ويستنكر بعض الطلاب ما فعلته بوجهها فيسألونها في احتقار،هل تحسين بتغير نحو الأفضل هذه الأيام؟…آثار الأرق الليلي بادية على وجهها- بالأحرى بعض وجهها المتبقي-،تأتيها المدن الإرترية في الأحلام لترميها بحجارة من اللعنات والاستهزاء،لم تعد تحس بأنها على مقربة من الحياة.
عبد الكريم أصبح هدفا لرسائل أهلية ترفض أن تصدق ما فعلته مريم بالرغم من وجوده بالقرب منها في بلاد الغربة ،أما أقسى الرسائل فكانت من والدتها حيث طلبت من عبد الكريم ألا يعيدها إلى البلاد مهما كان الثمن، وزملاؤه في الاتحاد الطلابي يتشاورون في أمر فصل مريم من الاتحاد لإتيانها بفعل يسئ إلى الشخصية الارترية.
انصرف الجميع عنها.
تحولت التساؤلات عن ((تشويه الوجه))إلى أسئلة وحوارات حول أحدث وسائل التجميل،وأصبح تفكك الإتحاد السوفيتي هو عنوان كل لقاء بين الأصدقاء،أما نكتة الموسم الحقيقية فكانت حول افتتاح محلات ماكدونالد للوجبات السريعة في قلب موسكو،أما خروج المارد الأسود مانديلا من السجن فلم يصبح خبرا((بايتا)) إلا بعد دخول الصناديد الارتريين إلى أسمرا.
ونسي الجميع مريم.
احتفل الارتريون بدخول قواتهم إلى العاصمة البكر،وهرب الكولونيل الدموي إلى هراري،وعانق الجميع بعضهم البعض،وانحسرت موجة الهجرة الثانية، غابت أسباب التفتت بين التنظيمات الطلابية،لكنها وحدها مريم هي التي كانت على هامش الفرح،فلم يكن لها هم سوى تسوية التجاعيد التي خلفتها العملية التجميلية!!!
انهارت مريم.
الجميع يرقصون فرحا بتحرير البلاد ودخول أسمرا.
انهارت مريم لأنها كانت تفرك آثار العملية،ولم تحاول الابتسام لأسمرا لأن ذلك سيؤذي آثار الجراحة.
تعود مريم إلى طبيبها وتخبره بما تعانيه،وبما يفوتها من رقص وفرح،لكنه يخبرها بأنه مختص في إزالة التشوهات العضوية،أما التشوهات النفسية فعلاجها عند الطبيب النفساني ،وحاولت إفهامه أن ما تعانيه ناتج عن إزالة الشلوخ وما يسببه من آلام عضوية ليل نهار!!!ولكن لا مفر من القبول بالوجه الواقع تحت رحمة المراهم المختلفة…
أفرغت المدينة البعيدة من سكانها الارتريين ،لأن معظمهم فضل العودة بعد التحرير، وبعضهم ذهب إلى مدن أبعد،ومريم تفكر في اللا اتجاه، وعبد الكريم يطرح كل الأماكن الممكنة ،حتى يعيشا معا في مدينة بعيدة عن اسمرا و كرن و أغوردات ودمشق وكل المدن البعيدة منها والقريبة والتي يعيش فيها إرتريون.
عبد الكريم لم يتبق أمامه سوى الرحيل إلى الوطن ،وعلى مريم تدبير أمرها وحيدة في هذه المدينة شبه الخالية من أبناء الوطن….
الليلة الأخيرة لعبد الكريم في دمشق كلها هواجس ومخاوف على مريم والوحدة التي ستعيشها في تلك المدينة.
وفي آخر محاولات الحوار معها،أكد لها إن الناس في الوطن يغفرون لبعضهم البعض بمناسبة أفراح التحرير،لكنها تصر على أنهم لن يغفروا لها فعلتها،خاصة والدتها.اقترح عليها تغيير اسمها والعيش بعيدة عن كرن واغوردات،أنكرت عليه ذلك لحبها وتعلقها بالمدينتين…بحثا عن كل الحلول التي يمكن أن تجمع بينهما في مدينة واحدة، ولا أمل!!!
مطار دمشق يبدو كئيبا نهار الثلاثاء حيث لا توجد رحلات كثيرة، ويحق للعشاق تبادل قبلات الوداع بحرية شبه تامة.
مريم يبدو عليها قرار الفرح لكنها تخشى أن يؤثر ذلك على تفاصيل وجهها،وعبد الكريم يستغرب الفرح البادي في عينيها بالرغم من أنها اللحظات الأخيرة للفراق بينهما.
صورة القرار
تترقرق الدمعات في عينيها،دموع السعادة بادية على الخدين،آثار العملية واضحة تماما ،لا،لا،لا أمل يا مريم سوى القبول بإرتريا مكانا آمنا لكلينا.
بفرح تمسك مريم أنامله الناعمة والراجفة تماما،وتهمس له بصوت عال:- انتظرني الأسبوع القادم في مطار أسمرا!!!
هكذا يا مريم أخيرا قررت السفر إلى الحقيقة ،لكن ما هو مبرر هذا القرار؟اعرف أنك لا تستطيعين العيش بعيدا عني وعن كرن وعن أغوردات،والسؤال هو كيف ستعيشين وسط أهلك الذين تخافين منهم والذين سيضحكون عليك بسبب إزالة الشلوخ؟
يتجمد عبد الكريم عندما تقبله أمام الجميع،وتهمس له هذه المرة بصوت خفيض إنها القبلة الأخيرة قبل الزواج،كما لا أنت ولا غيرك سيسخر من وجهي بعد اليوم!!!
:-لماذا؟هل تراجعت عن قرار السفر إلى أسمرا.؟
:- لا،ولكني قررت وضع النقاب على وجهي حتى لا يرى أحد من معارفي وأهلي وجهي المشوه…..
كتبت في أحد أيام حرب العبثيين اسياس وزيناوي1999***
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=17879
أحدث النعليقات