الهجرة والحنين والنكبة
بقلم / متكل أبيت نالاي
حينما تبتعد الآلاف من الكيلو مترات عن مسقط رأسك القديم ينتابك هاجس العودة إلى المكان الذي نشأت فيه, ولا يهم إن كان مناخها الحقيقي باردا مثل الثلج أو ساخنا مثل الجحيم فمهما استغرقت منك الرحلة من وقت, وأيا كان عليه الظروف الذي دفعك بعيدا عن مسقط رأسك فأنت تحن إلى جذورك الأولى, وتحب العودة إلى تاريخك الحقيقي. وعموماً فأنت لست المخلوق الوحيد الذي يفكر على هذا النحو, فالحيوانات أيضا تعبر عن تلك الميول بطريقتها الخاصة, وربما الدلافين والقردة من بين مخلوقات تتمتع بوعي غريزي يعبر عن انتماءات كثير من مفردات الولاء للبيئة.وحتى النباتات التي تذبل عند زراعتها بعيدا عن أوطانها الأصلية,فالموت في صفوف تلك الكائنات هو أحد أشكال التعبير عن رفض الحياة البديلة, فهي ترفض سياسة التوطين وترفض هوية المناخ الآخر وتقول لك بالحرف الواحد أريد العودة إلى بلادي. وكان هذا منطلق قراري الذي سفرت من أجله إلى اسمرا, وكانت أسمرا في فترة شتائها, وطبعاً كنت في غاية السرور لرؤيتها بعد غياب طويل دام 48 عام.
أمضيت من أيامي فترة طويلة في مراقبة الغيوم الثقيلة وأقارن بين المطر هنا وهناك و للأسف بضع دقائق من المطر وتتلخبط الدنيا في مدينة غربتي وقد تكون مزعجا لبعض الطلبة ممن يتشوقون لسماع خبر الإجازة .أما الطرق وخاصة الإنفاق هنا في مدينة غربتي تطفح بالمياه وحركة المرور تزداد لخبطتها.
حينما وصلت أسمرا وفي كامبوشتاتوا بضبط وجدت أشجار النخيل من جانب واحد ترحب بي وكأنها اصطفت صفاُ لقدومي كانت تعطي الشارع نكهة خاصة تصنف الناس السائرين في هذه الأسواق إلى فئتين أولئك المستعجلين الذي يأتونا لشراء مشترياتهم اليومية وأولئك المتسكعين بين شارع الكامبوشتاتوا ومعروضاته, خامرني الشعور بأن الشعب الإرتري إما أن يكون سعيداُ في حياته هذه, أو شقي جداُ, ولكن لم أعرف على وجه أليغين أيهما أصح.لكن فيها أشياء عجيبة لا تصدق, وفيها صراع الناس لإثبات حقوقهم في المحاكم الإرترية, عرائض كثرة تكتب في أسواقها وترى مصالح الناس تتصادم في جو مشحون بالحقد, وهناك أناس تائهين وأناس واهمين .
كنت ألاحظ طول الوقت في شوارع فتيات صغيرات تاهن في الأزقة ولأرصفه والحوانيت يفرون من لقب (الرجعية) ولهؤلاء المارقين المعنى غير واضحا لهم, التخلف لا يعني السير في ذلك القطيع الذي يفقد الإنسان فيه عقله ومن ينظر إلى مسالكهم يعرف إنها عودة متهالكة إلى العصرنة, وفن بالي أشعاره بائسة, وتخلف وأفر يؤجل أحلام البلاد ويجسد فيهم السلبيات التي يستنكرها شعبنا.
ثم وصلت السير على الشوارع الخلفية لشارع الكمبوشتاتوا آتاني الروائح التي لا حصر لها المنبعثة من الأفران والسواق السمك وأسواق الخضار والطواحين أما كثرة العجلات يعطيك انطباع إنك في عاصمة صينية.
يبدو أن الكبار لا يعرفون آن الصغار هم الذي يعانون اشد العناء في هذه الشوارع ألعابهم تكاد تكون مقصورة في هذه المكان أما نجوم الدولة والسياح يحولون الشارع إلى نادي ليلي للمتعة ترى الفساد يتحرك بسرعة أكبر في البلاد باتجاه مدمر للقيم والخلاق الإرترية. هؤلاء كلهم من فئة الشباب الذي شردهم الفقر والحرب وافرغوا من كل القيم والمحرمات حتى أصبحوا لا يجدي معهم النقاش, جيل لا يعرف عن ماضيه شيء ولا حاضروه الجريح لا يبالي بشيء. أمهات طائشات تترك رضيعاها وتذهب إلى ملعب الكرة لتشاهد السخافات تعساً لأمة هؤلاء نصفها تعساُ لأسرة هؤلاء ربتها تعساُ لأطفال هؤلاء أمهاتهم نسوة تافهات وفتيات متمردات تتماسك على أياديها في شوارع أجيال مجرد أعداد لا أفراد ليس لهم هوية ولا قضية ولا غاية,.يسردون قصص الخيال لا رابط بينها ولا توليفة تجمعها, يمرح بها الناس ويتناقلونها بألسنتهم..يركضون وراء الهواء والسراب يتصورون إرتريا بغير حلتها, خيال خصب يجر عالم الشباب إلى الهاوية بكل معانيها وجوانبه وأشكاله في هذه الشوارع وهم لا يبالون يحبون اللهو والسمر والقمار والغناء كما أن رائحة الخمور لا تنتهي من أفواههم دائماً موجودة فيهم , حياة أغلبهم فارغة وهامشية ومملة, عالم من السلوك الإجرامي غرسه النظام في الشباب, بل غلفوه لهم بأبهى الصور التقدمية وأمتع اللحظات. أدخلوا فيه الفتيات والشباب عنوة.. تجرهم الغرائز واختلاجات النفس بعيد عن الوطنية فأصبحوا عبيداً لهم يقودونهم حيثما يشاءون. وترى الشباب تتهاوى هاماتهم أمام الخمر وجبروت الإيدز تنهار أجسامهم وعضلاتهم المفتولة وتلتوي أجسادهم في الزوايا المستشفيات المنسية, ثم يأتهم بعدها قلق ويساورهم هواجس تعصف بهم ليل ونهار على الموت القادم الذي سوف يجرف كل شيء في طريقه.
واليوم تجمعت في السماء سحابات سوداء داكنة حبلى بالأمطار أصابني اضطراب من هذا الجو كان المطر لا يزال في انتظار لحظة وصولي عدقه حموس تم تفجر بغزاره مما جعل الناس كلها تبحث عن مأوى وانصهرت الأرض والسماء في ظلام دامس لم يستطيع المرء أن يتبين فيه صف الأحجار المتراصة أمام المنزل ولم أرى هذا نوع من الأمطار الذي لا يتوقف أبداً, كان المطر ينهمر في جنون, وتصفع زخات البرد النوافذ, حتى تكونت بحيرات صغيرة, نكاد نغرق وكنت أدعوا الله أن تتوقف المطر لكنها كانت تهطل بإلحاح, ويضرب البرد الأرض بقوة, و البرق يمزق السماء, حولت من خلال النافذة مراقبة السماء ولم أرى شيـئا سوى الظلام الذي ابتلع الأرض تماماً. وكلما اخترق البرق كسكين, كان يظهر لي معالم الطريق في صورة مرعبه رأيت فيها الماء تندفع علواُ وانخفاضه في طريقها إلى المنخفضات, رأيتها تذهب عبر ماي بلاء ربما ربنا يريد لهم أن يكونوا أقوياء لأنا الفيزيائيين يقولون أن تجمع الأشياء في مظهر صلب هو نوع من القوة ولكن المنخفضات تجد فيه أمور تتفنن في جوعه وبقى حيث وضعته فلسفة أعدائه فتخلف كثيراً يصعب علينا اليوم مراجعتها, وحتى هذه الساعة هو غارق في أوراق وأختام وإمضاءات يمضي فيه كل وقته يراجع الدوائر الحكومية. وأنا أيضاً كنت منهم, وقصتي في ذلك هي قصة كل إنسان بحث استرجاع بيته في إرتريا ثم وجهته قوانين المساومة المسحوبة بلف والدوران.
أنا مواطن إرتري بالميلاد. وعمري 60 عاماً . وبما أن إرتريا تسمح بازدواج الجنسية. فأنا سوداني ثم متزوج من سودانية.. وهذه السودانية هي نتاج لأم مصرية وأب سوداني من مواليد أم درمان .. ولنا أطفال يحملون جنسيات متعددة هم أيضاً بريطانيون وكنديون, وبلادي إرتريا نموذج لمجتمع مصغر فيه أكثر من نطفة وأكثر من ثقافة وحامل لأكثر من هوية.. وما من شك سوف يحتار الأحفاد في ترسيم شجرتهم العائلية, لقد انتهى ما يسمى بالمواطن العتيد والنظيف والمفتخر بأصله وجذوره؟ ولدينا مواطن جديد انسيابي طيع, هش, لا حول ولا قوة ولا سند له ضائعاً, مرتبط بمصالح مادية متشابكة, أن الأسواق التي عبثت بحدود الوطن كثيرة منها الهجرات وقوانين الجنسية الإرترية وغيره. أن الشعب الإرتري لا يزداد في أرض إرتريا. إنهم ينقصون فيها أو يتجمدون في ثلاثة ملايين ونصف منذ العصور الغابرة, ولكن يزدادوا في بلدان مجاورة أو بعيدة. فهو مواطن محلق فوق الفضاءات المتعددة وعابر للقارات كثيرون منهم لا ينتمي إلى وطن, والحقوق ولا يملك أية مرجعيات. عرقية أو قومية والهوية الموحدة تتفاوت نسبياً تفسيراتها. أنا عضو في هذه ائتلاف الكبير والواسع ولا متناهي لمواطن العابر للقارات, وماذا عسى أن أفعل أنا أسمع الكل يزحف نحو مزارعنا في الأرض الذي سخنت تحت أقدامنا سابقاً وتناقص فيها كل شيء.
. قررت زيارة بلدتي بعد أن قضيت معظم عمري شبابي في الخارج والكثير منها في مخيم اللاجئين كشخص بلا دولة. أنا غريب للناس في أسمرا أعني لهم أجنبي, لاجئ ينظرون إلى نفسيتي بأسلوبهم الخاص لهجتي تدل لهم إنني لست من هذه الأرض, فعلاً أنا وأولادي تأقلمنا مع لهجة سكان الدولة التي نعيش فيها وتأثرنا بها ولكن كنا نحس أن هذه الفوارق عمليا ليست ذات شأن كان الملابس والطعام والفن والنضال يجمعنا ومع ذلك الكل ينظر إلى هذه الفوارق الثقافية بحذر, لحيتي تثير للحكومة مخاوف وقلق كلهم يحللوا كلامي ويراقبوا تحركاتي أحمل يافطا على ظهري تميزني عنهم, بالإضافة لشكل الذي اتخذه إسياس أفورقي لدولة الإرترية,حينما أوجد فيها إرتريون بلا جوازات إرترية وأنا منهم وكنت خاضع لشتى تقلبات الإدارية, يسألونني لماذا أرفض الاندماج في الثقافة التغرنية. كما يقولونني لماذا لا تسعى أنت وأولادك في الخارج تعلم اللغة التغرنية, أقل شيء كانت اليوم تلبي لك كثير من أعمالك في الدوائر الحكومية خصوصاً مطالبك هو إخراج المستأجر من منزلك. وهنا باتا واضحاً لي فرصة الارتقاء الاجتماعي تنبع من التدرب على اللغة التغرنية, كما أن المعاملة تتفاوت تفاوتا كبيراً في أرض الواقع كمن يعلمون ومن لا يفقهون شيء بباسطة من لا يعرف التغرنية يعتبر عندهم مناهضا للأهداف الوطنية.هكذا قمع مظهري البارز لهويتي ووضع علي بعض القيود وأبعدني من نظام البلد. وعلي البدء من جديد بتعامل جديد من الفهم بين جيلي وخلق علاقات ومعارف ورابط عائلية جديدا خلفاً لتلك التي جرفها النظام في منطقتنا. إرتريا لم تعد إرتريا التي أعرفها , ماتا إنسانها القديم واختلف معنى الاستقلال فيها وتغير فيها الزمان والمكان, أن الفرق بيني وبينهم إنني مازلت في نفس المكان وإحساسي الإرتري لم يتجاوز تلك الزمان, وبقى الإنسان الإرتري فيني هو نفس الإنسان القديم لإرتريا والآن نحن بين شعبين أحدهما ترك كل شيء قديم ولأخر مازال يتمسك بأي شيء, لقد توقف بي الزمان عند عمر معين هذا الزمان الذي أحترمه وأعيش ذكرياته ولكنني أعرف لا يمكن استرجاعه كما كان.
البلاد تمنحك ثقافة الحرب كل الإرتريين الذين قاتلوا في خندق واحد يتمنونا الموت لبعضهم البعض, وهي مسألة مألوفا منذ فترة طويلة ومن جهلنا أحببناها حتى صارت حديث النساء والموت حدث عادي وطبيعي ويومي, البلاد تهدم ويقتل أبناؤها والناس تتباه وتتغزل بالحرب لقد تغير الزمن وتغيرت التركيبة الاجتماعية فأفرزت فهم جديد ينقسم فيه المجتمع إلى فئتين فئة المجتمع القديمة والجديدة وهي نهاية الجيل العملاق وموت خصائصه وحلول جيل ضعيف لا حول له ولا قوة جيل أضاع أصله الأول استغنى عن دينه وقيمه الحقيقية وقبل الآخرون ليصنعوا له قراراته اليومية.لهذا اعتبرت بأن الوطن ليس جبال وأنهار وأشجار, كما أن وطني تعمد تغيب كل الناس الذي أعشقهم والصفات التي تربيت فيها غيروا كل شيء وحرفوا أسماءها فوجت حقات(حقاز) وتكلاي(تخلاي) وعدقة بعراي(عدقة عطال) وعاشورم(عدي شيريم)
قررت العودة إلى مكان أعشق هدؤوه واستقراره يقع في شارع الكمبوشتاتو يلجئ إليه كبار السن وكنت المس فيه شيء من ماضي البلاد . سمعت شخص يقول لزميل له من الأشياء المهمة التي يجب أن يتعلمها عيال الجبهة الشعبية عدم اشتهاء ما عند الآخرين خصوصاُ إذا كان ذالك من ذوي الإمكانات المادية المتواضعة, إنها وحشيت الدولة, فارد عليه صاحبه بقوله: وأيضاً هي علامات انتهاء تأريخ صلاحيتهم , هذه التصرفات التي باتت يبصرها الناس في الأحياء والسواق كانت في الماضي شكوى صغيره في الميدان. واليوم انتهت ببلوى كبيره تمثل قانونا من قوانين الشعبية,التي يكثر فيه ذرائع الكذب والخداع والنفاق.
سألني نفر ونحن ندور حول شارع الكامبوشتاتو لماذا جئت إلى هنا, إذا كان معنا الحرية عندك أقوى من بلادنا كما تقول: فأنت تستطيع أن تقول مالا تقول في بلادك وتسافر من مكان إلى مكان بدون تصريح, ثم يواصل حديثه فيقول أزمتنا يا صديقي كما هي منذ فجر الإنسان الأول الخوف هو الخوف كما تركته,كما نفيدك عدد البطاقات الإرترية زادت عن ما كانت في زمانكم ولا يمكن أن نمشي بدونها, وكذالك نقاط التفتيش, ولا يوجد أمل من فترة الاستعمار الأول إلى الاستعمار الأخير بأن في هذا البلاد ما يبشر بميلاد تجار كبار أصحاب ماركات عالميه أو دكاترة أومن لهم مهارات سواء كانت فنيه أو تكنولوجيا أرض غير صالحه لنمو لمثل هذه الرؤية الاقتصادية, رغم رقينا السياسي تجد حياتنا جامدة كما تراها, وللأسف الآن انتقلنا إلى نظام استئثار بسلطة وأستباح كل شيء فينا. تقدر تقول تحولنا ممن الاستعمار إلى الستحمار.
إننا نسير على اتجاه الأول الذي تمردنا عليه وقمنا باقتلاعه, واليوم نعيد ما نكره من الأنظمة, ونحن على هذا المنوال ندور حتى تقدم بنا السن, والأحداث ولأشياء مازالت كما تركتها في البلاد ترفض لنا التغيير.
وأخيرا اتضح لي نحن شعب بلا دولة, ولذا فنحن شعب من دون حقوق, ولا تمثيل, ولا ميزت, وليس لنا وسائط لدفاع عن نفسنا, ولا أية فرصة نصوغ بها مصيرنا, وضعنا يمثل حالة الاستعمار الأسوأ, الكل يخطط لاقتلاعنا من الأرض وتشتيتنا وأصبحت أرضنا فتحاً كبيراً لتغرنية تتسابق فيها لتحقيق أحلامها على حساب فقرنا وجوعنا, أعلنت علينا قوانين أكثراً تدمراً من كل المستعمرين.
وبعد أن رأيت كيف أفرغت حقوقنا وكيف التغرنية ترسخ بناؤها وسطنا لم أجد خيراً من العودة, وعليه فوراً قررت أن أعود كلاجئي للمرة الثانية, وأنا متوتر من هذا الواقع البائس مؤجلاً أحلامي وأحلام أبنائي لزمن واضح ومرئي لكل الناس.وأخراُ السلام عليكم وعلى إرتريا رحمة الله وبركاته.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6392
نشرت بواسطة فرجت
في يونيو 11 2005 في صفحة المنبر الحر.
يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0.
باب التعليقات والاقتفاء مقفول
أحدث النعليقات