الهشّْ: انطباعاتٌ أولية حول المتن الحكائيْ / و المبنى الحكائيْ
بقلم/ سعد رمضان أسمرا – إرتريا
الهشّْ عمل روائى جديد للزميل الشاعر والروائى المبدع / أحمد عمر شيخ. وهوعمل ينتمى الى جنس الرواية الجديدة متنًى ومبنى. وقد استطاع المؤلف أنْ يزاوج بشكل خلاق بين الشكل الفنى والمضمون الهادف نتيجة تمكنه من التقنيات السردية. ولذلك فإنَّ أيّ قراءة هادفة يجب أن تتناول كلاً مِنْ متن ومبنى الرواية. أمرٌ آخر حريٌ بالمعالجة ,, هو عتبات الرواية، ليس فقط لكونها موجه قرائى ومدخل نحو النصّ الروائى، ولكن ايضاً لما يتمتع به من وجود مستقل كخطاب له دلالات خاصة تثرى قضية النص او موضوعه وليس فقط تزيينه وإغواء القارئ. ومن أجل التدليل على أهمية العتبات نشير إلى أنَّ الواحد منا لا يُقدِم على شراء أيّ كتاب قبل التأكد من انه يستحق القراءة، وأنَّ قراءته ستضيف جديدا . وقد يحاول البعض منا تأمُّل العتبات – قبل قراءة النص او بعدها- لاستنتاج كيف تعالج العتبات موضوع الكتاب ؟! . قبل البدء ، أجد انه من اللازم أنْ انوه الى أنَّ هذه القراءة ستكون حصراً داخلية ؟! أى باستنطاق نصّ الرواية وعتباتها، و الواقع المتخيل الذى قامت بصنعه وليس الواقع الحقيقى الذى تنطلق منه ويجب ان تعود إليه . يعود السبب فى ذلك الى انه رغم أنَّ الرواية تعالج واقعاً ارترياً نعيش تفاصيله لحظة بلحظة إلا انها / أى الرواية تقدم وتعالج واقعاً متخيلاً مؤسساً على رؤية المؤلف وثقافته ولغته وتقنياته، وبالتالى فإنَّ الذى يجب ان يُقرأ هو الواقع الفنى الذى تقدمه الرواية والذى يجب ان يكون قادرًاً على تقديم منجز يسمح للوصول الى استنتاجات وخلاصات ورؤى بالاضافة الى الامتاع والتسلية، ولايجب ان يُنظر اليه كوثيقة تاريخية. وكعمل فنى واقعى لا يُتوقع منه تقديم صورة فوتوغرافية عن الواقع المعاش بل لابد من أنْ يكشف ويضمر ويستفز ويطرح الأسئلة ؟؟ والمؤلف الحصيف يدرك أنَّ نصه لا يكتمل الا فى لحظة القراءة وان قراءته تكاد ان تتعدد بتعدد قرائه وانفتاحه و غناه الدلاليْ . الهشّْ : رواية من الحجم الصغير، عدد صفحات نصّها 122، وصفحات عتباتها باستثناء الغلاف 6 . لا تحتوى الرواية على فصول ولكنها مقسمة الى 46 مقطع، ورغم ذلك استطاعت ان تعالج كماً كبيراً من المواضيع والأحداث والحالاتْ . عتبات رواية الهشّْ: العتبات او النصوص الموازية او الهوامش لأى رواية تشمل كلّ محتويات الرواية ما عدا نصّها ويتضمن ذلك الغلاف والعنوان وجنس العمل والمؤلف ودار النشر والإهداء والتصدير. على أني سأقتصر على تناول ما تيسَّر منها ومايتناسب وهذه القراءة السريعة.
عتبة الغلافْ : يحتوى غلاف العمل الذى بين يدى على الإسم(الهشّْ) واسم المؤلف (أحمد عمر شيخ) وجنسه(رواية) وصورة الغلاف واسم دار النشر (أدال) ولون الخلفية(رمادي) ولون الاسم(أسود).
اذا بدأنا بالعنوان، اى كلمة الهشّْ، نجد أنَّ الهشاشة تفيد معجميًا و دلاليًا سهولة الكسر او التهشيم او التعرض للضرر بسهولة. ويمكن أنْ تنسب الهشاشة للأشياء او الأشخاص او الأوضاع وحتى الأوطان. فعن أيّ هشاشة تتحدث الر واية؟ هل هى هشاشة الواقع ام الشخوص ام كلاهما؟ وماهو مصدر هذه الهشاشة وجذرها؟. كلمة الهشّْ (أىّ العنوانْ ) جاءت معرفة ولكنها غير محددة وهى فى حد ذاتها لا تشير إلى شئ او شخص ولكنها تشير الى ثيمة الهشاشة ,, وكأنى بها تقول مَنْ أراد التفاصيل فليتأمل بقية مكونات الغلاف او فليدلف الى النص. بالطبع يمكن تقديم عدد من المقترحات لمزيد من التوضيح ولكن ذلك غير ممكن دون الإخلال بمبدأ القراءة الداخلية. إذنْ ، عتبة العنوان تُفصح عن غرضين هما : تسمية الرواية وموضوعها العام. أما رسمة الغلاف فهى لشخص غير واضح الملامح بل هو تركيب من قطع متعددة مفككة وبالتالى تعبِّر ايقونيًا أصدق تعبير عن الهشاشة. ثم أنَّ خلفية الغلاف الرمادية، وهو لون يُفسر فى الغالب على انه لون التردد وعدم الحسم، جاءت منسجمة مع الموضوع. وبالتالى فإنَّ عتبة الغلاف تكشف عن موضوع الرواية ولكنها تفعل ذلك بتضافر عناصرها المختلفة كالخط واللغة والايقونة والألوان، الأمر الذى يجعل منها نصًاً موازيًا يعالج نفس الموضوع وإنْ بصورةٍ مغايرة، فى الوقت الذى تقيم فيه أولى الصلات بين أطراف الرسالة الثلاثية (المُرسل و الموضوع و المُرسل إليه أيّ المتلقي ). وإذا دلفنا إلى الصفحة الداخلية، وقبل البدء فى قراءة النصّ نجد إهداءاً واقتباساً ومقطعاً شعرياً . الاقتباس يقول ” أن البلادَ نائمة لعَن اللهُ من ايقظها” وهو اقتباسٌ بتصرُّف لمقولة الإمام علي بن أبي طالب “الفتنة نائمة لعن اللهُ من أيقظها” وباستبدال كلمة الفتنة بكلمة البلاد تمَّ تحويرُ المعنى إلى آخر مختلف تماما عن المعنى الأصلى، ولكن ما علاقة هذا المعنى المحور بموضوع الرواية؟! . إنَّ الهشاشة لا تقوى على مقارعة الواقع ومواجهته ناهيك عن السعى لتغييره وبالتالى فإن فى الاقتباس دعوة ليس للجمود وتجنب مواجهة الواقع او الخضوع له، بل لفضح اولئك الذين يتجنبون مواجهة الواقع ويفشلون إنْ هم حاولوا لهشاشتهم التى تفقدهم القدرة على الفعل فتبقى الأحوال على حالها او تزداد سوءاً. هذا القدر من تناول عتبات رواية “الهشّْ” يكفى للتدليل على أنها- أيّ العتبات – نصّ مواز لنصّ الرواية ويعالج نفس الموضوع ولكن بصور أخرى تثرى نصّ الرواية وتغنيه. لن ندخل فى نقاش عتبة الغلاف الخلفى على أهميته وغناه بالمضامين و الدلالاتْ .
المتنُ الحكائى للرواية هذه رواية اللابطل و اللاقصّة – على الأقل بالمعنى التقليدى – على الرغم من وجود الشخوص بما فى ذلك الشخصية الرئيسية، بل هى اشبه بمجموعة من اللوحات الفنية، والا فإنَّ القصّ او الحكى التقليدى كان سيجعل الرواية أشبه بنشرة أخبار لاعتمادها على أحداث جارية لم يجف مدادها بعد، والتى لم تتبلور مضامينها ناهيك عن حيثياتها وجذورها، بل هى توظف الشخوص والأقاصيص والاحداث لتستفز القارئ وتدفعه دفعًا ليتساءل ولكن لماذا يحدث ذلك؟! أو يقرر أنَّ هذا كثير !! وذلك اعتماداً على ما تم التلميح إليه اوالسكوت عنه رغم حضوره الطاغيْ .
تبدأ الرواية بوصف زمكانى (زمانى – مكانى)، وصف يضع القارئ فى الجو النفسى للأحداث ، وفى حالة ترقب وتوقع أمر جلل لن يعرف كنهه إلا مع آخر سطور الرواية بعد الانتهاء من قراءتها و استعادة شريط الأحداث كما حدثت لا كما صاغها المؤلف، وعندها سيكتشف أنَّ ذلك المكان لم يكن الا مسرحاً لنهاية الشخصية الرئيسية وربما نهاية لعذاباتها هى ولكن ليس نهاية العذابات التى توحِّدُ الشخوص ، لأنَّ النافورة التى تنبعث منها لم تغلقْ . كلُّ شخوص الرواية تعيش شكلاً من أشكال القهر والعذاب وكأنها عملية جلد ” مازوشيه” للذات. فهذا محبٌّ لا يقوى حتى على التصريح بحبّهِ لمنْ يُحب و يفرّ بسببه من بلد هى فيه !! وذاك محبط ولا يجد معنى لكلّ شئ وفى كلّ شئ، على الرغم من انه لم يخطو إلا بضع خطوات فى مشوار الحياة الطويل، وتلك الإنسانة الطموحة والشخصية الهادفة ذات العزم تتبخر فجأة ولا يُعرف لها مصير اوأثر، وأخرى افنت عمرها فى خدمة غيرها لا تجدّ راحة من عذاباتها إلا فى اصطياد من تعتقد انهم قد يبثون بعض الروح فى روحها الذابلة فى الوقت الذى تنتقم فيه لكرامتها التى أُهدرتْ بهدر ما يقدسه المجتمع، أما الشيخ الذى خاض معارك الحياة نضالاً ولجوءاً وجرياً وراء لقمة و فقداً للأبناء الواحد تلو الآخر فهو صابر على عذاباته و ربما أطلق اسم ” صابر” على ابنه لأنه ادرك مبكراً حاجته وحاجة جيله للصبر. وماذا عن ذاك الذى امتشق الألغام وزرع حقول موت تحصد الأرواح التى يفترض انه يسعى لتخليصها من العذاب ؟! أو الذين تعاهدوا على تدمير كلّ شئ يعترض السبيل الذى ارتضوه كاشفين عن هشاشتهم وهشاشة قضيتهم وأخيرا وليس آخرا نختم بالشخصية الرئيسية التى عانت فقدان الأخ ,, فالصديق ,, فالزوجة (روحه التى يسكن إليها) والابن وبرعم حبّ أملٍ يتفتح زهوراً ، وأدى بها الفقد المتتالي إلى أنْ تفقد عقلها وتسلم نفسها لمصير مروع و إنْ لم يكن منه بدّ . ولكن لماذا يستسلم كلُّ هؤلاء للعذابات او يقعون ضحية لها او يلوذون منها بها او يصبون فيها الزيت ؟! . توحى الرواية انها الهشاشة بل فرط الهشاشة، نسأل ماهى هذه الهشاشة – التى رغم ما يقال عن ضعفها- تفتك بضحاياها بدون رأفة ومامصدرها؟ وما السبيل الى الفكاك من قبضتها؟. الإجابة على هذه الاسئلة وغيرها، هى مهمةالقارئ بالاستعانة بما صرحت به او المحت إليه او سكتت عنه الرواية. وهذا يتطلب إعمالا للفكر، وليس أي فكر، او الفكر الذى ينهل من قوالب جاهزة، بل فكر نيِّر منفتح، يفتح انسدادات الافق و يحفر عميقاً . ورغم الصورة السوداوية، يبدو ان شخصية واحدة قد نجحت فى الإفلات النسبى من هذه العذابات. أي الشخصية التى نادت بمحاربةالفساد. فكانت الشخصية الوحيدة التى اضحت صاحبة قضية وان كانت جزئية ولا يهم كثيراً انها قد قضت لأن فى موت اصحاب القضايا حياة لقضاياهم ولا يهم أيضاً هل انتحرت ام نُحرت ؟! وهل أصابتها نيران معادية ام صديقة؟! ما يهم أنْ تبقى القضية، حتى يبقى الأمل ومن كان لديه الأمل لا يكون أسيراً للهشاشة المؤدية لليأس والقنوط ويكون كلّ فعل يصدر عنها زوبعة فى فنجان، وفى أفضل الأحوال قد يدرُّ الشفقة والمواساة ولكن لن يوصل لهدف او يحقق غاية. فالهشاشة تقتل فعل الإرادة و تنعش فعل السلوك الروتينى او الإدمانى، بغض الطرف عن نبل الغايات وصدق المشاعر. إذن، كلّ ما تقوم به شخصيات الرواية من أعمال او تتعرض له من عذابات او تسكت عنه من هموم وشجون مكرَّس لإبراز الغرض الاساسى للرواية أيّ هشاشة الأشخاص وبالتالى هشاشة أوضاعهم وظروفهمْ . بالطبع، اعتماد الرواية على أحداث آنية وفى طور التشكل هو نقطة ضعفها لأن مثل هذه الأحداث تفقد جاذبيتها وبريقها بسرعة ,, وقد تؤول الى مآلات هى عكس ما توحى به الآن. وكان من الممكن أنْ تؤدى الى درجة من السطحية فى الطرح لولا المعالجة التقنية والجمالية الرفيعة وهو ما سيتكشف لدى الحديث عن المبنى الحكائي للرواية. ولكن ذلك لا ينفى أنَّ المؤلف قد اقدم على مغامرة لدى اختياره مواضيع روايته. وإنْ بدا جليًا أنها كانت مغامرة محسوبة.
الرواية إذنْ تكشف عن قضية وعن معالجات هى بدورها مأزومة لانها تعتمد الخفّة والسطحية وردات الفعل كنتيجة منطقية لهشاشتها ,, أيّ نحن أمام قضية لا اصحاب لها لأن المعاناة لا تجعل ممن يعانى صاحب قضية بل قد يكون مجرد ضحية تستدرُّ العطف والشفقة. وقد تراوحت مواقف الشخوص بين مستسلم لقدره وغير مصدق ولا اقول مكذب لما يحدث امام ناظريه، وبين من اتخذ منها مبرراً ليفعل فى الضحايا اوالضحايا المفترضين تقتيلا ، وآخرون تقطعت بهم سبل التغيير والسير على دروب هجروا عدتها واضاعوا بوصلتها، لأنهم، وربما لهشاشة تفكيرهم قبضوا على زبد الماء الذى كان يجب أنْ يُرمى بعيدا.
المبنى الحكائى للرواية لقد صيغت الرواية تقنيًا صياغة محكمة من حيث البرنامج السردى، حيث اعتمد الراوي على حشد من التقنيات السردية و الأساليب الجمالية تأسر لبّ القارئ و تشد انتباهه و تمتعه و تغريه بمتابعة القراءة. الراوي فى هذه الرواية هو من النوع العليم بكلِّ شئ يتعلق بشخصيات الرواية واحداثها وذلك لاعتماده على الضمير الغائب وإنْ اراد ان يسمح لها بالكلام او اراد أنْ ينسب اليها رأيًا ما لجأ الى التنصيص والمشهد الحوارى. وهذا ماسمح له أنْ يجعل أحداث الرواية تترابط على الرغم من كثرتها وتعددها. كذلك شخصيات الرواية الرئيسية هى من النوع الدائري النامي مما يزيد من لهفة القارئ على متابعة القراءة. وهى شخصيات تعيش تنازعاً بين القهر والتهميش والهشاشة الذاتية وهشاشة المحيط. كذلك تعامل المؤلف مع الزمن بمهارة عالية، فقد جاء متقطعاً يتقدم ويتراجع حسب متطلبات خطاب الرواية. وأجاد المؤلف لعبة الزمن، حيث تنقل برشاقة بين الماضى و الحاضر وبعض الاستشرافات للمستقبل فأقام توازناً دقيقاً بين ازمنة الحكى والخطاب والقراءة. على أنَّ أكثر ما برع فيه السارد هو استخدامه للغة التى أتتْ صحيحة وشاعرية وموشاة بالتناصات والانزياحات وليس ذلك بغريب على شاعر من طراز رفيع. ما أبهرني أكثر هو استخدام البياضات والترقيم اللغوى بالإضافة إلى البراعة فى أساليب التلخيص والتكثيف والحذف التى مكنت السارد من التحكم فى حجم وانسيابية الرواية. ففى الوقت الذى ضمنت فيه النجيمات الانتقال السلس من مقطع لآخر عملت النقاط على حذف ما قصد حذفه لسبب او آخر. ولولا عمليات الحذف هذه لغرقت الرواية فى تفاصيل مملّة وهى من الآليات المتبعة للتحكم فى سرعة السرد وإيقاعه. وبالإضافة إلى التقنيات السردية التى ذكرت فإنَّ التقنيات اللاسردية كالمشهد الحوارى والوصف والترقيم والبياضات كان لها دور حاسم فى ضبط إيقاع الرواية.
الهشّْ رواية جديرة بالقراءة متنى و مبنى أو شكلا ومضمونً. فالتهنئة والشكر للزميل المؤلف لإتحافنا بهذا العمل الإبداعى الرائع والفنى الرفيع. ___________________ *كاتب وأكاديمي إرتريْ.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=36454
أحدث النعليقات