انقاذ النفس قبل الوطن مشرط التغيير الديمقراطي(4)

إستكمالاً لما بدأناه في الحلقات الثلاثة السابقة نتطرق اليوم الى موضوع التفاعل التنظيمي بين الأعضاء في إطار الحزب (أوالتنظيم) الواحد حيث أنَّ فكرة بناء الكيان التنظيمي للأحزاب لدى الإرتريين لا زالت تتكئ على عكازة البناء الثوري بإعتبار أن الأعضاء مجرد مجندين لدى هيئة القيادة العسكرية (أو القيادة العامة) التي حلت محل القيادة العليا للثورة في مؤتمر أدوبحا .. لأن المبدأ السائد حتى الآن في عملية التنظيم هو الطاعة العمياء للقيادة التي بدورها لا تزال تشعر وكأنها في الميدان .. لأن إصدار الأوامر التنظيمية بات شبيه بالأوامر العسكرية النافذة .. أي التي لا تخضع لمبدأ النقد والمراجعة لأنها عليا .. وبالتالي تَطبَّع الأعضاء بالمسار العسكري للعمل التنظيمي والذي يخالف الطبيعة التنظيمية التي تربو ونشئوا عليها .. وهكذا تربت أجيال الثورة على تجاهل حق النقد والمراجعة الثورية للأوامر وتصحيحها أو رفضها إن خالفت مسار المنطق الأخلاقي .. وهذا ما يكشف أبعاد الممارسة المظهرية لمبدأ النقد المعتمدة لمجرد القول بوجودها وإبعاد دائرة المساءلة عنهم .. ويبرر لماذا لا يملك العضو أو المجند حق النقد والمراجعة وحق التغيير الفوري لمسار القرار ليراعي المصلحة العامة .. والإكتفاء بحق التطرق الى الموضوع في أقرب إجتماع مع الجهة المسئولة منه مباشرة والتي بالتأكيد لن تتحمل تبعات ماحدث من إجراء والتظاهر بأنه صادر من الجهة العليا .. وبالتالي لا مجال أمام العضو سوى تنفيذ الأوامر ..

هكذا يتم إختزال إرادة النقد والتغيير ووأد كل محاولات التصحيح .. وهذا مايحلو للبعض تسميته بالتماسك الداخلي للعمل التنظيمي من خلال توقير الأوامر الصادرة وتنفيذها حرفياً ودون تردد او نقاش .. وتحت هذا البند التنظيمي المنحرف تم تسجيل كل عمليات القتل والتصفيات الجسدية لمجرد أنها أوامر يجب تنفيذها وعدم مناقشتها أو رفضها .. وهو مايتكرر الآن في أقبية العمل التنظيمي المكتبي ليعيد صياغة الأرواح والقيم التنظيمية الى تلك الوجهة المنحرفة .. وعندما يضيق المسئول من المراجعات والتساؤلات الناقدة يعالج الموضوع بترديد عبارة “هذا أمر” .. وما على العضو عند سماعها إلا أن يعتذر ويباشر في التنفيذ .. وهي الصورة القاتمة للعملية التنظيمية التي تجعل البناء في نظر الأعضاء وكأنه وكر لعمليات لا يمكن وصفها الا بالغامضة لأنها تجعلهم لا يفهمون لماذا صدرت وما الغاية وماهو الهدف الكامن وراءها .. ولهذا يحتاج العضو الى مايسمى بالتنوير لترسيخ مبدأ إستعلاء القيادة وهيمنتها على عقل وكيان العضو التنظيمي بل وكل الجماهير التي تبحث عن إجابة لما يجري في الساحة الإرترية نتيجة هذا التعتيم المتعمد للمعلومة التنظيمية .. فكيف إذن ستستطيع العضوية أو حتى الكوادر المتقدمة المشاركة في العملية التنظيمية وهي كالأطرش في الزفة تجهل الموضوع المستهدف من العملية .. والعيب هنُا ليس فقط في الآلية التي تطبق بها الأوامر لتوحيد الوجهة وجمع الكلمة .. بل كذلك في آلية الإخضاع القسري للإرادة .. لأنها ساهمت في تشويه إرادة التحرر وطمس هوية الفرد المستقلة ليصبح رغماً عنه آلة لا حق لها في إثبات وجودها والتعبير عن إرادتها المتوافقة مع الإرادة العامة للمجتمع الناهض نحو التحرر.. والنتيجة أن إرادة المجتمع فقدت الدعم الذي كان يحققه الفرد لها من خلال حفاظه على القيم والعادات والأعراف الملتزمة بأخلاقيات حماية الكرامة وقيم التحرر والإستقلال وعدم قبول الخنوع والركوع لأي إرادة متطاولة تحاول إزلال المجتمع من خلال قواه الفردية المتمثلة في هؤلاء الأعضاء .. وبالمقابل فقد الأبرياء دعم المجتمع وأصبحوا عرضة لعمليات القتل والإعدام في الميدان .. لمجرد أنهم انطلقت سلوكياتهم لترجمة هذا الفهم البسيط للتعبير عن الإرادة دفاعاً عن كيانهم الجمعي الذي يشعرون بالإنتماء إليه مقابل رفضهم الخضوع لإرادة الكيان العسكري الذي أهدر أمام أعينهم القيم الإنسانية التي كانت تمثل الأساس لبناءهم التنظيمي قبل مجيئ الثورة .. ومع تفاقم الأمر ظهرت قوى التصحيح المختلفة ومنها المجموعة الشابة التي إنطلقت الى دنكالية لإعادة التنظيم الثوري لتحقيق الإرادة الحرة للمجتمع الإرتري رفضاً منهم لمبدأ التنازل عن العنصر الأخلاقي المرجع الأساسي للقيم التنظيمية .. وقد مثل هؤلاء العشرة من قيادات الثورة المسار الحقيقي للتغيير الديمقراطي من أجل إنقاذ الوطن من الإنقياد وراء الوجهة المنحرفة للثورة لكن إرادة القيادة المتطاولة على القيم الثورية الناهضة كبحت هذه الإرادة كي لايحدث التغيير المنشود .. وقامت بكل جرءة وقسوة بتصفيتهم بمنطقة دنكالية لتكشف قيادة الجبهة عن وجهها العدائي لقيم المجتمع وإرادته الحرة الفتية .. ولتصبح الثورة من بعد ذلك مجرد كيان تنظيمي لا هدف له سوى إبادة وإعتقال الأحرار وقتل الأبرياء وطمس الأخلاق .. هذا هو مايتذكره الأحرار عندما يأتي سبتمبر العظيم فتتجسد أمامهم كل تلك الأحداث المؤلمة متساءلين ألم يكن يستحق من فعل هذا الجرم أن يحاكم وأن تُنَفذ عليه أقسى العقوبات .. والإجابة بالطبع لن تُرْضي طموح الحادبين على المصلحة لأن كل من كان ينتمي لكيان الثورة حينها (على مستوى المجندين أو القيادة) لم يكن حراً حتى يساهم في تحقيق العدالة بل كان البناء التنظيمي عبارة عن معتقل كبير للإرادة الإرترية .. حتى القيادات الميدانية الأخرى كانت مكبلة ومكممة بفعل طغيان العناصر المتحكمة في الجبهة وإنحرافها عن مسارها الإفتراضي الذي أسسه البطل الشهيد حامد إدريس عواتي .. ومن الطبيعي أن تمر كل الجرائم المرتكبة مرور الكرام دون مساءلة أو محاكمة .. وهكذا يتم قفل المحضر لعدم توفر إرادة للقانون في ثورتنا التي نفتخر بها كل عام .. لقد بلغ الإنحراف الثوري مبلغاً أمكنه من إصطناع واقع نفسي جديد على أنقاض الواقع النفسي الذي ساهم في تفجير الثورة ليسيطر من خلاله على الأرض والشعب والوطن..

ولكن .. أليس من المنطق أن تزول هذه الممارسة بزوال الوضع الذي خلقها وقد مرت عقود على هذا الوضع الإنتهازي ..؟! وكأن أجيالنا الشابة المتعاقبة اليوم هي الأخرى واقعة تحت تأثير تلك السيطرة التي أدارتها العناصرالمنحرفة للجبهة في الساحة الإرترية رغم إنتقالنا الى مرحلة الدولة .. حيث أنَّ كل القوى التنظيمية التي ربت في الساحة باتت تحمل نفس الصبغة التنظيمية وبالتالي خلقت المبرر كي يمتد التأثير الى كل القوى التي نشأت بعد قيام الدولة .. ولذلك فشلت جميعها في القيام بالدور النضالي الذي يعيد الى هذا الكيان صورة الفاتح من سبتمبر التي أشرقت بفضل المبادئ الأخلاقية التي رسمها الشهيد البطل حامد إدريس عواتي .. وكان من المفترض أن ينتقل الدور الى الشباب اليوم لأنه لا يؤمن بالمسارات غير الأخلاقية للعملية التنظيمية ويسعى لتأسيس واقع تنظيمي جديد كالذي إستشهد من أجل قيامه الكثيرون من أبناءنا وعلى رأسهم مجموعة دنكاليا الشابة .. هذا إذا لم يكن قيادات المجلس الوطني للتغيير قد تنازلت عن الشعار الديمقراطي وتمكنت من قبول مبدأ التعاقب بين الأجيال الإرترية لتمارس الشريحة الشبابية دورها المنوط بها بعد إكتمال شرط التغيير الديمقراطي المطلوب ليحل الأبناء محل الآباء .. في مشهد عرس تنظيمي جديد يتم خلاله تشييد أبهى صرح الديمقراطية كأساس للمسار النضالي الإرتري القادم بعد تنظيفه من سلوك التأثر بالمبدأ الإنتهازي ومخلفات ممارساته الديكتاتورية ..

هذه السلسة من المقالات هي من وحي سبتمبر العظيم وأضواء من شمعته الـ 54 .. التي نضيئها اليوم كدروس من الواقع التنظيمي الإرتري بحثاً عن عوامل تحقيق الذات الجمعية للكيان الإرتري وتجميد الذات الفردية المتناقضة مع المسار الجمعي للمرحلة.. حيث سنتقدم مع كل حلقة خطوة نحو تحديد أكثر وضوحاً لمعرفة السبب وراء تخلف الإرادة الإرترية عن بلوغها الهدف المرصود.. منذ فجر التأريخ ..وخير الكلام في هذا الشأن ماقل ودل .. الى اللقاء.