بكائية شخصنة المروءة بهما
بقلم: أبو دالية البكري
إعتدت أن أبدأ جولتي على المواقع الإلكترونية الإريترية بموقع ” عدوليس” الإلكتروني ، إلا صباح الأحد 21 مارس 2010م ، فكان هو الأخير، وكان فيه ما لم أكن أبحث عنه ، بل تمنيت لو لم أزره ..! ترجّل عزيز.. وصديق تتفطر أنفاسه كتابة ..! الله ..الله .. عمر أحمد عبدالماجد .. كيف لا .. يارمز الصداقة من الصبا إلى هذا الزمن الرهيب ..!
إلتقيت بعد رحيل إدريس طاهر الصديق ياسين محمد عبدالله، وكنت أتحاشا الذهاب إليه، حتى لا أخوض معه في الفقد وأشجانه .. دعاني العزيز جمال همد للكتابة عن أصدقائي ..! وظللت طوال هذه الفترة أتوجس من نبأ جديد .. عن صديق يستحيل تعويضه .. وترقب ، فحال أبا منذر هو أحد المعجزات كي أكحل عيناي بمرآه ..! ثم كيف تكون الكتابة عن فقد ينزف في أحشائك ، وتقف المقولات جميعها أمامك وضدك ..!؟
الرحمة والغفران لهما ..! ولكل من ذهب قبلهما ومن سيذهب ..! ولا عزاء.
كانا أكثر من طبعا مرحلتين من حياتي .. الصبا والشباب .. ولايمكنني أن أكتب عنهما شهادة كنه.. فكثرغيري من يشهدون عنهما ، وفي مقدمتهم مصطفى نافع والحسن جعفر وحامد عمر وأحمد داير وأحمد محمد
وهاشم حربي .. وكنت أقلّهم تواصلا وعشرة يومية .. لكني لم أفتقدهما يوما قط ..!
@ البداية مع أبا منذر بحي المزاد بكسلا – مربع 16 حاليا- عام 1970م، وثلة من شباب وصبية يلتإم شملها عصركل إثنين وخميس في تمرين رياضي بالقرب من مطار عسكري ملغي لحامية كسلا- ولم أكن رياضيا ، إذ أكتفي بالوقوف متفرجا أو خلف المرمى لإعادة الكرة – وهمي أن تضع الثلة برنامجها المسائي..!
فارسيها كانا مصطفى نافع وعمرأحمد، طالبي ” الأهلية الوسطى “، ومناورها هاشم حربي، والتابعين عزالدين نافع وشخصي، وآخرون يتغيرون من حين لآخر، ومع الغروب نتسرب ونلتقي قبل بلوغ ” مدرسة اليوليس ” ويبدأ المسيرمن مرور بـ” مكتبة هاشم خليل” ، للصحافة والأيام وإصدارات بيروت والقاهرة الأسبوعية والشهرية والسنوية..! فـ “الشرقية ” أو” الوطنية” حسب الموضوع والأهمية ..! وما كان يثني الثلة عنه، إلاّ كبيرة .. أو الأيام المطيرة ، وكانت مواظبتي عليه يوم ” الخميس ” حيث إجازتي الأسبوعية من داخلية ” عوضات ” أيام الدراسة.
تلك هي أطول الفترات التي قضيتها معهم جميعا، بإستثناء مصطفي وعزالدين، وكان أبا منذر مركز حلقتها ، حبا من الجميع ، وإثارة ..! كان عمر الأكثر نقاشا وتعليقا ومسامرة ، والأكثر مبادرة في كل موقف ..!
كنت ذو طبيعة خاصة، فأنا القادم من الأخير من ” أغردات ” ..! شيئ من بداوة، وكثير من شغب..! وأقلهم مقدرة لغوية ، وكانو يولوني رعاية خاصة، وكان ذلك بداية عهدي بالقراءة المدرسية، ومشاهدة “السينما” ..! يضعوني في الوسط ليحدوا من إنفعالاتي مع مشاهد أفلام “الكاوبوي” ومعارك الرومان ..!
كان أبا منذر يقوم بتلطيف الأجواء مع الجالس أمامي حين تصيبه لكمة أورفسة ..! أو عند الإعتذار لمن هو خلفي، وقطع إنسجامه مع المشهد ..! وكان هو وعزالدين أكثر من يشاركاني عراكي في ” مدافرات ” الدخول والخروج مع الرواد ..!
وغادرت .. وإلتقينا عام1977م بكسلا وهوعلى مشارف إنهاء دراسته بالمعهد العالي للإتصالات – إن لم أكن مخطئا- رجل لم يتغير فيه الكثير .. ذات النجابة والمبادرة، وأكثر وعيا وإلتزاما ..! نضالا في الثورة الإريترية من أجل الإستقلال .. نضالا في السودان من أجل الحرية والإشتراكية .. إنسانا تمتد أحلامه بقدر إلتزامه تجاه من يحب ..! ” من غيرنا ليقرر القيم الجديدة والسير” ..! كان ذلك عمر أحمد عبد الماجد .
@ في ظهرية لا فحة من أكتوبر 1977م وأمام ” مكتب اللجنة التنفيذيةبالأسكلة ” إلتقيت إدريس طاهر وياسين محمد عبدالله وآخرون، وتعارفنا..! رحلة سير إلى ” أغردات ” على صهوة لانديي كروزر، ومنذ الوهلة الأولى شعرت بالإنشداد إليهما..! إدريس بحسده النحيل الممشوق، ونبرته العالية كلاما وضحكا ، وياسين بلمعة عينيه وإبتسامته العميقة – برغم صغر فمه – فاخترنا أن نجلس سويا في خلفية اللاندي المكشوف، نمتع النظر بروعة البراري وجلاميدها.
حين بلغنا ” علامة حديدة الحدود” كان أول القافزين إدريس وتبعناه جميعا..! وسجدنا ..!
في ” قرقر” كان عناقنا بعناصر “جيش التحريرالإريتري البطل “.. وكان ذلك أول عهدي بهم ، أن أراهم في الميدان.. على الأرض الإريترية .. وكانت ليلتنا الأولى في ” هواشايت ” .. قضينا ها الثلاثة سويا بملتقى “أف شنكيت ” ..! إنشادا ثوريا وغناءا تراثيا من بداية الرحلة إلى أغردات ..!
وكانت أيام الميدان بمقر الإتحاد وكسلا، ثم في جدة ..! فالإفتراق ..!
إدريس ليس من النوع الذي تختصره اللحظات .. عمقا في كل شيئ .. الذين عرفوه – ومنهم أنا- يدركون إنه من النوع الذي لا تفتقده أبدا .. مهما بلغت المسافات .. إنه من النوع الذي لا يحد ..! بعيد عنك لاتفتقد أثره في دميك .. قريب منك .. تشتاقه ..!
ضد كل المسافات واللغات والأزمنه ..! ذاك هو سر قوته – رغم النحالة البادية – وهذا إرثه في الناس في ما مضى .. وما سيأتي .. هل خرجت عن النص تأثرا ..!؟ للذين يعرفونه فقط حق الإجابة ..!
كان عمر يناديني بـ ” كركر” ولا أذكر من أطلقه عليّ ، مصطفى بسخريته المحببة .. أم كان هو .. أم هاشم حربي .. وكان إدريس يناديني بـ ” بالشقي” .. فهل كان يرى واقعي كما عرفه ..أم هذه الأيام التي لا تطاق ..! اللّهم لطفك يا الله ..!
@ أيام شحيحة جمعتني بهما، لكنهما كان الأكثر أثر فيها ..! للرجلين صفات مشتركة، لم يكونا يعيشان لنفسيهما، قادرين على إخفاء مرارة دواخلهما حد الإعجاز ..! باسمين وصاخبين ..! كتومين لأسرار تنوء عن حملها جبال ..! ناقدين لا يكتمان رأيا ..! صاحبي موقف على قناعة وهدف ..!
@علمت بمرض عمر قبل مرض إدريس، وصادف أن جاءت “أم منذر” إلى كسلا، وكنت على بعد خطوات من منزلهم ، ولم أجرؤ على ملاقاتها ..! خشية التداعي ..! قاتل الله الجبن ..!
وحادثت إدريس قبل رحيلي من كسلا ، للإطمئنان عليه ..! وكان – كعهدي به – أكثر مروءة ورجولة ..! ولم أقوى على موادعة الأخت ” شادية ” والصغيرات ..! لهن كل الحب والمواسات ..!
@ قبلهم عرفت مفارقة الأصدقاء ..! حاج مدني .. محمد موسى.. همد علي همد.. عبده صائغ .. “أبو الأفكار- محمد صالح إدريس ” ..!
وبعدهم أيضا .. عمار .. عبدالحكيم .. أبو جاسم .. وكثر من قبل ومن بعد ..!
لكنهما كانا الأكثر وجودا في حياتي اليومية ..! رغم المسافات والأزمنه ..! اللقاء والبعد ..!
@ مفارقات الواقع والأماني .. أكثر ما يحز في النفس أنهما فارقا الفانية .. قبل يتحقق بعض مما ناضلا من أجله ..! أحلام الحرية والإستقلال .. صارت كابوس اليوم أمام الأبناء والأحفاد .. وطن الجدود إلى ” وطن يتبعثر أشلاء ” كما قال مدني ..
كانا إبني جيل .. لو تكثفت وتشخصنت المروءة والرجولة في هياكل .. لكانت إدريس طاهر سالم .. وكانت عمر أحمد عبدالماجد ..! وذينك كانا إدريس وعمر ..!
اللّهم إرحمهما كما عرفتهما .. اللّهم إرحمهما كما صقلاني صغيرا ..!
لهم جميها أحر دعوات العفو و الغفران .. لذويهم.. للأصدقاء.. لكل من عرفهم …أحرالتعازي ..!
اللّهم ألهمنا جميعا الصبر والسلوان ..!
واللّهم أجعل هذا آخر عهدي بالفواجع .. اللّهم تقبل ..! اللّهم تقبل ..! اللّهم تقبل ..!
أبو دالية البكري
22 مارس 2010م
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=2736
أحدث النعليقات