بين سبتمبر وسبتمبرالبون شاسع

من يراجع نضال الارتريين ابان مرحلة الانتداب البرطاني في سبيل الاستقلال التام يتاكد له بما لا يدع مجالا للشك انهم قد وفوا واحسنوا وزادوا في الاحسان.

لكن كان ا لامر قد دبر بليل  رغم تضحياتهم  فى سبيل منع ذلك .

ولان حزب الوحده مع   اثيوبيا ( الاندنت) كان ينطلق من جوانب عاطفية صرفة فى فهمة للدين ومصير الوطن  دارت الدائرة الاستعمارية عليهم اولا :

ــ  فجردوا  من المسؤليات التى كانوا ربما يعتقدوا بخلوصها اليهم  واصبحوا عمالا لدى الاجانب الاثيوبين  .

ـــ  عرفوا ان المجتمع طبقى  وانهم دون الامهرا وباقى الاثيوبين وقد سمعوا  يوما من الاثيوبيين : ” انهم من يسمون الحبش  وانهم دون كل الاثيوبين ”  اذا صحت الرواية.

ــ شكلت منهم قوات الكمندوس التى امرت بمحاربة الشعب المسلم قبل محاربة  الثورة حرقا للقرى والمزارع  ونهبا للاموال وارتكاب الجازر الجماعية فى جميع  انحاء ارتريا وقتلا عشوائيا فى طول البلاد و عرضها حتى انتهى عهد هيلى سلاسى  الذى عرف كيف يستثمر عاطفة الدين فى تسخير  الوطن وبعض مواطنيه .

وفى عهد الثورة الشوعية  فى اثيوبيا عرفت ( الاندنت )  ان الاوطان متفاصلة  بحدود طبيعية  وحدود قانونية دولية  وحدود معنوية  لاتنجبر بالعواطف  والاحلام  ولاتختزلها الاماني والمجاملا  والتراضى بالتبعية  والهيمنة  والاستحواز اللامبرر .

فكان  الهروب الى الثورة  هروبا  الى الوطن  والهروب الى سبتمبر الذى  اتضح لهم انه ملك لهم كما لغيرهم  مهما حاربوه .

ميلاد الثورة

كان ميلاد الثورة فى الفاتح من سبتمبر 1961ميلادا   شرعيا بعد ان اجهضت  كل

وسائل حماية  السيادة  الارترية حتى  فى ظل  الفيدرالية التى ظنت كتلة الاستقلال  انها بحماية الامم  المتحدة  ورعايتها   مصانة فيها للحقوق الوطنية حتى اتضح لهم – ان الامر قد بيت بليل.

فكان ميلاد سبتمبر بعد ان استبانوا الامر ضحى الغد  وترسخت حقائق زوال سيادة ارتريا  فى ارضها وشعبها  لذلك  انتسب الجميع الى ثورة سبتمبر انتسابا عضويا  لا لاحد عليه  فيه امتيازا وتفضّل  لانه كان الانتساب الى  الوطن فى مختصر  التعبير  اجتمع فيه الارتريون سواء من بادر ومن كان متاخرا  او متقدما  ومن كان  قاصيا او دانيا .

 ومهما طالت رحلة  سبتمبر ومهما حملت من الصروف  القاسية الا انها   جمعت الارترين للبحث  عن سيادة وطنهم  المفقود وتشكلت ملامح  الهوية الارترية  الحرة و هوية الوطن المرتقب. 

 

وحادت الثورة عن الجادة

والامر ايضا بيت بليل …

 وتسلقت الافكار الدخيلة مشوبة بعاطفيتها  وهواجسها الفكرية .   

وعصفت  بالثورة نوازع مختلفة منها ما يبرره  الواقع  الاجتماعى  والمستوى  التعليمى  المتدنى ومنها ماكان دخيلا فكان خصما على الاهداف السبتمبرية وبالتالى  الوطنية و السيادية  ولم يبالغ  من يقول انها  اصبحت  يوما ما اقرب الى ان تشبهها بلعب الاطفال  “وذلك في قطبي الثورة حينها ـ قوات التحرير  الشعبية  وجبهة التحرير الارترية ”

ولست هنا احاكم  تلك المرحلة  وشخصوصها  فهناك من عا شها  اكثر مني ويقول فيها بمعرفة   ودراية كاملة , ولكن ما اردت قوله ان الثورة انتكست في اهدافها الوطنية وحادت  عن سبيل الاجماع والاجتماع الوطني  وتتالت الانتكاسات حتى رجع من بيت بالليل من قبل فبيت بليل من جديد وجاء الاستقلال ملبسا منقوصا مشوها .

ومع ذلك  ظن الارتريون ان مرحلة الاستقلال تهدم ما قبلها وان ميلادا جديدا لارتريا والارتريين قد اشرقت شمسه وما زاد من التفاؤل ان الشعبية قد استثمرت في البداية شوق الارتريين الي وطنهم باستقلاله وسيادته فمثلت بسيناريو مكشوف دور السلطة الوطنية التي سترتفع فوق كل اشكالات الوطن ، فهرول الجميع دون تفكير وتفسير ولكن من فطن الامر رأي الشّرك الذي يستدرج اليه  كما يفعل  الاطفال  بالطيور  فكانت السجون  الابدية  و الاغتيالات   العشوائية وتهجير ذوى البصيرة والراي والبطش فى كل مكان  تمثل فيها نظام الشعبية  دور النمر  الذي يلبد للفريسة فإذا وقعت في يده  مزقها كل ممزقة ونثر دمائها واشلائها طبعا –  لان الامر كان قد بيت بليل .

وكانت الحركة الاسلامية على بصيرة كاملة  ,  نتيجة التبصير الرباني  ثم الدعوي والتنوير السياسي راصدة ومستجلية لسياسات الشعبية  لذلك  مات من مات منها على بينة  ومن اسر او حي على  بينة  واعيا  للحقائق  والممارسات لذلك  اخذت النصيب الاكبر من جام غضب الجلاد قتلا واسرا وبطشا فى كل وادي  .

 ولان سلطة وتسلط  نظام الشعبية  جاء – لما بيت بليل خصما على سيادة الوطن والوطنية  والمواطنة  لذلك رجع الجميع  الى المربع الاول  النضال بكل تسمياته  الكفاح و التحرير والمدافعة الجهادية  الاسلامية والحقوق القومية والتنظيمات الوطنية …

وا صبح الامر  يصدق عليه من  قال : ما اشبه الليلة  بالبارحة .

 وهانت مرارات   وماسي  الارتريين  عندما رأو ماحل  باولئك الذين كانوا  قادة مؤ سسين  للجبهة الشعبية وكانو دروعها في احلك  واصعب  الظروف اولئك  الذين شيدوا صروحها وهيكلها  وكانوا  واجهتها ووجوهها,كانوا جذورها  وساقها  وفروعها  وكان غيرهم  اوراقها  وثمارها , فاذا بها  ايدي البطش  قد  تلقفتهم  قتلا وسجنا  او ارهابا وهروبا لاشئ الا انهم كانو  يحملون  الافاق السبتمبرية تصورا حقيقيا  او” مشوشا ”  ولانهم كانوا يحملون  كل اشواق شعبهم في الحرية والسيادة  الوطنية .

 واصبح من بقي منهم صورة لايستطيع  ان  يقول  فيما مضى  وينظر  الى ما هو  واقع نظرالصورة  فى جمود لامتناهي  ينتظر مصيره فى ترقب مستيقنا  انه قالها  وسيبقى يقولها ” انه اكل  يوم اكل الثور الابيض ” .

 وعلى ذكر سبتمبر ومرور ذكرى سبتمبر  تحضرني  قصة مؤسفة  مع المناضل كبوب  حجاج  نسال  الله  له الرحمة  والمغفرة .  

كبوب حجاج في الثورة

ربما كان من هو  اعلى  منه مسؤولية في خلافة عواتي لكنه كان الصديق العزيز والمستشار الوفي وامين سر حامد عواتي مفجر الثور ولذلك وجدت عنده كل خصوصيات عواتي معرفة مكان قبره او جثمانه ، بندقيته ، كل المعلومات المتعلقة بحياته ونضاله ووصاياه عند وفاته …

فكان يفترض ان يستقبل علي انه خليفة عواتي  ويعامل بماكان يفترض ان يعامل به  عواتي لكن قادت الشعبية كانو يستحيون من تقديم اؤلئك ” الجلف ” اومثل هذا ال ” جلفاف ” للعالم  ام هو طمس لتاريخ الثورة الحقيقي  كما تاكد فيما بعد  لتحل القاعدة التي تقول ” التارخ يكتبه المنتصر ” .

كبوب حجاج كان رجلا بسيطا وهي صفة جامعة لالئك الاول  قد لا تلقي له  بالا  الا اذا جالسته  وعرفته  عن قرب , فإذا عرفته تجد  نفسك  تتصاغر امام  قامة  سامقة  ، ونفس نبيلة  تترفع  بقيم  اصيلة تسمو  بصاحبها سمو  الكرام الشرفاء .

كان كبوب يزهد عن كثير من امور الحياة  فلا تجده فى مجالس الصخب والذكريات  وما اعتاده كبار السن او نقاش  السياسة او جدال الافكار والايديولوجيات تجده صامتا  لايتجاوز  السلام بروح ودودة  ووجه طليق  تعرفت عليه بسبب  الجيرة  فى بعض السنين  وحين اجلس  اليه  اجده يتهرب  عن الحديث  في عهد الثورة  ونضالهم  الاول  ربما  انه كان  يخا ف  ان يشطط بكلامه.  

ولانه كان يكرمني ويعزني ايما معزة  اسئل الله ان يجزيه عنى  خير الجزاء كان يمزح  ويحكي قصصا عن القدماء كثيرة فوجدته موسوعة في الحكم وصايا المشايخ والصالحين .

 إلتقيته صدفة  بعد ان عاد  الرعيل  الاول لجبهة  التحرير  الارترية من اسمرا وقد اخذوا مكافئة  وبشروا واملو ا  الكثير في السنين الاولي لاستقلال البلاد ووعدوا بمشاريع  زراعية لكل منهم  وحي خاص  يبنى  بالفلل  يسمى حي الرعيل اضافة الي اصناف الرعاية المختلفة  .

 قلت: كيف   استقبلوكم 

قال:خير استقبال واكرمونا ايما  اكرام  ماشاء الله  .      

 وكنت قد سمعت تسليمة  جثمان وسلاح عواتي.

فقلت : طبعا سلمتهم الامانة 

قال: نعم سلمتهم سلاح عواتي  ومكان  دفنه و حملوا الجثمان  الى مدينة هيكوته وعملوا له ضريح فهم متعطشون  الى ابراز  تاريخ   الثورة  وتراثها الاول .

 قلت :هم قالوا لكم اذهبو ام انتم طلبتم الاجازة فحضرتم .

قال : صرفو لنا جزءً من المكافئة  وقالوا نستدعيكم ايضا اذا حان وقت الصرف  .

قلت : ياعم كبوب  سينتهى الخداع  هذا  وتظهر حقيقة التمثيل  بالوطنية  فلو كانوا حقيقة  صادقين  لما  كان  امثالك  يتجول  هكذا فانتم كنوز  النضال  الوطني  لكن المرحلة  تتطلب  منهم  استلطافكم  واستراضائكم  ثم ستظهر  الحقيقة  انهم  لايقيمون لكم  وزنا ولا يعرفون  لكم فضلا هناك  الكثير  من المؤشرات  التي تدلك انهم  يريدو ان يصلو بالشعب  الارتري وليس وحدكم الى محطة تنفصل فيها  المفاهيم وتراجع فيها الولاءات والانتماءات  وستعودون كما كنتم وستسمعون منهم عكس ماتسمعون  سترو منهم عكسى ما ترون .

قال:  العم كبوب وقد ملكه الغضب من كلامي  لولا وقاره   وتهذبه  الطبيعي  : يا ابني  ما قمنا  نحن من اجله هاهو  قد تحقق  ومالنا  ومال الخلافات  التنظيمية بينكم .

نحن حلمنا قد تحقق  والامور الاخرى  فيما بين التنظيمات  لاتعنينا  اتفقت ام اختلفت   والحمد لله ما رأيناه  من الحكومة  يطمئننا على الوطن .

تمنيت اني لم اقل شيئا واسفت  وكنت خجلا  وقد  اوصلت عمنا كبوب الى هذه الدرجة  من الزعل  ,ومرت  الايام والشهور  وصادف ان  التقينا  فى مناسبة زواج  وعند قدومي  كان هو منصرفا  وبعد السلام  وهو يمشى و يبتسم   قال لي: لقد تذكرت كلامك  وانا فى اسمرا  ثم انصرف .

لكني رايته بعد ايام وقد اردت ان اشعره الجرم وقد علمت طبيعته وعدم توافقه مع هذا الاسلوب وهو حذر في كل قول .

 فقلت :  لقد عرفت  حقيقة نظامهم  اللاوطنية  اليس كذلك  ؟ .

 قال: لا لا لا  يا ابنى  الامر ليس  كذلك  , فقط كنت  قد  شغلت  موظفا  فى عمله .

 ثم حكى القصة لاول مرة  يتحدث   كبوب حجاج  ويروى ما راى .

قال: عندما قدمنا  فى البداية الي اسمرا  كان المسؤول  عنا موظفا  لطيفا  جدا  وقد وجدت  منه  احتراما  زائدا  وعناية  فائقة مما ترك فى نفسي أثرا طيبا  بعاطفة  صادقة  واطمئننت  انه ليس الوطن الذي كنا ننشده   قد تحقق  وانما  ايضا الوطنية التي  كنا  نألفها فى العهد  الاول   ونتمناها  قد تحققت .

 ثم  عند عودتي  الاخيرة لم  اجد  ذلك  الموظف  فقلت : من اول يوم  لايروق لي بال  حتى اراه فقيل لي انه انتقل  الى جهة اخرى  وبعد انهاء  اجراءتك  سناخذك اليه .               

 قال ومازلت  اتوق الى لقياه واسئل  متى سنذهب اليه  حتى جاء اليوم  الذى  اخذوني اليه  ودخلنا  اليه  وهو فى المكتب  ولما راني

 قال: فى لهجة زاجرة  ما الذي جاء بك  الى هنا ؟  ألم يعطوك حقك ؟ .

 قال قلت: نعم اعطوني  حقي يا ابني وكل شئ تمام  لكن جئت لاراك فقط  و لأ سلم  عليك ؟

قال: امشى امشى  محركا  يده  آمرا با لابتعاد والانصراف  .

قال  : ورجعت  من باب  المكتب  دون  ان اسلم  عليه ، حينها تذكرت كلامك .

 لقداختلجت نفسي بعبرات  وزفرات  حين تخيلت  الموقف  وانا منهمك بالرواية   وحز فى نفسي  الاسى  وقد رايت عمنا كبوب  وقد بان  فى محياه الاسف  الشديد  حتى وان داراه  وحاول اخفائه يالها من مفارقة عجيبة .

  كيف ان الود و الصفاء  الطبيعي عندنا  يقابل  لؤما  وحنقه واحتقارا واستعلاءً اجوفا  وجهولا .

ماكان  لكبوب ان يحكى القصة لولا ما وصلت فى نفسه  وآلمه الجحود واحسه الازدراء بالاهانة لكنه لم يعلق  بعد ذلك  بكلمة .

بينما يبدو  قد اتضح له  ان الوطنية  تلك  كانت  صرحا من خيال فهوى .

وان الاحترام  والتوقير  والتقدير  الذى وجده  فى البدئ كان  قد اقتضاه ظرف  زماني بدأ ينفد .

 وعرف ان كل حظه ونصيبه   دريهمات لاتسمن ولا تغني من جوع  ماذا غيرت فى حياته  او في حياة  اقرانه  ماذا  اضافت  ان لم تكن نقصت  من سابق حالهم ؟ .

 ثم مرت الايام  وانتهت المسرحية  تلك كليا واسدل ستارها  .

وتم تبديلها  بمسرحية لاتعرض غير تاريخ الجبهة الشعبية في انتقاء عجيب للممثلين والادوار والاحداث صريح التحويرمكذوب  من اهله قبل غيرهم  مضخم و مدلس .

  ومرت الايام ولم ارى كبوب  حجاج بعد ذلك  حتى سمعت  بوفاته   كادحا بنفسه  فى مزرعته بالقرب من حيث بدأ في مدينة هيكوته  موتا مفاجئا  يبدو انه كان يعمل منهكا خاو القوى لضمان عيشه بعد ان اهملتهم  نهائيا وتناستهم حكومة الشعبية  .

 فتحية  لكل الجنود  المجهولين  الذين بذلوا كل ما فى وسعهم  ولم ياخذوا شيئا .

ولتعد ذكرى سبتمبر تجدد فينا عزيمة هؤلاء الخلص وشعارهم الاول لا بديل للحرية .

 

                                                                    

                                                                                            صالح كرار

                        1/9/2012         

Salehkarrar@gmail.com                                                                     

 

 

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=25524

نشرت بواسطة في سبتمبر 2 2012 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010