تأملات في أطلال روما
فتحي عثمان

تثير روما وإمبراطوريتها الفانية وتاريخها الغني التساؤلات وتولد التأملات. وتزهر أوراق التأملات عندما مشاركتها الآخرين وسقيها بأفكارهم ومشاعرهم؟
أساس هذه التأملات تصور نشأ عندي فحواه أن روما “مدينة خالدة”، ولا أقصد بذلك بقاءها وعدم موتها؛ بل أقصد إخلادها إلى الأرض، والإخلاد لغة هو السكون والميل. فروما شربت وعبت من الأمجاد الدنيوية حتى ثملت فصارت امبراطورية نشوى وأصبحت ركام ذكرى. وفي حالتها تلك تبعتها الإمبراطورية البريطانية البائدة وتحذو اليوم حذوها الإمبراطورية الامريكية.
وفي تأملي هذا تجسد روما تلك الحالة العلمانية الكاملة في الروح قبل الممارسة، ولا أقصد بالعلمانية هنا المفهوم الإجرائي “المدستر أو المقنن” لفصل الدين عن الدولة وإبقاءه في الحيز الخاص بدلاً من الحيز العام. فطقوس التقديس المنزلية الرومانية وليدة الحيز الخاص. فالرومان كانوا يقدسون أسلافهم لسبب جوهري هو إيمانهم بأن هؤلاء الأسلاف وإن ماتوا فإن “أرواحهم” لا زالت باقية. فالروح عند الرومان لا تنفصل عن الجسد بالموت، بل تدفن معه، وعليه فهم يدفنون مع الميت مقتنياته الأثيرة لديه ويضعون له الطعام والورود ليشمها. وأن الأجساد التي لا تدفن تتحول أرواحها إلى “أرواح هائمة ومعذبة” من هنا جاءت فكرة الأرواح الشريرة والأشباح الساعية للانتقام لعدم دفن أجساد أصحابها، لذلك ما كان الرومان ولا اليونان يتركون موتاهم في ساحة المعارك دون دفن، فتلك كانت خيانة عظمي بنص القانون.
واستدعى تقديس الأسلاف إشعال “نار مقدسة” في كل بيت روماني وفي هذا الركن المقدس يحافظ على النار مشتعلة على الدوام وويل لبيت انطفأت ناره. كما يصرح بذلك المؤرخ فوستول دي كولانج في كتابة “المدينة القديمة”.
وبتعدد الأسلاف وتعدد الظواهر الطبيعية وتعدد الحاجات تعددت الآلهة كذلك.
تنبغي الإشارة إلى أن علاقة روما بالسماء كانت منبتة فهي لم تؤمن “بحياة أخرى”، لذلك أخلدت إلى الأرض وبنت مجدها عليها غير أبهة بحياة غير حياة المجد الدنيوي.
وفي هذا يقول أستاذ الدراسات القديمة سيريل بايلي في مرجعه القيم “دين روما القديمة” :” بأن طبيعة الروماني كانت عملية ونزوعه الذهني هو إلى ذهنية المحامي، ولم يكن يحمل للآلهة التي يعبد عاطفة أو إعجاب فكل الأمور عنده يجب أن تخضع لضوابط ومبادئ محددة وحتى “الآيوس ساكروم”، أي الشرائع المقدسة بالنسبة له ليست سوى جسم من الحقوق والواجبات، لذلك ظل الدين عنده يقع في خانة المسائل المدنية وقانون الدولة، لذلك لم يكن مصدر الدين عنده الأنبياء أو الشعراء بل المشرعون وواضعي القوانين” ويمضي بيلي ليؤكد بأن الدين عنده يشبه الالتزام بعقد مدني بينه وبين الآلهة”.
ولم تكن المبادئ الاخلاقية التي يسترشد بها الروماني في سلوكه الفردي والجماعي منزلة أو مصدرها الأنبياء والرسل، بل كانت من انتاج الفلاسفة وبشكل خاص زينون الكيتوني صاحب المدرسة الرواقية الشهيرة، والتي انتمى لها عظماء روما مثل كاتولوس والإمبراطور ماركوس اوريليوس صاحب كاتب التأملات، وكذلك المدرسة الأبيقورية المنسوبة إلى الفيلسوف ابيقور. وكانت مبادئ هذه المدارس هي ضوابط الفعل الفردي والجماعي، فكان من الطبيعي أن تكون الممارسة السياسية الرومانية متشحة بثياب محيطها القانوني اولاً والأخلاقي ثانياً مع اعتبار العسكرة هي الأداة الأكبر لصنع المجد الدنيوي، فهو مجد يقوم على الإخضاع والقهر والإدماج (بلاد الغال واسبانيا وبريطانيا)، شأنه شأن العملية الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية الغابرة.
ولقد كان المؤرخ والسفير البريطاني لدى الولايات المتحدة (1907-1913) اللورد جيمس برايس واعياً “بشرور روما” الإمبراطورية في سعيها للمجد الدنيوي، فأراد أن تقدم الإمبراطورية البريطانية “نموذج إمبراطوري خير” مستفيدة من تجربة روما التي شابها الفساد حتى وصلت إلى مرحلة الانحلال والاندثار.
عاشت روما لاهثة ولفظت أنفاسها وهي تلهث إذ كرعت من المياه المالحة للمجد الدنيوي وتجرعت مرارة نفس الكأس التي جرعتها من اخضعتهم. والصورة التي رسمها لها المؤرخ الكبير لأيامها الأخيرة إدوارد جيبون في كتابه “اضمحلال الإمبراطورية الرومانية والذي ترجمه إلى العربية محمد علي أبو درة، تبدو تراجيدية في ألوانها ولكنها عبرت عن النزع الأخير للإمبراطورية يقول جيبون: “إذا كانت روما قد ظلت قائمة، فإنها ظلت قائمة على أنقاض الحرية والفضيلة والشرف”. وكانت هذه نفس اللحظات التي بدأ فيها المواطن الروماني بالتبرم من لقب “مواطن روماني” والذي كان يعد حلم كل حالم في أصقاع العالم الذي حكمته روما شرقاً وغرباً.
ويبدو أن الحديث عن روما لا ينتهي فهذه ماري بيرد أستاذة التاريخ القديم بجامعة كامبردج تحدد إسهام روما الحاضر دوماً في الحضارة الغربية إذ تقول في كتابها الشهير “إس، بي، كيو، آر: تاريخ روما القديمة” بأن “روما القديمة مهمة. تجاهل الرومان ليس فقط تجاهل للماضي البعيد. فروما لا زالت تحدد فهمنا للعالم وتفكيرنا حول أنفسنا من النظرية العالية إلى الكوميدية الهابطة. بعد مضي 2000 عام، لا زالت روما تسند الثقافة الغربية بالسياسة والطريقة التي نكتب بها وكيف ننظر إلى العالم وموقعنا فيه”
ليس مستغرباً إذن أن يلهب عطش المجد الدنيوي عروق إمبراطوريات اليوم كما أحرق وأحال عروق الماضي إلى رماد. فالمجد الدنيوي هو الإخلاد إلى هذه البسيطة.
وسوف تحفظ الأرض الأطلال وسوف يأتي شاعر ليكتب كما كتب “شيللي” أطلال “اوزيمندياز”، والسؤال هو هل “الأطلال” هي ما انتهت إليه روما حقاُ؟
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=47524