تحرير يوميات المناضل ادريس ابراهيم هنقلا
قدم القائد المناضل إدريس إبراهيم هنقلا يومياته لكل رفاقه في النضال من أجل تحرير إرتريا ولابناء الشعب الإرتري ممن سيعيشون مرحلة ما بعد الكفاح المسلح من أجل أن تكون هذه اليوميات مرآة لمرحلة الكفاح المسلح، وهي بحق كذلك، فقد عرض فيها الأحداث مجردة من أي تزييف، أو تحوير. وقد حاز مركز دراسات القرن الإفريقي على ثقة اسرة الشهيد إدريس إبراهيم هنقلا بأن طلبت من المركز تحرير هذه اليوميات بعد أن احتفظت بها لأكثر من ربع قرن، وهي ثقة نعتز بها ووسام فخر لمركز دراسات القرن الإفريقي.
اعترى تاريخ الثورة الإرترية شيء من الغموض فهو لم يحظ بدراسات عميقة ونجد قمة الغموض عندما ندلف إلى تاريخ جبهة التحرير الإرترية مؤسسة الكفاح المسلح فلا توجد دراسة عميقة تناولت التأسيس والتطور بشكل عميق، كما لا توجد دراسة علمية تناولت بالبحث والتقصي انهيار جبهة التحرير الإرترية وذلك لشح المادة العلمية المساعدة في سبر غور هذا الغموض، وعزوف كثيرين ممن ناضلوا في صفوف جبهة التحرير الإرترية عن الكتابة.
عندما شرعنا في تحرير يوميات القائد إدريس هنقلا شعرنا وكأن كوة في وسط ظلام معتم قد لاحت أمام ناظرينا لتكشف لنا بعضاً من ملامح الطريق المفضي إلي أهم حقبة من تاريخ جبهة التحرير الإرترية بصفة خاصة وتاريخ الثورة الإرترية بصفة عامة، كما عززت لدينا قناعة بضرورة أن يتفرغ قادة جبهة التحرير الإرترية لتحرير مذكراتهم، كل في مجاله وذلك حتى لايضيع هذا الإرث العظيم من تاريخ الشعب الإرتري.
من المحفزات السارة أننا وفي خضم تحرير هذه اليوميات تواصلنا مع عدد من القادة في جيش التحرير، نستفسرهم عن أحداث بعينها، أو تعريف بأفراد، فذهلنا لما يتمتعون به من صفاء الذهن، وقوة الذاكرة الحافظة، مع أن الأحداث قد مضى عليهانصف قرن، وللاستدلال فقط، فقد حاورنا السيد آدم محمد علي أكتي وهو آخر من تبقى من المؤسسين لجبهة التحرير الإرترية لتوثيق بعض الأحداث خاصة المرحلة التي سبقت إعلان الكفاح المسلح فوجدناه حاضر البديهة مرتب الأفكار يروي الأحداث وكأنه قد عاشها قبل سنوات قليه ومثله المناضل عبد الله حسن مما عزز لدينا صدق مقولة أن أفريقيا تحترق فيها مكتبة بوفاة كل معمر.
اليوميات في الأساس هي يوميات مطبوعة بالآلة الكاتبة بهتت وكادت تختفي منها الحروف بسبب طول المدة الزمنية فوجدنا صعوبة في القراءة، كما زاد من الصعوبة وجود أخطاء في أسماء الأماكن لجهل الطابع بها، كما اضطررنا للعودة لكثير من المراجع من كتب ودوريات وأفراد عاصروا الأحداث أو على دراية بالأفراد من أجل مزيد من الشرح والتعريف بالأفراد، فيوميات المعارك البطولية التي خاضها جيش التحرير في النصف الثاني من سبتمبر وكل شهر أكتوبر ومطلع شهر نوفمبر من عام سبع وسبعين لن تكتمل فيها المعلومات ما لم نوضح أن القوات الأثيوبية في هذه المعارك كان يقودها من أسمرا أطنافو أباتي نائب الرئيس الأثيوبي منقستو هيلي ماريام وبمعاونة من خبراء روس، وفنيين من اليمن الجنوبي، وبفشل الهجوم استدعي إلى أديس أبابا وأعدم في 13 نوفمبر 1977م، مما استغرق منا هذا الجهد في البحث والتنقيب وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً امتد لأكثر من عامين، وقد ثبتنا تلك المعلومات في الهامش دون أي تغيير أو تدخل في المادة الأصل.
بدأ المناضل إدريس هنقلا في تدوين هذه اليوميات في مطلع عام 1977م بشكل يومي ومتسلسل وحتى مطلع أكتوبر 1982م، تشكل هذه الفترة اهم مرحلة في تاريخ جبهة التحرير الإرترية، وهي مرحلة أوج صعودها في النضال الوطني التحرري بتحرير كامل الريف الإرتري ومعظم المدن، وإلحاق الهزيمة بالجيش الأثيوبي، وغدت جبهة التحرير الإرترية على مشارف إنجاز الاستقلال الوطني في مطلع عام 1978م، غير أن تدخل الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي بدعم نظام منجستو منذ عام 1975م ومده بالعتاد العسكري، والمشاركة معه في العمليات القتالية من خلال الخبراء، والمستشارين العسكريين، والطيارين، بل حتى جنود، فقد كان في أثيوبيا في تلك الفترة جنود كوبيين قاتلوا مع القوات الأثيوبية مما أجبر الجبهة على الانسحاب من المدن المحررة، حين شن الجيش الأثيوبي في منتصف يوليو من عام 1978م هجومه الاستراتيجي، مدعوما من قبل السوفييت، والكوبيين، وأوروبا الشرقية، وليبيا، واليمن الجنوبي وذلك بعد النصر الذي حققوه في أوقادين، غير أن جيش التحرير الإرتري استطاع امتصاص زخم هذا الهجوم، في معارك خاضها فيما تبقى من العام 1978م وطوال العام 1979م في الوحدات الإدارية رقم واحد(سيتيت القاش)، واثنين (أسفل بركا)، وثلاثة (أعلى بركا)، وخمسة(شرق الساحل)،
وستة (شمال الساحل)، وثمانية (حماسين)، وتسعة (سرايي)، وعشرة (أكلو قزاي)، وأحد عشر (دنكاليا)، ليستعيد من جديد زمام المبادرة وينتقل إلى الهجوم في عام 1980م. اليوميات التي بين يدينا سجلت لنا هذه الأحداث بشكل يومي، معارك تحرير المدن، ومواجهة الهجوم الاستراتيجي الأثيوبي، وقرار الانسحاب التكتيكي الذي اتبعته قيادة جيش التحرير الإرتري الممثلة في هيئة الأركان العامة، ثم الانتقال إلى الهجوم المعاكس وحصار الجيش الأثيوبي في المدن والبدء بتحريرها، فاستعاد تحرير قلوج من أجل قطع طريق الإمداد عن باقي القوات الأثيوبية في تسني، وبارنتو عن خلفيتها وطريق إمدادها القادم من قندر، ثم كانت محاولة استعادة مدينة أقردات في أكتوبر 1979م في عملية تكتيكية تهدف إلى عزل القوات الأثيوبية في مدينتي بارنتو وتسني ومن ثم تحريرهما وتحطيم المحور الغربي للهجوم الاستراتيجي الأثيوبي.
كذلك سجل كاتب هذه اليوميات وبشكل تفصيلي مرحلة انهيار جبهة التحرير الإرترية حين شن تحالف الجبهة الشعبية ووياني تجراي حرب تصفية على جيش التحرير وجبهة التحرير الإرترية وإجبارها على عبور الحدود الإرترية إلى السودان. دونت لنا هذه اليوميات من خلال السرد اليومي للأحداث صورة شبه كاملة للأسباب التي أدت إلى انهيار جبهة التحرير الإرترية وبشكل تفصيلي ودقيق، بسبب الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها قيادة الجبهة بشقيها، القيادة التشريعية والمتمثلة في المجلس الثوري، والذي تقاعس في عقد المؤتمر الوطني الثالث في موعده، بل تهرب من عقد أي اجتماع دوري وطارئ، والجبهة تواجه الانهيار، وهذا سنراه في نهاية هذه اليوميات حين ألحت قواعد الجبهة على أعضاء المجلس الثوري بعقد المؤتمر الوطني الثالث، ثم مطالبة القواعد بإلحاح على عقد اجتماع المجلس الثوري لمواجهة انهيار جيش التحرير الإرتري لنرى وبشكل مخزي تهرب أعضاء المجلس الثوري من عقد الاجتماع، ولا يجد المراقب سببا لهذا التهرب إلا خشية المحاسبة.
كذلك القيادة التنفيذية التي ارتكبت أخطاء استراتيجية حين لم تأخذ بالتقييم الدقيق الذي خرجت به السمنارات التي كانت تعقد، وشخصت التحركات التآمرية التي كانت تدبرها الجبهة الشعبية مع حليفها الطائفي وياني تجراي، من خلال المعلومات التي كان يوفرها جهاز الاستخبارات العسكرية حول هذا التآمر، وهي معلومات في منتهى الدقة، تنم عن كفاءة مهنية كان يتمتع بها هذا الجهاز، وهذا ما وجدناه من تطابق في المعلومات بشكل يكاد يكون متطابقاً مائة بالمائة، حين تسنى لنا الاطلاع على مذكرات قادة وياني تجراي التي طبعت قبل أعوام قليلة، وتوفرت لدينا هذه المعلومات الآن في هذه اليوميات، كانت تلك المعلومات تحذر باستمرار من هذا التقارب وخطورته على جبهة التحرير الإرترية، كما لم تتخذ القيادة التنفيذية قرارات رادعة أمام تحرشات الجبهة الشعبية والتي كانت تهاجم جيش التحرير الإرتري من الخلف وهو منهمك في مقارعة العدو.
وقد سجلت لنا اليوميات هذه التحرشات من عام 1977م وبشكل يومي حتى دخول الجبهة للأراضي السودانية، ومع ذلك كانت قيادة الجبهة متمسكة باتفاقية
20 اكتوبر 1977م الوحدوية مع الجبهة الشعبية، بينما كانت الجبهة الشعبية تهدف من هذه الاتفاقية الوصول إلى حليفها وياني تجراي لتصفية الجبهة.
كذلك ارتكبت القيادة التنفيذية أخطاء استراتيجية على الصعيدين الداخلي والخارجي بتصفية قوات التحرير الشعبية الثانية في نهاية العام 1978م، وعدم المحافظة على العلاقة الاستراتيجية مع العالم العربي وهذا ما سجلته هذه اليوميات في تقييم العلاقة مع الدول العربية وعدم التقدير الصحيح لدور وحجم السودان المؤثر. ايضاً ارتكبت القيادة التنفيذية خطأ استراتيجياً بإسناد قيادة جيش التحرير الإرتري إلى لجنة ثلاثية تتكون من توتيل، وملاكي تخلي، وإبراهيم محمد علي، في قرارها الصادر في العاشر من سبتمبر 1980م وإبعاد عبد الله إدريس من رئاسة المكتب العسكري مما أوجد حالة من الارباك والفوضى في صفوف جيش التحرير الإرتري مكنت الجبهة الشعبية وحليفتها وياني تجراي من إلحاق الهزيمة بجيش التحرير الإرتري بسبب عدم خبرة القيادة الثلاثية في قيادة جيش التحرير الإرتري أمام التحديات التي كان يواجهها، لنجد القيادة الثلاثية تنسحب بكل هدوء ويعيد المكتب التنفيذي عبد الله إدريس إلى موقعة ولكن بعد فوات الأوان. كذلك سجلت لنا هذه اليوميات الانقسام الرأسي الذي حدث في المكتب التنفيذي والمجلس الثوري بعد دخول الجبهة إلى الحدود السودانية في مسألة تسليم السلاح للسلطات السودانية بين من يرغب في إلقاء البندقية وتسليم سلاحه، ومن يرفض التسليم ويصر على استمرار النضال المسلح، وانعكاس ذلك الانقسام على قاعدة جبهة التحرير مما أدى إلى انهيار الجبهة.
المناضل إدريس هنقلا سجل في يومياته هذه يوميات مقاتل جيش التحريرالإرتري سواًء على مستوى القيادة من رئاسةالمكتب العسكري، وهيئة الأركان العامة، وأجهزة المكتب العسكري، ووحدات جيش التحرير الإرتري، وحتى المقاتل في صفوف جيش التحرير الإرتري بشكل تفصيلي، ليعطينا صورة كاملة وتفصيلية لحياة مقاتلي جيش التحرير الإرتري بكل جوانبها من الانتصارات ولحظات الانكسار، وشجاعة المقاتل الإرتري وإيمانه العميق بعدالة قضيته الوطنية، وعزيمته على إنجاز الاستقلال الوطني مهما غلت التضحيات، والعلاقات النضالية بين مقاتلي جيش التحرير الإرتري المفعمة بالنهج الثوري، كما سجل لنا العلاقات الاجتماعية بين المقاتلين.
تعكس لنا هذه اليوميات الروح الثورية التي كان تتحلى بها قيادات ومقاتلي جيش التحرير الإرتري، ومستوى غير مألوف من التضحية والتجرد ونكران الذات، هذه اليوميات سفر ناصع لعدد كبير من مقاتلي وقادة جيش التحرير الإرتري وردت أسماءهم في هذه اليوميات فقد حفظت لنا هذه اليوميات بطولات. وتضحيات هؤلاء الابطال الذين كاد يطوى تاريخهم بسبب الإهمال والجهل. هذه اليوميات وثيقة تاريخية في غاية الأهمية فهي في الأساس برقيات تصدر من المكتب العسكري، أو هيئة الأركان العامة، أو المكتب التنفيذي، إلى قادة جيش التحرير الإرتري، تتضمن الأوامر، والتوجيهات، والقرارات العسكرية، وتحريك وسحب الوحدات، وكذلك رفع التقارير اليومية والشهرية من هذه القيادات إلى قيادة جيش التحرير.
المناضل إدريس هنقلا استشهد في 20 سبتمبر من عام 1985م وهذه اليوميات تنتهي بنهاية العام 1982م مما يعني أن هناك فجوة تقرب من ثلاث سنوات غير موجودة، هذه الفترة من اليوميات اختفت عقب اغتيال المناضل إدريس هنقلا حين قامت قيادة التنظيم باستلام الأوراق والمفكرات والكراسات التي كان يدون فيها الشهيد الأحداث اليومية بحجة تأمينها لتختفي بعد ذلك.
في الختام لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر لأسرة الشهيد القائد إدريس هنقلا على احتفاظها بهذه اليومات إدراكاً منها لأهميتها، وأنها ملك لكل مناضل إرتري ناضل في صفوف جيش التحرير الإرتري، كما أخص بالشكر كل المناضلين الذين امدونا بالمعلومات وبصفة خاصة المناضل عبد الله حسن الذي أمدنا بمعلومات مهمة في التعريف بالمناضلين، كما ساعدنا في رسم الخرط الذهنية لتطور جيش التحرير على الصعيد التنظيمي من سرايا فكتائب فألوية، وتطور الأجهزة فيه وكيفية عملها خاصة التوجيه المعنوي والمفوضين السياسيين، وفي الختام نرجو أن نكون قد وفقنا في تحرير هذه اليوميات.
اليوميات طبعت بشكل بهي في 438 صفحة وفي متناول يد القراء
أ/عبد الله إسماعيل آدم
مدير مركز دراسات القرن الإفريقي
20 سبتمبر 2020
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=44501
أحدث النعليقات