تحول المهرجانات الارترية بالخارج من ظاهرة اجتماعية وثقافية إلى مهرجانات للتسول
20 ديسمبر 2005
لا شك أن الفن والتراث الإرتري لعب دوراً هاما في دعم الثورة الارترية بطريقة مباشرة حيناً وغير مباشرة أحيانا أخرى، حتى كان مهرجان بولونيا الشهير الذي مثل قمة العطاء الفني وابرز مشاركة الفن الإرتري الحاسمة في النضال ضد المستعمر، باعتباره سلاحا تحريضيا استخدمته الثورة الارترية بذكاء لكسب الدعم والتأييد الضروريين لإنجاز مشروع الاستقلال.
إن مدينة بولونيا الإيطالية التي احتضنت لحوالي اثنين وعشرين عاما مهرجان ارتريا الذي سمي باسمها ( مهرجان بولونيا) سيظل اسمها مرتبطا بتاريخ نضالنا التحرري وخاصة مشاركة الفن والتراث في مرحلة اتسمت بخصوصيتها، فهذه المدينة التي تبعد حوالي 407 كلم شمال العاصمة الإيطالية روما والتي تتميز بهدوئها النسبي بالمقارنة مع المدن الأوروبية الأخرى فان طابعها الثوري ونزعة سكانها اليسارية وانتماء اغلبهم للفكر الاشتراكي التقدمي المؤيد لحركات التحرر في العالم الثالث دفع الناشطين الارتريين في أوروبا لتنظيم مهرجان سنوي لدعم القضية الارترية دون التفكير في ربط المهرجان بأي من التنظيمات الارترية المتناحرة حينها. وقد شارك في المهرجان الأول الفنانون الإرتريون المقيمون في المهجر بالإضافة إلى فرق الجاليات الارترية في أوروبا.
وعلى الرغم من الحياد الذي ظهر به المهرجان في بداياته إلا أن العائد المادي كان يجد سبيله إلى خزينة الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا نظراً لسيطرة كوادر من الجبهة الشعبية على لجنة تنظيم المهرجان. ولم يمضى وقتا كثيرا حتى بدأت الجبهة الشعبية بعد انفرادها بالساحة الارترية في إيفاد مسئوليها من الميدان إلى المهرجان للاجتماع بالإرتريين المشاركين في مهرجان بولونيا، وكان سبحت افريم أول مسئول من الجبهة الشعبية يشارك في المهرجان بولونيا 1979م.
مع النجاح الكبير الذي بدأ يحققه المهرجان فان الجبهة الشعبية بدأت في منتصف الثمانيات بإرسال فرق فنية متكاملة من داخل الأراضي المحررة وتوسعت مشاركة الارتريين في المهرجان من جميع أنحاء العالم حيث لم يقتصر زوار المهرجان على الارتريين القاطنين في أوروبا وحدها بل انضم إليهم الإرتريون المقيمون في الولايات المتحدة وكندا والخليج والدول العربية ليتحول مهرجان بولونيا إلى تظاهرة اجتماعية وثقافية تجمع الارتريين في المهجر وتشكل مصدر أساسي من مصادر الدخل المادي والتعبئة والدعاية واتيحت للإرتريون الذين لم يشاركوا في المهرجان فرصة مشاهدة وقائعه عبر أشرطة الفيديو التي كانت الجبهة الشعبية تسوقها في مختلف بلدان العالم.
بعد تحرير كامل التراب الإرتري ودخول الشعبية إلى اسمرا وانشغالها بحكم البلاد والعباد قررت تنظيمه للمرة الأخيرة عام1991م في بولونيا وفاءً للمدينة التي استضافت فعالياته لسنوات طويلة، نقلت بعدها كامل الأرشيف التابع للمهرجان إلى ارتريا على أن يقام المهرجان سنوياً في ارض المعارض بالاكسبوا في العاصمة اسمرا. وهكذا أسدل الستار على حقبة مهمة من المهرجانات الارترية في الخارج وبدأ الإرتريون سنويا من السفر إلى بولونيا للمشاركة في المهرجان التوجه إلى ارتريا حيث يزداد تواصلهم مع الأهل والأرض والوطن وشهدت سنوات التحرير الأولى إقبالا كبيرا من الارتريين في الخارج بداء يقل تدريجيا بسبب ما لاحظوه من تدهور كبير في أسلوب إدارة الجبهة الشعبية للبلاد.
قد يتساءل المرء ما الذي دفع الجبهة الشعبية إلى العودة إلى تنظيم المهرجانات في الخارج؟
في عام 1994 تغير اسم التنظيم من الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا إلى الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة ليصبح الحزب الحاكم الأوحد في البلاد مستفردا بالحكم حارما كل القوى الارترية الأخرى التي ساهمت في مرحلة الكفاح من اجل الاستقلال من المشاركة في السلطة، وكان من المتوقع أن يعقد الحزب مؤتمره التالي في عام 1997م إلا أن ذلك لم يحدث لأسباب عديدة من أهمها أن قيادة الحزب وبسبب الانتقادات الداخلية الكبيرة التي كانت تتعرض لها جعلتها تمتنع عن عقد المؤتمر تخوفا من فقدان سلطتها عبر اختيار قيادة جديدة تكون أكثر وفاء لتضحيات الارتريين الكبيرة التي قدموها خلال فترة النضال. وبسبب عدم تغيير نهج الجبهة الشعبية الانعزالي وعدم إتاحة المجال أمام القوى الارترية الأخرى للمشاركة في العملية السياسية في ارتريا فان التنظيمات والقوى السياسية الارترية استمرت في إقامة مهرجاناتها في الخارج. وبرز مهرجان كاسل كأحد أهم المهرجانات الارترية التي كانت تنظمها قوى المعارضة، وقد حظيت هذه المهرجانات بإقبال جماهيري كان يزداد يوما اثر آخر بسبب تزايد القمع في الداخل وابتعاد الجماهير الارترية عن النظام.
وباندلاع النزاع الحدودي بين ارتريا وإثيوبيا في عام 1998م رأى النظام أن الفرصة اصبحت مواتية مرة أخرى لكسب تأييد الارتريين في المهجر وسحب البساط من قوى المعارضة الارترية فقام بتفعيل ودعم مهرجاناته التى كان ينظمها سنوياً في عدد من المدن الرئيسية في أوروبا والولايات المتحدة وكندا، ورغم احتفاء الجماهير الارترية بهذه المهرجانات في تلك الفترة إلا أن ممارسات النظام ونهجه الدكتاتوري وما أوصل إليه البلاد أدت إلى أن الكثير من الارتريين في الخارج بدأوا يقاطعون المهرجان ويسيرون تظاهرات تكشف وتعري النظام وقصدوا أن يتزامن توقيتها مع انطلاقة فعاليات هذه المهرجانات.
في الحلقة القادمة سنسلط الضوء على مهرجان النظام في استراليا والخسائر التي تعرض لها بسبب انتفاضة الجالية الارترية هناك بتنظيمها لمسيرات سنوية اصبحت ملهما لكل الجاليات الارترية في الخارج.
فرجت .
تحول المهرجانات الارترية بالخارج من ظاهرة اجتماعية وثقافية إلى مهرجانات للتسول
الجزء الثانى
كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال فان النظام عزز في عام 1999م من مهرجاناته التي كان ينظمها في الخارج، والتي كانت تنطلق من العاصمة السعودية الرياض ثم جدة ومنها تنتقل إلى عدد من المدن الأوروبية ثم الولايات المتحدة الأمريكية. ولم تكن استراليا حينها مدرجة ضمن قائمة الدول المستضيفة للمهرجانات نظراً لعوامل تبدو منطقية إذا حسبت بمقاييس الربح والخسارة خاصة المادية والإعلامية والتي هي أهم الأسباب لإقامة مثل هذه المهرجانات.
ويمكن القول إن قلة عدد الارتريين في استراليا لم تشجع النظام في إرسال فرق فنية بتكلفة مادية عالية قد لا يجني من خلالها الأرباح المادية المطلوبة، كما أن علاقة استراليا مع ارتريا كانت مرتبطة بشخص السفير فسها أبراهام والذي كان يقوم بمتابعة المساعدات الإنسانية التي كان يقدمها مكتب المعونة الخارجية للجفاف والإيدز. ولان النظام قرر عدم تعيين سفراء يحملون جنسيات مزدوجة طلب من السفير فسها أبراهام التنازل عن الجنسية الاسترالية والعودة إلى ارتريا ولكنه فضل الاحتفاظ بجنسيته الاسترالية بدلاً من خدمة النظام. وتم تعيين السفير عقباي هبتي مكئيل بدلاً عنه، ولان النظام كان يرى انه لا جدوى من وجود سفارة أو قنصلية قرر الاكتفاء بسفير غير مقيم.
والملاحظ أن العديد من أبواق النظام ظلوا يرددون أن هذه المهرجانات أقيمت خصيصا لإتاحة المجال أمام الجاليات الارترية في الخارج للوقوف مع وطنها خاصة عقب تفجر النزاع الحدودي مع إثيوبيا(1997-2000)، غير أن الجماهير الارترية في الخارج بصفة عامة والموجودة في استراليا على وجه الخصوص لم تكن بحاجة إلى من يذكرها بوطنها، حيث أن استراليا شهدت ولأول مرة اكبر تظاهرة سلمية نظمها الإرتريون في ملبورن دون توجيه أو تدخل من النظام بل كان هناك تنسيق بين القوى المعارضة والمؤيدين للنظام حيث هدفت التظاهرة إلى التنديد بالغزو الإثيوبي للأراضي الارترية كما شكلت لجان لمساعدة الشعب الإرتري المتضرر من تلك الحرب العبثية.
إن خروج الجماهير الارترية في ملبورن بهذا الشكل كان اكبر دليل على مدى ارتباط الإرتريون بوطنهم وقضاياه واستعدادهم الدائم للوقوف ضد كل العقبات التي تعترض تقدمه وازدهاره.
ويبدو أن النظام وكعادته دائما حاول أن استغلال هذا الظرف كما فعل في جميع أنحاء العالم. وبما عرف عنه من نهم وجشع بدأ النظام يخطط في الكيفية التي تمكنه من تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لحزب هقدف الحاكم لذلك عقد سلسلة من الاجتماعات لأجهزته التشريعية والتنفيذية مثل المجلس الوطني الإرتري والمجلس المركزي للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة في اسمرا. وخلال تلك الاجتماعات ظهرت بوضوح الأزمات الداخلية التي كان يعاني منها النظام وبرزت إلى السطح الخلافات الحادة بين رأس النظام والمجموعة الإصلاحية التي اجبرت النظام على الموافقة على إصدار عدد من القرارات من بينها:
1. تنفيذ الدستور المعطل منذ صدوره
2. السماح بالتعددية الحزبية
3. إجراء انتخابات برلمانية وتشكيل حكومة وطنية ينتخبها الشعب
4. عقد مؤتمر الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة خلال ستة اشهر ( اجل منذ 1997 ولم يعقد حتى يومنا هذا رغم مرور 11 سنة)
ويبدو أن راس النظام لم يكن راغبا في صدور مثل هذه القرارات ولكنه وبسبب الضغوط التي تعرض لها حاول شراء الوقت ووعد بتنفيذها لكنه بدلا من تنفيذها كان يخطط للقضاء على المجموعة الإصلاحية وهو ما حدث لاحقا في سبتمبر عام 2001م حيث شهدت البلاد اكبر حملة للاعتقالات استهدفت الوزراء والصحفيين وعدد كبير من الكادر المتقدم للنظام وهكذا عرف الإرتريون أن بلادهم تحولت إلى دولة دكتاتورية مطلقة لا مكان فيها لحرية التعبير ولا مجال لسماع صوت آخر سوى صوت السلطان الذي بدأ في إرسال عدد من كوادره إلى الخارج في محاولات يائسة قصد منها تضليل الجماهير الارترية التي بدأت تعي لما يحدث داخل الوطن.
موسى نائب يحمل بشرة مهرجان ملبورن الأول:
لقد سبق اعتقال المجموعة الإصلاحية والتحولات الخطيرة التي حدثت في البلاد وصول موسى نائب إلى استراليا في مهمة كان الغرض منها كسب تأييد الجالية الارترية هناك والتمهيد لما عرف بمهرجان ملبورن لاحقا. وخلال زيارته تلك عقد موسى نائب عددا من اللقاءات والاجتماعات مع الجماهير الارترية حيث لم يقتصر الحضور على المؤيدين للنظام فقط بل شارك في تلك الاجتماعات حتى المعارضون للنظام الذين أعربوا عن رفضهم للسياسة القمعية التي ينتهجها النظام وطالبوا بإجراء انتخابات عامة كما تسلم موسى نائب شخصيا خلال احد هذه الاجتماعات رسالة تطالب بإطلاق سراح أئمة المساجد ومدراء المعاهد الإسلامية المعتقلين ظلما في ارتريا، وقد وجه عدد كبير من الحضور انتقادات لاذعة للنظام وأعربوا عن عدم ثقتهم فيه. ووعد موسى نائب بإيصال الرسالة إلى الجهات المسئولة وبشر الحضور بإقامة أول مهرجان إرتري في استراليا في يناير 2001م.
لقد ضمت اللجنة ألأولى لتنظيم المهرجان في استراليا عدد من المستقلين ضمن عضويتها في خطوة حاول النظام من خلالها إظهار أن المهرجان لا يخضع لسيطرة هقدف، وقدمت الدعوة للجالية الارترية بملبورن للمشاركة في تنظيم المهرجان. كما جرت عدة محاولات كان ظاهرها توحيد الارتريين من خلال توحيد الجالية الارترية مع أقلية قليلة كانت تتبع للنظام، وفي هذا الإطار عقد اجتماع بين ممثلي النظام وأقطاب من الجالية، وحتى يثبت النظام أهمية الاجتماع ترأس وفده نائب السفير الإرتري في الصين وسفير ارتريا الحالي في السويد المدعو اراى دستا، وخلال الاجتماع طلب رئيس الجالية الارترية حينها الأستاذ عمر جابر إمهاله بعض الوقت للتشاور مع إدارة الجالية، وعقدت الجالية اجتماع جمعية عمومية أفضى إلى اتخاذ قرار بعدم المشاركة في اللجنة المنظمة للمهرجان مع ضمان حرية المشاركة للأفراد. وهكذا أعربت الجالية الارترية في ملبورن عن موقفها الواضح تجاه مهرجان النظام الأول باستراليا.
ومن خلال البيانات التالية يمكن معرفة بعض الحقائق عن مهرجان النظام الأول باستراليا:
الوفد الرسمي: برآسة صالح مكي وعضوية قوال فانو (مسئولة العلاقات الخارجية للحزب الحاكم) والسفير تولدى “ نوكروما” سفير ارتريا في الصين
الفرقة الفنية: فرقة حلاوي وسن
الفنانون: برخت منجستاب، فاتينجا، تانكى، فاطمة إبراهيم، ود شيخ
العازفون: مختار صالح، صلاح عمر، ارون
مقدم الحفل: جندى
التكاليف: أجرة النقل بلغت حوالي 30000 دولار استرالي بعد تخفيضات بتعاون صاحب وكالة سفر في ملبورن، بالإضافة إلى تكاليف إقامة الفنانون في فندق خمسة نجوم لمدة 15 يوماً علاوة على مصاريفهم اليومية ونفقات تأجير أجهزة الصوت والقاعة التي أقيم فيها المهرجان.
تكاليف المهرجان الإجمالية: 95000 دولار استرالي
الدخل: 90000
الخسارة 5000 دولار استرالي
كانت هذه حصيلة أول مهرجان نظمه النظام في استراليا حيث منى بخسارة مادية لم تكن كبيرة ولكن حاول أن يحقق مكاسب سياسية ودعائية ساعدته فيها ظروف الحرب مع إثيوبيا، في الجزء القادم سنحاول رصد المهرجانات اللاحقة والتصدي الكبير الذي واجهه النظام من أبناء الجالية الارترية في استراليا التي أعلنت رفضت أن يستغلها النظام في تحقيق مأربه.
فرجت .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=5720
أحدث النعليقات