تفكيك النسيان – ٦
خرجت من همسات الأهل والخيال المسيطر على ذهني ،و كذلك من عوامل انعكاسات تلك الهمسات ، القائلة : ولاد ،ثم يدور الحديث ،ولا تفتح حلقة النقاش هذه،إلا عندما يكون هناك حدث مهم يتعلق بالثورة ،حدث مفرح أو محزن .وكلمة ولاد، هو رمز يقصد به الثوار .وليس المعنى اللغوي المجرد (اولاد)…
واخيرا خرجت الي واقع ملموس . لا، مكان للهمس والدس ،بعد اليوم . أنا الآن وفي هذا المكان ولأول مرة ،وجه لوجه مع عناصر من جبهة التحرير ، مجموعة بقيادة مسمر جمع في منطقة قدن كراخ..كلهم شباب بعمر الورد لهم شعر افرو مع تقصير جوانب شعر الرأس وعندما رأيتهم وهم قادمون أسرعت واخبرت امي جماعة مسلحين قادمين..ردت مرحبا( اب.. ولاد) . ثم اردفت مرحب جبهة التحرير . وانا مندهش لم انبس ببنت شفة .. بعد أن تركهم على بعد مسافة جاء مسمر وسلم الاهل بحكم العلاقة..رجل فاتح الون متوسط القامة تعلو على محياه ابتسامة مشرقة بعد أن سلم وهوعائد إلي جماعته طلب مني أن أجلس معهم ..لكن امي همست له عندما سمعت الدعوة. لا ادري ماذا قالت له..؟و طلبت مني ان لا اغادر المكان.. وانا مازالت عيوني مفتوحة على الآخر تراقب المشهد ..حتى غادروا المكان بعد أن تناولوا وجبت الغداء …
منطقة قدن كراخ ،ومأتو منطقة تقاطعات لشبكة تواصل لجان الثورة ،عبارة عن منطقة التزويد ،يتزود بها الجنود بالمعلومات ،إذا كان الجندي ذاهب الي أهله يتزود بالمعلومات حتي يتجنب تحركات العدو . واذا كان الجندي عنده أغراض لا يحتاج اليها في رحلته يتركها في هذا المكان ، لان المكان عبارة عن مستودع آمن ..
وإذا كان عائد من الإجازة يتعرف من خلال اللجان أماكن تواجد وحدته العسكرية . لان في بدايات العمل النضالي لم يكن لثورة معسكرات ثابتة ،ووسيلة التواصل والاتصال ، وبتالي مطلوب من الجندي إذا غادر جماعته لسبب ما، ثم أراد العودة الي وحداته العسكرية ، يتبع أسلوب البحث عن جماعته من خلال لجان القرى .
لان الثورة في تلك الفترة من تاريخ نضالها ، كانت تستعين بشبكة من لجان القرى في التواصل مع الشعب و مع باقي اجهزة الثورة ..
انها زيارة موسمية برفقة والدتي فاطمة عبد الله هنقلا. وكانت هذه الز يارة تختلف عن الزيارات المتكررة التي كنا نقوم بها الي مأتو.وكل مرة تذكرني والدتي قبل العودة ان لا اتحدث في هذا الشأن مع زملائي عندما نعود الي كرن .وانا أهز راسي موافقا .تعرف والدتي نوع الصداقة التي تربطني مع زملائي اسفاها قلتا ،وولدييت ميبتوت ، وخاصة اسفاها ، لان تربطنا عوامل كثيرة مع أسرة قلتا .كانوا يمتلكون ماشية مثلنا ،وبتالي اهتمام كلا الأسرتين متشابه وكنا نرعى معا أنا واسفاها ، اثناء اجازة المدرسة ، كنا نذهب بالقطيع المكون من ماعز وأغنام ، الي جبل زبان الاتجاه المواجه الي (بقوو) .
اسفاها شخصية طيبة وكلامه قليل ،لا توجد بيننا أي حواجز ،كان يعرف عني كل شئ ،وأنا كذلك ،كانت تربط بيننا صداقة حميمة .وعندما أغرق في متعت اللعب كان يذكرني بالخلوة ..وانا في طريقي الي الخلوة أضع اللوح في مكان امن من النجاسة وانخرط في اللعبة وأحيانا كنت اتأخر من ساعة الذهاب الي الخلوة ..وكنت اقدم حجج ومبررات الي الشيخ. وكان يتم رفض كل الحجج برغم من تقديم المبررات . كان يتم هذا لتبرير والحجج من اجل إشباع رغبة اللعب مع زملائي الذين يعترضون طريقي بحضورهم الدائم والمغري في نفس الوقت، هو سبب تأخير ي. ويتكرر الحجج والعقاب بخصوص هذا التأخير .
ومادام اتينا الي سيرة الخلوة ،اول خلوة كانت في حي منبر إدريس ،خلوة الشيخ أبو آمنة . وأيضا ذهبت الي خلوة في حي قزاباندا (عد قيشوة) ..اما الخلوة التي ذكرت سيرتها مع اسفاها هي خلوة الشيخ بابور الذي أتى به الشيخ عثمان نبراي ،وأتذكرها جيدا ،وكان مقرها في دار الشيخ عثمان .. الشيخ نبراي معروف عنه في العمل الخير وخدمة الدين الإسلامي ،وانطلاقا من هذا الباب ، فتح الخلوة جاعلا من احدى غرف داره مكان لتعليم القران الكريم .
وهذا العمل الجليل ليس غريبا على الشيخ عثمان . الشيخ عثمان طويل القامة يلبس طاقية وجلابية ناصعة البياض وسروال ،وعندما تنظر الي ملامح وجهه يشع منه الإيمان والوقار ،وكنت أصادفه احيان على ظهر فرس وهو عائد من مزرعته ،وأحيانا يمشي على أقدامه ..وإذا التقته يبادرك بالتحية ،و لن يمر مرورا عابرا، دون ان يترك اثر طيب عليك..
اما ولدييت كنا نلتقي به اثناء اللعب ،وأحيانا كان يرافقنا لجمع الحطب من جبل (سنكيل ) ،هذا الجبل الذي يشقه خط السكة حديد على شكل حزام ، وهذا الخط احيانا يختفي في بطن الجبل وفي اغلب الأحيان يشق طريقه عبر سفح الجبل ويمر فوق وديان صغيرة محملا على جسر ،وتعود بي ذاكرتي الي خضرة تلك الأماكن والأشجار التي تعلمنا فيها كيف نتسلق اغصان الشجر ،وكلما داهمنا العطش كنا نروى ظمأنا من مياه تلك الأودية ،(جاديق )أو من منطقة (ديرّوخ)..
بعد ان توسعت دائرة الحرب والنزوح واللجؤ ،نتيجة هذه الأزمة ،تفرقت بنا الدروب،ولا اعلم الي أين قذفت بهم رياح الحياة ، اسفاها وبقية زملاء الحي . اما والدييت بعد دخول الجبهة التقينا في كسلا ثم في خشم القربة ..
المهم ،لم يحدث ما كانت تخشاه أمي ، الحمدالله ،ربنا أعانني بكتمان السر . وبعدها كانت الزيارت تتكرر ، وأصبحت اعيش في التناقضات مع البيت ،والشارع ،القرية والمدينة .
ومع نمو الجسد والوعي تم حل اللغز . عرفت ان الاهل كلهم ملتزمين بخط جبهة التحرير ، ويتدرج التزامهم ،مقاتل ،مليشيا ،عضو لجنة ، وملتزم عادي..المقاتلين ،إدريس هنقلا ،محمد عبي هنقلا ،ابوبكر عبدالله هنقلا، إسماعيل ابراهيم هنقلا ،ابوبكر إسماعيل عبي هنقلا ،فاطمة عبي هنقلا كانت عضوة في الجهاز الصحي .
أفراد المليشيا ،محمدصالح هنقلا ،محمود عبي هنقلا ، إدريس نور هنقلا ، حامد عبي هنقلا مسؤول لجنة المنطقة ومعه إدريس نور هنقلا …
وسر اللغز كان هناك أفراد من آهالينا عساكر في الشرطة الأثيوبية فأقول لنسفي كيف يقاتلون بعضهم البعض وهم اخوان .وعامل الخوف كان يمنعني ، من ان اسأل والدي ، عندما يقول لي سلم على عمك ،كلما قابلنا احد هؤلاء العساكر في الطريق او في احدى مناسبات الاهل .لان توجد حواجز وبتالي تموت الأسئلة قبل ان تخرج الي الضؤ ، بالرغم من علاقتي المتميزة معه عن بقية اخوتي ،الا إن سلطة الأب وهيبته لا تسمح بالاقتراب ،وطرح مثل هذه الأسئلة الحساسة وخاصة في هذا الشأن .لم نكن مثل أطفال اليوم الذين لا يكفون عن طرح الأسئلة،كيف ،ومتى ، ولماذا ،حتى تتوسع بهم دائرة الأسئلة .
الي جانب هذا اللغز المحير ،كان هناك أيضا عندي تصور في ذهني لا ادري مصدره ، كنت أتصور ان جنود الجبهة يلبسون خلاف الجنود الأثيوبين ،جلابية قصير وسروال واعتقد منشأ هذه الصورة غير الواقعية ،جاءت من الصورة النمطية لإنسان الريف بحكم طبيعتهم الريفية.
ومع مرور الأيام ونمو الوعي ،فعلا تم حل اللغز . عرفت ان هناك خيوط نضالية تربط هؤلاء بالقضية النضالية ويقدمون كل ماتطلبه منهم الثورة .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=46138
أحدث النعليقات