تفكيك النسيان (5)
بقلم : محمد اسماعيل هنقلا
كانت أحد الزيارات مع عمتي عائشة .جاءت لتتسوق الي مدينة كرن .. اثر وعكة صحية المت بها .. لم ترجع في موعدها ،مع جماعتها الذين جاءت معهم .
المهم بعد خمسة أيام تماثلت للشفاء ..وطلبت من أبي أن يسمح لها قائلة : الحمد لله العافية اصبحت تعود إلي ومادام اصبحت بخير لازم اغادر… حاول أن يقنعها ابي أن تمكث أيام أخرى حتى ترتاح أكثر .
ردت: لا تقلق انا بخير والحمد لله ..بعد أن أصرت اقترح أبي أن ارافقها أنا في هذه الرحلة . وتم تجهيز كل ضرورات الرحلة ،وتحركنا عن طريق مقارح في الصبح الباكر . وعندما وصلنا ارنيستو وجدنا مجموعة من الناس ، طريقهم نفس الطريق الذي سوف نسلكه.في هذا المكان يوجد به بئر تتزود منه القافلة بالماء ، وأهل المنطقة أيضا .
وتحركنا مع القافلة ….
وعبر دباق نزلنا ،ومع النزول أصبحت مدينة كرن وراء ظهرنا ،واصلنا السير متجهين نحو بيان وبعد مسافة دخلنا خور بيان ،هناك أخذنا قسطا كافيا من الراحة .
في البدايه كنت اسير بنشاط وهمة وبتدرج بدأ نشاطي يقل ،وإشارات الفتر تظهر على السطح بشكل متسارع حتى سيطر علي التعب، و على كل تصرفاتي…وضربت قدمي اليمنى باليسرى ..وعندما لاحظت عمتي التعب يتحكم في مقود المشي .. بدأت تبث علي الروح المعنوية عبر الحديث الطيب ..: ابشر المسافة المتبقية ليس ببعيدة .خلاص اقتربنا من المكان ..,كدت اقع على الأرض لولا احد رجال القافلة مسك بيدي .
الحمار الذي تمتلكه عمتي كان حمله ثقيل ..كنت اركب أحيانا على سطح الأغراض، وأحيانا كنت امشي على قدمي ،ولولا هذا التناوب ،لواجهت صعوبة اكثر مماحدث لي . أما عمتي صحيح كان واضح عليها الإرهاق والتعب من اثر المرض وتعب السفر .لكن بارادتها القوية تمسح كل تلك الآثار ، بابتسامة ومفردات مشبعة بطاقة حيوية ، تزودني بها ،من حين الي اخر ومعها قطعة الحلوى .انها امرأة فولاذية كأي امرأة ريفية ،تكتسح كل المتاعب والعوائق ،التي تقف عائق أمامها،وتزحف نحو مقصدها ..
أحد أبنائها متزوج كريمتي وكان يعمل في مشاريع قلوج، سائق جرار زراعي. بعد معارك التحرير لجأ إلي منطقة قرقف حتى تهدأ الأوضاع ، وجاءهم خبر ان قلوج عادوا اليها جبهة التحرير…بعد سماع هذا الخبر أعلنوا فرحتهم ،ان قلوج تم تحريرها مرة ثانية من العدو.. وعادوا حتى يعبروا عن فرحتهم فوق شاحنات مقطورات الجرارات. وبصوت عالي يغنون أغاني الثورة. وفي الطريق فاجأهم العدو وحول فرحتهم الي حزن بعد أن استقبلهم بالموت، انتهى المشهد يموت اغلب الركاب. يوم حزين يضاف إلي مأساة الشعب الارتيري…
وأنا برغم من الدعم المعنوي والمادي ، أصبحت اسير بلا وعي،لا ادري كيف ومتى ؟. افترقنا من أفراد القافلة .لان كلما وصل الشخص الطريق الذي يؤدي الي اهلة يغادر مودعا الجماعة ومتمنيا لهم الوصول بالسلامة .حتى وصلنا المكان ، منطقة حامدروخ…. لا أصدق كم كانت فرحتي بأن المشي توقف وجاءت ساعة الراحة . الأسرة التي نزلنا عندها ما قصروا معنا ،قدموا لنا وجبة عصيدة محاطة باللبن الرائب والسمنة . نتيجة التعب لم استطيع تناول الوجبة رقدت على الحصيرة المفروشة على الأرض .ما قادر أقوام النعاس المحمول على سرير التعب…الجماعة معهم عمتي يرددون عبارة خلاص اشرب الحليب ده ،ثم نوم ..لم تكن لي أي رغبة في هذه اللحظة غير النوم ،الذي يحاصرني من كل الاتجاهات. لأن جسدي المرهق لا يفكر في شئ غير الراحة. ودخلت في نومة لذيذة وعميقه .والصباح عندما صحيت وجدت قدمي متورمة، اصبحت عبئ على عمتي ،التي رافقتها من أجل أن أكون لها فزع ،لكن من المؤسف أصبحت لها وجع…
القينا توقيت الرحلة إلي يوم آخر ، نتيجة التعب الذي انهك قوتي الجسدية ..غسلوا قدمي بماء دافئة مخلوطة بالملح…تحسن وضعي في اليوم التالي قليلا …وتحركنا نحو حلحل لم تكون المسافة بعيدة مجرد طلعت جبل ايلوس ،وبعد قليل سوف نكون في منطقة أرأس . الموسم كان منتصف خريف،وما أن وصلنا تخوم القرية ،بدأت تقول عمتي:
-ما شاء الله هطلت امطار غزيرة هذا العام ،والموسم يؤشر بالخير ، انه مختلف عن الأعوام السابقة ..وحتى نصل البيت كلما مررنا بمزرعة ،كانت تحدثني عن المزارع واصحابها ،وكذلك عن اصحاب الأغنام والماعز ،وعن العلامة التي تميز ماشية آل فلان عن آل فلان.
وأنا انتباهي ، واصغائي في تلك اللحظة ،لم يرق الي مستوى رغبتها . لان ادركت قيمة الدرس الذي لقنتني له في وقت متأخر عندما كبرت .. هو عبارة عن درس تربوي، تحاول الأسرة الريفية ان تغرسه على ابنائها ،وعبر الحكايات يتم نقل تجارب الأجداد وفروسياتهم ،وهكذا يرتبطهم إنسان المكان ، بقيمة الأرض الزراعية والمرعى ،وهذه القيم يتوارثونها أبا عن جد..ي …
صحيح وصلنا الي دارعمتي، استقبلونا وقدموا لي كل مستلزمات الراحة .اول ليلة لم أستطيع النوم قضيتها بين خوف وقلق التي سببتها لي أصوات الحيوانات ، صوت عواء الذئب المخيف ،ونباح الثعلب ، حبست أنفاسي تحت سحابت الخوف والغطاء الذي يغمرني بكل الاتجاهات .وتردكلاب القرية ،الحاضرة دئما للتصدي . أصوات الذئاب والثعالب ،تقترب وتقترب من مكان تواجدي ،وهذا الاقتراب لا ادري هل هو نتيجة الخوف أم كان بالفعل حقيقي. وبعدصعوبة الليلة الأولى ،الليلة الاستثنائية ،اصبح الأمر بالتدريج ومع التكرار اصبح الصوت عاديا ،وودعت الخوف جزئيا خلف ظهري .
موقع البيت يوجد بجواره مجموعة أكواخ لأسر أخرى تربطهم صلت قرابة . سكان المنطقة يسكنون بهذه الطريقة ،كل مجموعة من الأهل تسكن متجاورة . وحظيرة كبيرة للحيوانات أمام الدار في المساء ،تزدحم بالماعز والأغنام . ومجموعة حمير ترعى أمام الدار ،والحمار عنصر مهم في النشطا اليومي . وحظائر محصنة باشجارشوكية يابسة ،مليئة بأعلاف الحيوانات من كل أنواع قصب المحاصيل الزراعية ،والعلف يخصون به في موسم الزارعة الثيران ،اما في موسم الصيف أو الجفاف يقدمون هذا المخزون من العلف الي كل قطعان الماشية .. وان اهل القرية في المساء يسوقون حميرهم حتي تأتي محملة على ظهرها بقرب الماء . وفي الصباح يجلبون بها الحطب ،واحيان تقوم بترحيل الأغراض .
وفي الصباح برعاية راعي غادر قطيع الماشية الحظيرة الي المرعي ،بعد ان يفصلوا عنها صغارها ، و يقوم الراعي بتجميعها من حظيرةالاهل. و في هذا الخروج تتقدمها الكلاب ،والكلاب تقوم بمهمة الحراسة .
الدنيا خريف ,ويبدأ بعد مسافة قريبة العشب الأخضر والطري يتمدد بين السهول والجبال ،والراعي يحمل فأس وقربة ماء مصنوعة من جلد الماعز على كتفه ،وشنطة قماش توجد بها زاده اليومي ، وعصا في يده ..ثمة شئ يقلقني وهي مسألة العودة، أصبحت مهموم بها . لا اريد ان يحصل لي مثلما حصل في الرحلة السابقة ..هذه المسافة التي قطعتها مشيا في السابق ،التي عانيت فيها من تعب وتدني اللياقة .كيف سوف تكون مصاعب العودة .. وكلما حاولت الانغماس في ظروف الحياة الجديدة متجاهلا متاعب الرحلة..تلاحقني الذكرى… ألطف يارب….
المهم كنت اقضي معظم أوقاتي مع الراعي في المرعي واستمتع بجمال الطبعية ومعاملته اللطيفة، هو ابن جيرانهم وأيضا تربطه قرابه بهم .وعندما يخرج الصباح الي المرعى ،يدمج مع أغنامه وماعزه ، أغنام وماعز ناس عمتي . وأحيانا كنت اذهب مع ابناء عمتي ووالدهم الي الحقل الزراعي من اجل تنظيف الحقل من الحشائش الضارة للزرع ،وأحيانا كنا نذهب الي مورد الماء ونعبئ القربة المصنوع من الجلد الموجود علي ظهر الحمار بإناء حتى يمتلئ ،وله مكان خاص في البيت على شكل سرير خشبي مغروس على الأرض …
اه، يعود على السطح هموم العودة ويعكر صفاء اللحظة والرعاية الخالص، ونتيجة هذه الرعاية زاد وزني .. مدت إقامتي لم تكن طويلة كانت اقصاها شهر .. حتى جاءت ساعة العودة وتحركت برفقة جماعة من القرية، بعد ان حملتني عمتي بهدايا . الراجل صاحب الحمار وضع كل اغراضي على ظهر الحمار مع أغراضه ..تحركنا الصباح ،وودعت عمتي وزوجها وأولادها وتحركنا وكلما قطعنا مشوار ينضموا إلينا جماعة. والكل قاصد المدنية لأغراض تجارية ،البعض يريد أن يبع المنتوجات الحيوانية ..والبعض يسوق قطيع من الأغنام الي سوق بيع الماشية ،كل واحد قاصد السوق لاغراض مختلفة..وصلنا في الموعد المناسب.. صحيح اني واجهت بعض المصاعب لكن لم تتكرر معي الحالة السابقة ..التي شلت أقدامي واصبحت تضرب قدمي اليمنى باليسرى من شدة الفتر .اوصلني الرجل الي أهلي على حسب الأمانة ونزل الحمولة عن ظهر الحمار وهو يقول: حمدالله على السلامة. وعرفت من الأهل ان هذا الرجل ليس بغريب تربطنا به صلت قرابة .غادر بعد ان احتسى القهوة وهو يقول : ان شاء الله بعد ان اقضي مشاويري، قبل ان اتوجه الي حلحل أمر من هنا ،والآن اسمحولي أغادر ،وغادر متجها السوق من اجل الأشياء التي جاء من اجلها الي المدينة،وأنا تلملمني لحظة السعادة بين اهلي ..واهلي كل واحد منهم يحب أن يسمع اخبار الرحلة..واخبرتهم تفاصيل ما حدث معي من الالف إلي الياء …
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=46095
أحدث النعليقات