تقوربا عظمة الرجولة الصامدة
بقلم المهندس: سليمان فايد دارشح
تضحيات جسيمة تتطابق مع معطيات الثورة وكل حدث يمثل تجديداً للماضي وعلى عمقه تتأصل ذكريات الارترية الشجاعة وتتناقل الأجيال الارترية جراءة وعظمة وصمود المقاتل الارتري في سحابة تقوربا وصقل التجربة دفقاً لينهض عواتي معانقاً أبطال تقوربا
الذين عبدوا الدرب بدماء عطرة عزيرة غالية ربطت التاريخ في ذلك الوقت المبكر بقوة الدم الذي نزف بغزارة على أرض المعركة الخالدة…
فقد مثلت تلك الملحمة كل عنفوان ارتريا وتمصميم ارادة التحرير التي لا تعرف المستحيل، وأيضاً كانت عنواناً يرمز الى الكفاح المسلح المتصاعد وراية خفاقة تتلون بصورة الفداء والبطولة وجاءت معركة تقوربا التاريخية لتجسد المعنى ولتعزز من القدرات النضالية والعطاء المتواصل للمقاتل الارتري، لتؤكد بأن ادارة الشعوب وتصميمها على انتزاع النصر لا يمكن أن تقهر.
جرت حوادت هذه المعركة يوم 15 مارس عام 1964م على نهار كامل في منطقة تقوربا غرب أغوردات، شمال مدينة تسني وشمال غرب مدينة بارنتو، حيث قرر الجيش الاثيوبي النظامي (طورسراويت) المسلح تسليحاً حديثاً ومدرباً تدريباً عالياً أن يجعل من هذه المعركة، معركة فاصلة لكي يريح نفسه من القلق المستمر ويخمد لهيب الثورة الارترية المتصاعد في مهده.
ولكن ساءهُ التقدير فخسئت أماله وعجزت مشيئته بفضل قوة الارادة الارترية المنتصرة لإقتلاع أخر نبت وجزع أثيوبي من الارض الارترية.
وروى لي قائد معركة تقوربا المناضل الشهيد محمد علي ادريس أبو رجيلة أدق التفاصيل عن هذه الملحمة بدءاً من تلقي إشارة تحرك قوات العدو وصولاً إلى إنتهاء المعركة، والحديث مع القائد أبو رجيلة تختفي فيه الانانية ويتسامى الإيثار، فأحاديثه عن رفاق الدرب والشهداء يكون أكثر إفاضة والكلام عن الذات الذي لا يأتي الا في الضرورة القصوى يكون أكثر اقتضاباً.
ويقول القائد الشهيد محمد علي ادريس أبو رجيلة حول هذه المعركة: (شهدت الارض الارترية العديد من المعارك البطولية النادرة حتى تبدوا كل معارك التحرير ملاحم بطولية نادرة إلا أن معركة تقوربا لها ما يميزها في سجل معارك التحرير، لأنها أول معركة هجومية عسكرية مع قوات العدو الأثيوبي الخاصة، استطاع جيش التحرير الارتري أن ينتزع النصر المؤزر من هذه القوات التي تفوقه تجهيزاً وتسليحاً وعدداً، وأيضاً كان لمعركة تقوربا الدور الكبير في رفع الروح المعنوية لمقاتلي الثورة في الاستمرار والصمود والصبر في ذلك الظرف الصعب والشاق، ولم تكن هذه المعركة إلا عنواناً للصناديد الذين جسدوا ملاحم البسالة القتالية للثورة الارترية… انبهر جيش الامبراطور الاثيوبي في هذه المعركة بارادة الثوار القوية والذين لقنوه أشد أنواع الهزيمة والحقوا به هزيمة ساحقة في الأرواح والعتاد، وخسر الجيش الاثيوبي في هذه المعركة (64) ضابطاً وجندياً واستطعنا رد العدو على أعقابه يجر وراءه أزيال الهزيمة النكراء الى مدينة هيكوتا التي تحرك منها لشن هجماته على الثوار… فقدنا في هذه المعركة سبعة عشر شهيداً عانقوا كل شبراً من الارض الارترية والتمسوا العذر للبندقية التي فارقوها وأيديهم ضاغطة على الزناد وأنفسهم مشقوفة بالأمل والحياة… وقد حاول الجيش الاثيوبي المهزوم أن يخفي هزيمته الفادحة في هذه المعركة وأدع أنه أخمد لهيب الثورة وقام بالتمثيل بجثث الشهداء من خلال وضعها في مقدمة الدبابات المجنزرة وتعليقها في الساحات العامة على امتداد المدن الارترية من أجل خلق حالة من الرعب والفزع إلا أن هذا الأمر زاد من إرادة وحماس الشباب الارتري للالتحاق بالثورة دفعة بعد دفعة وفوج بعد فوج. وبذلك مكنت تلك المعركة من تأجيج الحماس الوطني وتعاظم العنفوان الثوري وتعالي شعارات المحافظة على العهد والتمسك بمواصلة المسيرة الكفاحية التي بدأها عواتي حتى التحرير) انتهى حديث الشهيد القائد أبو رجيلة.
حقاً كما قال قائد معركة تقوربا كانت معركة حافلة بالمعاني والخبرات والدروس الغنية، فقد توهجت فيها روح الوحدة وارادة التحرير وارادة النصر كأروع ما تكون.
فوق كل ذلك عبرت تقوربا عن روح التحدي الماردة والارادة لدى المقاتل الارتري، حيث أثبتت بطولة فذة قلبت الموازين لصالحه بينما كانت هذه الموازين عدة وعدداً لصالح العدو الاثيوبي… وعندما نتحدث عن ملحمة تقوربا التاريخية نقف بكل فخر واعتزاز أمام بطولات أبطال تقوربا من الرعيل الأول لجيش التحرير الارتري الشهداء منهم والأحياء، الذين بذلوا الأرواح رخيصة فداءً للوطن والعرض في ساحات النضال على ثرى ارتريا، وخلدوا لمن بعدهم تاريخاً ناصعاً كتب بمداد الدم الغالي ثباتاً وتضحية وإيثاراً لينهل منه أبناء ارتريا جيلاً بعد جيل وليعرفوا كيف جسد شهداء معركة تقوربا معنى الولاء والانتماء والفداء للوطن الغالي، وأن يتذكروا على مر الأيام والسنين أن ما تحقق من حرية وكرامة للإنسان الارتري كان بفضل الشهداء وهم الذين بلغوا بالشعب الارتري الى قمة المجد والنصر المؤزر.
وذكر لي المغوار قائد معركة تقوربا التاريخية محمد علي ادريس أبو رجيلة بأن الثورة قدمت في ذلك اليوم المشهود قرباناً ومهراً للحرية الشهداء التالية أسمائهم:
1. عثمان علي عافة ادريس همد.
2. ادم ادريس فوجاج.
3. الحسن حريراي حاج همد.
4. شريف شربوت.
5. اسماعيل كنا.
6. عثمان محمد حسن.
7. ادريس محمد علي دافوت.
8. لباب محمد.
9. أحمد محمد عبد الله عنتر.
10. عثمان محمد نور.
11. عثمان علي أفاددا.
12. علي ادريس جمع خير.
13. صالح محمد أكد .
14. الحسين ادريس محمد شريف.
15. صالح نور.
16. محمد عمر محمود.
17. ادريس محمد.
علقت سلطات الاحتلال جثث هؤلاء الشهداء في الساحات العامة في المدن الارترية (ستة شهداء في مدينة أغردات – وستة شهداء في مدينة كرن – وثلاثة شهداء في مدينة بارنتو – واثنين شهيد في مدينة هيكوتا) وتركتها تتعفن وتتمزق وكانت تستهدف من خلال هذه الاساليب الوحشية والمنافية للمبادئ والقيم الانسانية، أن ترهب الشعب الارتري وتجبره على التخلي عن دعمه للثوار.
ولابد من الاشارة هنا بأنني حاولت أن أعرف من قائد معركة تقوربا ومن الرعيل الأول، جثث الشهداء التي علق في ساحات كل مدينة من المدن الارترية، ولكن للأسف لم تكتمل الأسماء لدي وسوف أعمل في المستقبل بإكمال هذه الأسماء حتى يتم تخليدها في ساحات تلك المدن التي علقت فيها جثث الشهداء.
وبالرغم من هذا المصاب وهذه الخسارة الكبيرة بفقدان أولئك الأبطال في زمن كانت الثورة الارترية في أمس الحاجة لنضالاتهم المتواصلة والرائدة، وبالرغم من أحزان الأمهات ودموع أسر الشهداء وهم يشاهدون جثث أبنائهم يعبث ويمثل بها بهذه الصورة البشعة، إزداد الشعب الارتري الأصيل التصاقاً بثورته وازدادت الثورة لهيبا، وتدافق الشباب من أسر الشهداء بوجه خاص والشباب الارتري بوجه عام لحمل السلاح والسير على الطريق الذي اختطه شهداء تقوربا لتحقيق الأهداف النبيلة التي سقطوا في سبيلها.
وكتب الشاعر المتألق عثمان صالح بره حول هذه الملحمة والمفخرة التاريخية (تقوربا) هذه القصيدة الرائعة:
تقوربا قلادة… وشرف
أنت في صدر الزمان قلادة *** وعلى جبين الدهر أمجاد تجدد
وعلى الربى والبوادي ملاحم *** وفي عتمة المأسي أنغام تردد
قد دوى صوت المهان فيك صاعقاً *** وفي ثناك المهين دموع توقد
قال: لن أبقى للغاصبين فريسة *** ولن تبقي يداي بالقيود تصفد
لا ولن تستبيح المشانق عزمي *** لا القمع يوهن عزمي فأسجد
وداعاً لعهد المهانة والشقا *** وما الأمجاد إلا بالدماء تشيد
قد كان المخاض عسيراً مرعباً *** وهاهو فجر البطولات يولد
ولأشعلت ملايين الشموع لأمة *** يحاصرها دجى المآسي فتصمد
أيا شعلة الأبطال هاتي لنا *** من مصب الكرامة عزماً وسؤدد
قالدرب ما يزال وعراً شائكاً *** وما برح الأفق بالغيوم ملبد
بين أنا سوف نمضي قدماً *** وسهامنا الشهباء للأمام تسدد
ونحن نحتفل بالذكرى الخمسون (50) لمعركة تقوربا نستطيع أن نقول بكل فخر وإعتزاز أن المقاتلين من الرعيل الأول الذي خاضوا معارك التحرير الأولى أنهم كانوا من خيرة جنود الأرض البواسل، مهدوا بدمائهم الذكية الطاهرة طريق الثورة وأناروا الطريق في ظلمات اليل الحالك وتركوا ورائهم جيلاً من المناضلين الشرفاء يواصلون المسيرة وينقلون بندقية عواتي من كتف الى كتف ويرفعون راية معركة تقوربا شهيداً وراء شهيد حتى تكلل ذلك بإنجاز الاستقلال التام في العام 1991م وقيام دولة ارتريا التي أخذت مكانها الطبيعي بين الأمم والشعوب في العالم.
نعم لقد قامت دولة ارتريا المعترف بها عالمياً ولكن من المؤسف للغاية عندما تسلم نظام الهقدف دفة الحكم في ارتريا نصب نفسه عدواً جديداً للشعب الارتري وفرض عليه الاستمرار في النضال والتضحيات واللجوء والتشرد، ولم يترك أي عمل يستفز مشاعره الوطنية ويسلب كرامته الانسانية الا وارتكبه علناً، فضلاً عن تحويله البلاد الى اقطاعية لممارسة العبث والقهر العام مستقلاً آلته العسكرية وأجهزته الأمنية لتكريس الدكتاتورية الفردية ونشر الرعب وتكميم الأفواه واعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
إن هذه الممارسات الوحشية بدون أدنى شك هي التنكر لدماء شهداء الثورة الارترية وهي أيضاً تحدي سافر للشعب الارتري بجميع مكوناته الاجتماعية والسياسية كما أنها سرقة واضحة لأهداف الثورة ومبادئها السامية، ورغم هذه الابتلاءات والمآسي إلا أننا نقول أن الشعب الارتري سيحقق إن شاء الله أهدافه ومبادئه وفق شروطه الوطنية دون ركوع أو إذلال، ولم ولن يستطيع نظام الهقدف سرقة مبادئ الثورة وأهدافها من قلوب وعقول هذا الشعب الأصيل الوفي الذي ظهر للعالم بأثره بصورة أسطورية وملحمية ووطنية لم يشهد لها العالم منذ الحرب العالمية الثانية مثيلاً.
وأختم حديثي بهذه المناسبة وأقول: فلتخرج قوى المعارضة الارترية من شرنقة الذات والأنانية والمحدودية الفكرية ولتنظر من حولها، فالعالم تعصف به الويلات والمصاعب والكوارث، والأحداث تتسارع والتحولات والتوازنات الدولية تتغير من حين إلى آخر.
هذا من جانب ومن جانب آخر، نظام الهقدف الهمجي في أسمرا يعربد في البلاد دونما حسيب أو رقيب لأكثر من عقدين من الزمان مجسداً قول فرعون في القرآن الكريم: (ما علمت لكم من إله غيري).
في ظل هذه الأوضاع الماسأوية الداخلية والمتغيرات الدولية لابد أن تعمل قوى المعارضة الارترية بطاقة ومثابرة، فكفى ما ضاع من الزمن وإهدار الجهد، فاذا وحدت – قوى المعارضة – صفوفها وقلوبها وكلمتها وأبعدت الجواسيس والعملاء من بين صفوفها فالطريق ما زال سالك ليستعيد الشعب الارتري كرامته وحقوقه المسلوبة.
تحية اكبار وإجلال في يوم معركة تقوربا العظيم لشهداء الثورة الارترية الذين سكبوا دمائهم الطاهرة الذكية من أجل انبلاج الفجر الجديد في ربوع ارتريا.
والتحية للمناضلين الارتريين الشرفاء الذين يمشون على الشوك في سبيل إظهار الحق والحقيقة ويعملون بلا ملل ولا كلل لإزكاء روح التغيير والمطالبة بالحقوق الديمقراطية.
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=39318
أحدث النعليقات