تمارين في مارسة الواقعية السياسية
بقلم/ صالح محمد
السياسة هي فن الممكن ………… .
العمل من اجل التوصل الى ” الممكن ” في سياق ، زماني ومكاني ، محدد ، وهذا ما يطلق عليه – بكلمات اخرى – الواقعية السياسية . وهي شرط اساسي لنجاح العمل الديمقراطي .
لننتقل من قضاء التجريد الى ارض الواقع المعاش ، . . . وتحديدا ، بالطبع ، الصراع السياسي في ارتريا .
في البدأ سنحاول تقديم صورة بانورامية للخارطة السياسية والاجتماعية . . . .
ارتريا ، كيان سياسي حديث العهد، ويتسم بالتعدد، اللغوي والديني والثقافي والاثني. والتطور غير متوازن بين مختلف الاقاليم . يعاني من الفقر والجهل والمرض والامية والتخلف ،ويتضح الامر اكثر حدة في المنخفضات . . . .
ونحن ، في هذا الصدد ، لابد من الاشارة الى تزايد اعداد اللاجئيين يوما بعد يوم ، لا سيما وان الاغلبية في صفوفهم يشكل الشباب، القوى المنتجة في المجتمع الارتري .
لا شك ان تحرير التراب الارتري شكل صفحة جديدة في تاريخ شعبنا ، الذي كان يأمل ان ينتهي عهد الطغيان وتكريس كافة الطاقات في مواجهة الفقر والجهل والمرض وتعزيزالسيادة الوطنية وبنا دولة المؤسسات ولكن : تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن . فقد اعتمد الجناح المتنفذ في قيادة ” الجبهة الشعبية ” الذي تمكن ، لعوامل داخلية وخارجية ، من الانفراد بالسلطة السياسية ، خيار – الاقصاء – وتصفية القوى والشخصيات السياسية ، سواء كانت داخل او خارج الجبهة الشعبية، وتكريس كافة الطاقات في بناء دولة دكتاتورية .
امام هذا التطور لم يكن امام الفصائل والحلقات والشخصيات السياسية الوطنية ، والديمقراطية ، الا خيار المقاومة .
والآن ، بعد عشرين عاما من الاستقلال الوطني فماذا كانت نتاج نضالات القوى المعارضة للنظام الدكتاتوري ؟
لا تردد في القول بأنها لم تتمكن ، حتى الآن من ان تشكل قوة ملموسة في المعادلة السياسية . ولن نتجاوز الحقيقة اذا اكدنا ان النظام الدكتاتوري ، رغم فشل كافة برامجه ، لا يزال القوة الاساسية في ارتريا .
اذن هناك توفر شرط موضوعي ، وهو شرط لاندلاع الثورة ومن ثم اسقاط النظام الدكتاتوري ، بيد ان ذلك لن يتم الا بتوافر شرط اساسي آخر وهو الشروط الذاتية . وذلك لم يتوفر حتى الآن ،و يتمثل ذلك في غياب القوى السياسية والاجتماعية القادرة على قيادة الشعب لاسقاط الدكتاتورية ، وبناء دولة المؤسسات والقانون .
الا يتناقض هذا القول مع واقع تواجد العديد من الفصائل والشخصيات السياسية التي ترفع شعار النضال ضد الدكتاتورية واقامة البديل الديمقراطي ؟
لا تناقض البتة . . . هناك العشرات من التجمعات السياسية المقاومة ، ولكنه تعدد كمي وليس نوعي . ولا زال غياب البوصلة هو العنصر الاساسي في المسرح السياسي الارتري .
صحيح ان ” التحالف الديمقراطي ” يعتبر انجازا مهما للقوى المناضلة ضد الدكتاتورية . ولكنه انجاز شكلي لمكونات ” التحالف ” لم تتمكن من تحويله الى مفاهيم سياسية مغايرة تماما لمفاهيم الاقصاء والانفراد الذي يتسم به النظام الراهن في اسمرا . وبكلمات أخرى هناك غياب للواقعية السياسية . وذلك يشكل عقبة كأداء امام لملمة الصفوف وحشد كافة الطاقات ،المادية والمعنوية ، للنضال ضد الدكتاتورية ، الذي يمثل التناقض الرئيسي .
منذ عقد من الزمان تتناطح قوى المعارضة في تحديد طبيعة نظام اسمرا .
هناك قوى تعتبره نظاما يجسد دكتاتور الفرد – اسياس افورقي – فاذا اسقط أو تنازل – وفق سيناريو معين – فقد انتهت المشكلة .
وهناك قوى تعتبره انعكاسا لمصالح اثنية ” التقرنية ” . لهذا ترى حشد طاقات سائر الاثنيات الاخرى شرطا مهما لاسقاط النظام . بينما تؤمن قوى اخرى بأن النظام الدكتاتورى يمثل مصالح اجتماعية محددة ، تتمثل في برقراطية عسكرية ومدنية وعناصر مرتبطة بهما .
لا شك ان التوصل الى تحديد موضوعي لطبيعة النظام تترتب عليه نتائج بعيدة المدى ، وتحديدا في وسائل النضال . هل هو اختيار النضال السلمي او العنف المسلح او اتباع مختلف الوسائل طبقا للتقدير الموضوعي لموازين القوى وتطور الاحداث . ومع ذلك فاختلاف الآراء في هذه المسألة لا يشكل نقطة طلاق بين فصائل المعارضة ، اذا كان الكل متفقا حقا على النضال من اجل اقامة بديل ديمقراطي . وفي مسيرة النضال وعبر الحوار الديمقراطي واخذ الدروس والعبر قد يصل الجميع الى رؤية موحدة . وأيّ عمل ” جبهوي ” او ” تحالفي ” يضم قوى سياسية تمتلك برنامج حد اقصى ولكنها تتفق عل برنامج حد ادنى يكون دليلا للنضال المشترك .
وعبر النضال يحاول كل فصيل ان يقنع الآخرين بصحة اطروحاته من خلال العمل الجاد والمثمرومواصلة الحوار الديمقراطي واكتساب ثقتهم . وحذار . . . حذار من ” الفهلوة ” واللجؤ الى الألاعيب وانتهاز الفرص لتحقيق مكاسب وقتية لجزء من من مكونات ” الجبهة ” على حساب الاطراف الاخرى تفسد في النهاية مجمل ” العملية السياسية ” .
ان العمل ” الجبهوي ” لا يعني التنازل عن برنامج الحد الاقصى ولكن الأيمان بالعمل المشترك والصبر وتحقيق انجازات مشتركة . . . والتراكم الكمي سيحقق ، لا محالة انجازا نوعيا .
سأل سقراط تلميذه : ما الشجاعة ؟
اجاب التلميذ : هي الأقدام .
فسأله سقراط : هل الشجاعة ربح أم خسارة ؟
أجاب التلميذ : هي دائما ربح .
فقال له سقراط : اذا كان في الربح رجوع ، تتقدم أم تتراجع ؟
قال التلميذ مرتبكا: لا اعرف .
فقال له سقراط : الشجاعة هو التصرف السليم بغض النظر، اقداما ام رجوعا. على
شرط ان تكون في المحصلة النهائية ربحا .
وعلى نفس المنوال اهدرت قوى المعارضة الارترية طاقات وفرص عديدة في النقاشات العقيمة حول حق تقرير مصير القوميات .
فهناك من رفض هذا الحق نهائيا لأنه يؤدي – حسب قناعاته – الى اضعاف الوحدة الوطنية .
ولكن كيف ينسجم مع منطق الاشياء ان نرفع شعارات ديمقراطية ونرفض مبدأ حق تقرير المصير وهو من صميم الديمقراطية ؟
وطرف آخر يطالب بتأجيل مناقشة هذه المسألة حتى سقوط الدكتاتورية واقامة البديل الديمقراطي . وهذا الطرح مهذب لكنه لا يختلف في الجوهر عن الطرح السابق .
وطرف ثالث يصر على الايمان بحق تقرير مصير القوميات حتى لانفصال . . . ويحاول فرضه كشرط للعمل المشترك . ولكن من يعطي هذا الحق؟ ولمن ؟ واين ؟
الا يعلم هولاء ان فاقد الشيئ لا يعطيه . . . اضافة الى ذلك لا يعني حق تقرير مصير القوميات طبقا للمفهوم الديمقراطي ضرورة الانفصال . قد يعني الحكم الذاتي او اللا مركزي – بمختلف اشكاله – وقد يعني ايضا التوصل الى تعزيز الحكم المركزي ، شريطة ان يكون نتاجا لارادة حرة ونزيهة للجهات المعنية .
ولكن قد تتفق كافة الاطراف ان هناك تطورا غير متوزان في ارتريا وليس هنا ك مشاركة وعدالة في توزيع الثروة والسلطة . وتحديدا لا زالت مسألة الارض في معالجة ديمقراطية ، والحكم اللامركزي ينسجم لواقع التعدد في الانتماءات . ويستمر الحوار الديمقراطي – بشفافية ووضوح – حول المسألة القومية ضمن اجندة النضال الديمقراطي .
هذه وغيرها من القضايا المصيرية – لا سيما الدين والدولة – تتطلب حوارا ديمقراطيا متواصلا تأخذ في لاعتبار ، في المقام الاول ، واقع تعدد الانتماءات وتعزيز مفهوم المواطنة .
الخلاصة :
الواقعية الساسية والتحلي بالصبر واعتماد الحوار الديمقراطي – وسيلة وحيدة لحل التناقضات
الثانوية والخلافات بين مختلف مكونات معسكر الديمقراطية ، هي المداخل الاساسية والوحيدة
للتوصل الى استراتيجية صحيحة . . . ومن ثم حشد الطاقات – المادية والمعنوية – لاسقاط
الديكتاتورية وبناء البديل الديمقراطي .
خير الكلام :
رأي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب .
” الامام الشافعي “
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=15615
أحدث النعليقات