تُكو
قصة بقلم : محمد علي نور حسين
تشير الساعة الى ما بعد الثامنة مساءاً بدقائق ، كُنت قد إنتهيت من إرتداء ملابسي للخروج ولقاء بعض الأصدقاء لنحتفل بأخر ايام لنا في أسمرا فبعد يومين فقط سنغادر للإلتحاق بمعسكر (ساوا) للبدء في التدريب وأداء الخدمة الوطنية وما أدراك ما الخدمة الوطنية في أريتريا ، وانا في غرفتي سمعت صوت أُمي وهي تنادي علي أن أتي لشرب فنجان القهوة الخاص بي قبل أن يبرد , كان جميع أفراد الأسرة مجتمعين .. ألقيت عليهم التحية وتناولت فنجان القهوة الخاص بي ، كان الجميع ينظُر لي خفية .. كنت أعرف إحساسهم وما يريدون ، أعلم انهم يريدون ان يشبعو مني بالنظر إلي ويحفظو معالم وجهي التي من الممكن ان تُنسى مع طول الوقت الذي سأمضيه بعيداً عنهم ، أما أمي فقد كانت تنظُر إلي وهي لا تراني أعلم أنها إخترقتني بعينيها لتصل مرحلة الخيال وجلب الذكريات لتعيش حالة فقدان الإبن الثالث لها قريبا ، لم اتحدث مع أي أحد من إخوتي كنت أُريد أن يتم الأمر بكل هدوء ، أن لا تبكي أُمي ويتبعها إخوتي الصغار أن لا يُعلن الحِداد على رحيلي فأنا عائداً لا محالة فكل من يعرفني يعلم أنني لا أستطيع ألبُعد عن أُمي وعن مدينتي (أسمرا) أبدا ، أُمي هي كل حياتي ، فمنذ أن وعيت عليها وأنا لا أُفارقها أبدا ، أستيقظ من النوم لأجلس قرب المقعد الذي تجلس عليه في المطبخ ولا أتحرك من مكاني إلا لأقوم بجلب شيئ لها او لأنادي على إخوتي لتناول الطعام وبعد أن تنتهي من عمل المطبخ تخرج لتجهز أدوات شُرب القهوة وأنا من يساعدها في ذلك ، كان كل من يرى افعالي وقُربي من أُمي يقول لي أنني أشبه البنات بأفعالي ويجب ان أكُف عن ما أفعل لأكون رجلا قويا ، دائما ما كانت تدافع عني أُمي وتدعوهم ان يهتمو بأمر أبنائهم ويدعوني وشأني ، كبرت وكبر حبي لأُمي ، أما عن عشقي لمدينة أسمرا فهو لا يوصف فعندما أتجول في شوارعها و أجلسُ في مقاهيها وأدخل وأخرج من دور السينما العتيقة أُحسُ كاني في شبه غيبوبة أنتشي كما الدرويش في حلقات الذكر وأنا أكتب هذه ألحروف واصفاً حُبي لأسمرا سرت قشعريرة مملوءة بكل ما هو دافئ وجميل من ألذكريات في كامل جسمي ، سمعت طرقا على باب ألمنزل فإعتقدت أنه أحد أصدقائي ويجب أن أُسرع بشرب فنجان القهوة ألخاص بي للحاق ببقية الأصدقاء ولكن لم يكن ألطارق سوى خالي محمود الذي أتى ليتحدث معي قليلا كما قال .. العلاقة بيني وبينه لم تكن جيدة فقد كان يعمل مخبرا لدى الحكومة وهو شيئ مكروه في بلدنا خاصة مع ألظروف التي تمر بها البلاد ولكن لم يكن يهتم بما يقوله الناس فكما يقول : ألبلد لديها أعداء كُثر ويجب ألقضاء عليهم ، جلس معي وهو يعلم أنني لا أحب أن اتحدث معه في أي موضوع جاد .. خاصة إذا كان هذا الموضوع يخُص مستقبلي ولكن لا أستطيع أن أقول له أن يغرب عن وجهي .. علي أن استمع فقط قال : انه يعتبرني مثل إبنه ويجب علي أن أسمع وأطيع كلامه .. يجب عليك يا تُكو أن تنهي فترة تدريبك في ساوا من غير اي مشاكل وتجتهد في دروسك حتى تستطيع أن تعود لأمك وعن نفسي سأحاول أن يتم توزيعك في أسمرا .. وفجاءة تغيرت ملامح وجهه وأمسى مثل الشيطان وهو يقول لي محذرا : لا أُريد أن أسمع أنك قد هربت أو حاولت ألهروب للخارج عن طريق ساوا .. هل تفهم ؟ ، لم ينتظر اي إجابة مني .. مكملا حديثه : يجب أن تعلم يا تُكو أنك إذا هربت مِثل إخوتك سوف تجلب كل أنواع المشاكل لنا ولأمك خاصة وأنت تعلم ما تفعله الحكومة لكل عائلة هرب إبنها من الجيش .. هل تستطيع أُمك أن تدفع غرامة هروبك أو أن تتحمل السجن لعدم دفعها ؟ أنت تعلم أنها لا تستطيع .. لذى يجب عليك أن تعود الى هنا وتُبعد عنك كل أصدقاء السوء الذين يحاولون إقناعك بالهروب معهم وإذا بلغت عنهم سوف تقوم الحكومة بتكريمك وتكون من المقربين .. أنصحك بأن لا تُدخل أمك في المشاكل فأنا أعلم كم تحبها ، حاولت أن أتكلم أن اقول أنني لم أُفكِر في ألهُروب ولن أهُرب فأنا لا أستطيع أن أترك أُمي وبلدي ولكن لم أستطع فكل كلمة كان ينطق بها كانت تُقيدني وتمنعني من ألإعتراض أو من قول ما أشعر به حتى تجاه حديثه ، خرجت من ألمنزل وأنا لا أعلم ما ألذي حدث لي فحديث خالي كان يتردد في رأسي مثل الإسطوانة .. ألهرب لن يفيدك .. أُمك ستدخُل ألسجن .. ألغريب أنني لم أكُن أفكر في ألهُروب أبدا ولكن حديثه أدخلني في متاهة لا مخرج منها ، سمعت صوت صديقي يسألني ماذا أُريد أن أشرب ومن غير أن أفكر حتى قلت له ويسكي ضحك صديقي وقال لا تمزح قل لي ماذا تريد أن تشرب ؟ أحسست أن صديقي يتمنى أن لا أعيد عليه الجملة ولكن صديقنا الأخر قال وهو يضحك ألم تسمع ما قال أم أنك تُريد أن تُمثل دور ألأخ الأكبر ؟ إنها الأيام الإخيرة لنا في أسمرا يجب علينا أن نستمتع بها قدر المستطاع ، بعد ساعة فقط من الشرب كُنت قد وصلت درجة من السُكر أضحك فيها من دون أي سبب .. خرجنا من ألبار وتوجهنا للملهى الليلي .. وهناك ايضا عاودنا الشرب وبدأنا في الرقص والتعرف على الفتيات .. بعد أن تعرفت على إحدى ألفتيات دعتني للجلوس في الطاولة الخاصة بها هي وصديقاتها كانت فتاة جميلة جدا أعتقد أنني أحببتها لم أكن أريد الإبتعاد عنها أبدا .. كانت ترقص معي انا فقط .. كنا نحاول أن لا نفترق حتى في الرقص لم تكن تبعد عني بل كانت ملتصقة بي لدرجة أحسست فيها بحرارة جسدها وإنتقلت تلك الحرارة لي وأنا لا أملك غير أن أستجيب للطبيعة البشرية .. أحسست أنني قد أكتفي منها بالرقص فقط ولكن كان لها رائي أخر فقد طلبت مني ان نغادر الملهى الليلي .. لم أحاول حتى أن أودع أصدقائي خرجت مسرعا وأنا أبحث عن عربة أُجرة لتقلنى إلى أي فندق في العاصمة ، كانت تقترب مني وتُقبلني كل دقيقة ونحن في عربة الأجرة حتى أن السائق قال لها ممازحا هل تريدين مني أن أنزل من العربة وأتركها لكم ؟ لم اتمكن من الضحك حتى .. كنت شبه مخدر .. نزلنا من العربة وتوجهنا لأقرب فندق في شارع كمشتاتو أعطيت ألرجل الجالس في استقبال الفندق الأوراق الثبوتية وأجرة الغرفة وأنا لا أقوى على ألنظر في عينه فأنا أعلم أن ما أفعله شيئ خاطئ ، صعدنا للغرفة ومن دون اي كلمة بدأنا بتقبيل بعضنا وأنفاسنا تتصاعد وكانت أجمل فتاة وأروع ليلة في حياتي .. هل كنت تعتقد انني سأحكي لك تفاصيل ما فعلناه يا صديقي ؟ يكفي انني دفعت لك اجرة الفندق وادخلتك معي للحظات .. أترك لخيالك إكمال باقي الليلة .
استيقظت من النوم في ذاك اليوم وأنا مستعد نفسيا لأن أخوض تجربة ألذهاب لساوا وبدء تجربة جديدة والتعلم منها .. وجدت أن أُمي قد ملئت لي حقيبتي ببعض أنواع الأكل ألمجفف والعصير والتمر ورتبت لي كل ما أحتاجه في هذه الرحلة ، كان وداعا جماعيا فقد أتى كل من لديه إبن أو إبنة أو حتى صديق في الميدان الخاص بوقوف الباصات التي ستقلنا لساوا ، في الميدان لن تسمع غير البكاء من الأمهات .. وبعض الوصاية من الأباء المتماسكين ظاهريا .. فكل أب يعلم ما سيواجه إبنه في ساوا ولكن حبل الصبر طويل ، تحركت بنا الباصات عازمة أن تُوصلنا ساوا من غير أي تأخير فالمهمة ليست صعبة بالنسبة لها ولكن السائق كان خائفا من التأخير .. ألخوف أساس أي عمل نقوم به في بلادنا .. كان لنا من الخوف نصيب فنحن لم نكن نعلم كيف سيكون إستقبالنا في هذا ألمعسكر الجديد علينا مكانا والقديم تاريخا وحكايات .. وصلنا ساوا حوالي الساعة الثالثة ظهرا وكان الإستقبال عسكريا بصورة كاملة فقد كان علينا ان نحمل حقائبنا على رؤوسنا ونسير بضع كيلو مترات ونحن ننشد خلف أحد الجنود بعض الأناشيد الحماسية .. وبعد أكثر من ساعتين وصلنا الى الثكنات التي سنقضي فيها بقية ايامنا هنا ، القانون الأول في ساوا يجب عليك ان تكون .. أصم .. أبكم .. أعمى .. لتكون بعيدا عن المشاكل وهو شيئ ليس بالسهل في مكان مثل ساوا ، بعد الإسبوع الأول من التدريب بدأت تدريجيا أفهم سياسة المكان .. وأرى بعض الشخصيات المهمة تمر أمامي فاسأل أصدقائي او بعض الجنود عن من أراه وكانوا يردون بكل فخر أنه العقيد فلان او المعلم فلان .. وكل شخص يقول لك أن المدرب فلان من منطقتي وأن المسؤول عِلان من نفس قبيلتي .. شيئ لم أفهمه في ذلك الوقت ، شهر كامل من التدريب والتعب بعيدا عن أُمي وإخوتي والجميلة مدينتي أسمرا لقد بدأت أشتاق .. ولا علاج للشوق في هذا المكان الذي أنا فيه فلن أتمكن من الإتصال بوالدتي بالهاتف ولا أستطيع أن أرى صورة لمدينتي الجميلة .. تبا لهذا المكان ، في يوم كنت أجلس مع رفيقي أمام السكن الخاصة بنا نستجدي الهواء ليمر بنا عله يبعد عنا بعضا من حرارة الجو القاتل فإذا بأحد الجنود يصطحب معه شخصا مكبلا من يديه وهو شبه عاري .. كان للشاب المكبل تصرفات غريبة .. كان يرتجف ويهز رأسه بصورة شبه منتظمة غير ما كان ينطق به من كلام غير مفهوم طبعا إستغربت حالته وسألت رفيقي لماذا لا يدعوه يذهب فالواضح أنه شخص مجنون .. ضحك صديقي ونظر لي قائلا إذا تمكن من الصمود في تمثيله هذا لمدة شهر أخر فسوف يتم ترحيله للمستشفى الكبير في أسمرا ومنها يمكنه أن ياخذ إعفاء من تأدية الخدمة ، النظرة البلهاء على وجهي كانت كفيلة بجعل رفيقي يواصل في شرحه قائلا : أن كل شخص مجنون يُعفى من تأدية الخدمة .. هل فهمت ؟ قلت : ولكنه سيكون مجنونا طيلة عمره ، نظر لي وقال : هل تُريد أن تقضي كل حياتك تؤدي الخدمة الوطنية وتحرم نفسك من كل حقوقك ؟ المال .. الزواج .. الاهل .. وأسمرا ؟ ، لم أرد عليه .. فالرد بالنفي إدانة .. صمت فترة من الزمن وأنا أنتظر منه أن يتحدث في شيئ اخر ولكن تلك الفترة القصيرة من الصمت جعلت من فكرة تمثيل الجنون امرا منطقيا جدا .. إذا أجِدت التمثيلية فسوف أُعفى من تأدية الخدمة وأعود لحضن أمي وشوارع أسمرا ومقاهيها وأجوائها الرائعة .. إبتسمت من دون أن أُلاحظ أن صديقي ينظُر إلي .. ضاحكا قال : لا تفكر حتى في الأمر يا صديقي فمثل هذه الأفعال تحتاج لشخص مجنون أصلا ، ناكرا قلت له : ماذا تقصد بكلامك هذا ؟ انا لم افكر في هذا الشيئ اصلا وأنا أنظر مودعا الشاب المُكبل بالقيود ، بعد ثلاثة أشهر فقط كنت قد وصلت مرحلة أبعد من الجنون ولكن لم استطع البوح بما يجيش في صدري فلكل كلمة الف معنى في هذا الجحيم .
كنت أبحث عن رفيقي في السكن فقد عادت المجموعة التي ذهب معها لجلب الحطب من خارج المعسكر وبينما كنت أبحث عنه سمعت إسمي يُذاع على مكبر الصوت ويأمرني بالتوجه لمكاتب االضباط .. لم أكُن أعتقد أنني في يوم من الأيام قد أدخُل مكاتب الضباط أبدا ولا في كوابيسي الكثيرة ، دخلت المكتب الخاص بالإستخبارات وانا ارتجفُ خوفا .. طرقت الباب مرة واحدة وسريعا سمعت صوتا من الداخل يأمرني بالدخول .. لم أنظر في وجه الضابط الذي يجلس على المكتب من شدة الخوف .. سمعت صوت تحرك المقعد الذي يجلس عليه وفجاءة وجدته يقف أمامي ويسألني هل كنت تعلم بما يدبره صديقك ؟ لم أفهم حديثه ولكنني لم أنطق بأي كلمة ومن دون أن أستوعب أي شيئ من ما يحدث وجدت نفسي أقع على ألأرض من قوة الصفعة التي وجهها لي ضابط الإستخبارات .. من دون أن أشعر جرت دمعة ساخنة على خدي وأنا أقسم للضابط أنني لا أعلم اي شيئ عن ما يقول .. ركلني على وجهي بالحذاء العسكري ولأول مرة أتذوق طعم الدم بهذه الكمية .. كنت في شبه غيبوبة من تلك الركلة وما جعلني لا أستوعب ما أنا فيه أنه واصل ضربي على بطني و وجهي من دون توقف .. دخلت في غيبوبة لمدة يوم كامل وأنا لا أعرف ما فعلت أو ما فعل صديقي في السكن .. إستيقظت في ألمستشفى ألخاص بالمعسكر ومن دون أن أشعر بدأت أبكي كما الطفل التائه عن أُمه .. أتت ممرضة وأعطتني حقنة مهدئة .. بعد ساعة أتى الطبيب وقام بمراجعة وضعي الصحي وقال لي أنني سأكون بخير ولكن يجب علي أن أبتعد عن المشاكل .. لم أفهم حديثه ولكن من الواضح أنه كان يتكلم بصورة جدية ولمصلحتي ، كنت في حاجة لأن أفهم ما الذي حدث وما الذنب الذي إقترفه صديقي حتى يفعلو بي هذا ؟ أعلم انني لن اجد شخصا يقول لي الحقيقة أبدا ولكن الغريب في حالتي أن الضابط الذي ضربني أتى للمستشفى وجلس معي لمدة نصف ساعة تقريبا حكى لي كل ما فعله صديقي .. لم أُصدق ما كنت أسمع ، هل هرب صديقي فعلا وهل حقيقة أنه سرق معه سلاح أحد الجنود ؟ ولكن لماذا ؟ وكيف لم أُحس بما كان يخطط له ؟ لم انطق باي كلمة أمام الضابط عن صديقي ليس لانني لا أريد ولكن لأنني لا أعرف أي شيئ في الحقيقة ، إذا هرب صديقي وتركني هنا أُواجه عواقب هروبه .. تبا له من صديق خائن .. ما هو تعريف الصديق المخلص ؟ عن نفسي أقول : هو شخص لم تواجه ظروف قاسية حتى الأن لتجبره على خيانتك ، خرجت من المستشفى بعد أسبوع وأنا أنوي أن لا أتحدث مع أي شخص في ألمعسكر فقد بدأت فكرة تمثيل الجنون تتملكني وتسيطر علي كليا .. كنت أجلس ألساعات الطوال أنظر في البعيد لعلي أكتشف طريق الخلاص من هذا الجحيم علي أجد أول الطريق لدخول متاهة ألجنون من غير أن أضل داخلها ..أريد البداية فقط .. كيف لي أن أبداء.. ومن أين ؟ ، نسيت أن أذكر لكم أنني بعد خروجي من المستشفى وجدت شريكا جديدا في السكن ينتظر خروجي ليرحب بي .. (إسياس) هو إسم صديقي الجديد في السكن .. كنت أعتقد أنه سيمنعني من ألمضي قدما في مشروعي ولكن إتضح أنه السبب الرئيسي في إنجاح الأمر .. فبعد شهر واحد فقط هرب (إسياس ) من المعسكر قاصدا حدود السودان ، ومن هنا تبدأ رحلتي مع الجنون …
يُتبع
Wedi_ali_jbr@yahoo.com
.
تُكو (2) »
قصة بقلم : محمد علي نور حسين فور هروب (إسياس) تم إستدعائي لمكتب الضباط مرة أخرى .. كنت أعلم ما سيواجهني…
أكتوبر 3 2015 / المزيد
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=35473
أحدث النعليقات