ثورة الياسمين في تونس دروس وعبر

هناك أحداث وأعمال إبداعية تفرض على الناس نفسها وتجبرهم  للتفاعل معها ،لاسيما إذا كان هذا الإبداع يعبر عما يخالج مشاعرهم  ويعكس مصالحهم وتطلعاتهم.  وشهرة تونس من حيث جمال الطبيعة معروفة لدى الشعب الإرتري، حيث تغنى بها الفنان الإرتري الشهير / حسين محمد على   في مطلع سبعينيات القرن الماضي، مشبهًا حبه لإرتريا بتونس الخضراء …. فهل بالإمكان ان نربط نحن في الواقع المعاصر إرتريا بثورة تونس الشعبية ونتغنى بربيع ثوري شعبي ارتري ؟  كما غنى الفنان حسين محمد علي بحب ارتريا و تونس بالتجرى حينما قال :

عَجِّى بُذُوحْ فَتّيَى        كَمْثَلْ تونس الخضرا    (بلادي أحبها كثيرًا مثل تونس الخضراء)

وها هي تونس تلامس مشاعر الإرتريين وتطلعاتهم بثورتها الشعبية وبتوافقاتها الوطنية،التي نقلت تونس من عهد إلى عهد، من شعب الدولة إلى دولة الشعب ، ومن دولة الجيش إلى جيش الدولة ، في تلاحم وطني بين الجماهير وجيشها في شوارع تونس.

فما هي إذا الدروس والعبر التي يمكن أن نستفيد منها كإرتريين من هذه الثورة ونتغنى بإبداعات شعبها في عالم السياسة والفكر، وتمرض شعبها على الظلم والطغيان والدولة البوليسية، ليخلع الديكتاتورية من جذورها ، ولينتقل ربيع تونس إلى بلدان مختلفة عبر موجات ثورية هزت العروش وأربكت الحسابات .

العبرة الأولى

إن الظلم والطغيان مهما انتعش وتطاول زمانًا وبنيانًا وأنصارًا  وجيشًا، لا يمكن له أن يدوم و يتجذر ليصبح قيمة مقبولة، انسانيًّا وحضاريًّا وشعبيًّا ووطنيًّا.

يبقى العدل، مهما كانت القيود والعوائق والترهيب والتسلط، قيمة إنسانية مشتركة، تتطلع إليها  الفطرة  السليمة، والشعوب الحية التي تريد أن تلعب دورا حضاريًّا وإنسانيًّا وتُنافس الأممً بالمناكب في صناعة الحياة الإنسانية الراقية، وبناء  مجتمع متمدن  وحكم رشيد، فإن العدل والحرية  يعتبران قيمًا أساسيًّا لبنائها الإنساني والحضاري .

هذه العبرة التي لمسناها في أحداث ثورة تونس لابد أن تفتح لنا باب الأمل كارتريين، باعتبار أن بين إسياس أفورقي وزين العابدين بن علي فوارق شاسعة في درجات  الظلم والطغيان. فإن نظام بن على، كان يستخدم، على أقل تقدير، الديمقراطية والتعددية المزيفة وآلة إعلامية ضخمة في تسويق أفكاره، وفتح البلاد للسياحة وعمل  لتحقيق ازدهار اقتصادي زائف يُلمع نظامه ويطمأن أصدقائه ويعزز تحالفاته، ومع هذا لم يجد أحدًا يحميه من غضبة ثورية لشعب تونس، بكافة فئاته. ولذا تهاوى نظام بن علي وحزبه وحرسه الخاص. و إسياس أضعف من ذلك بكثير، لذا ما نحتاجه كشعب ووطن لإسقاط الديكتاتور، هو مزيد من الوعي وترسيخ قيم العدل والثقة المتبادلة بين الفئات والهيئات ،عبر التوافق في الرؤية الكلية للوطن بكل مكوناته ومشتركاته العامة والخاصة، أفرادًا وجماعات لتُصبح هذه القيم عاملاً من عوامل التغيير والاستقرار، وعبر عقلية تُقدم مصلحة الشعب والوطن على الحسابات الحزبية والشخصية الضيقة، ولنا في تونس عبرة حيث قال زعيم حزب النهضة، وهو أكبر حزب في تونس، السيد/ راشد الغنوشي ، عندما تركت النهضة الحكم، خسرت النهضة مقاعد الحكومة لتربح تونس الوطن،، وقال ايضا ،،نحن نفضل ان نكون في المقاعد الخلفية في سفنيه تبحر بأمان، بدل أن نكون في مقاعد الدرجة الأولى في سفنية تغرق ،، ليُتَوج مؤتمرها العاشر في عُرسٍ جماهيري ديمقراطي  يَحضُره رئيسُ الجمهورية وأصدقاء حزب النهضة من الداخل والخارج ، بينما كان الحزب، قبل الثورة، مطارد ومشرد في جميع أنحاء العالم.

و في إرتريا، مازال الشعب، بالرغم من كل الصعاب، تنبض في عروقه آمال الثورة وأحلامها وثقافتها في النضال والصمود، وأنه حتمًا سوف يثور ضد الظلم والطغيان، وإن آلام المحن لن تحرق تطلعاته، بل سوف تساعده في رفع نضجه الوطني، وتقوي مطالبه في الحرية والديمقراطية والعدالة، مطالبَ تُعزز مشتركاتُه الوطنية مع مراعاة المشتركات الفئوية  الخاصة التي تُكمِّل المشهدَ الوطني، و لا تكون  خصمًا منه أو عليه في إرتريا الغد.

العبرة الثانية

إذا الشعب يوما أرادا الحياة  فلابد أن يستجيب القدر

ولا بــــــــد لليـــــــــل أن ينجلــي                             ولا بد للقيد أن ينكسر

إن هذه القصيدة الرائعة التي خطرت كلماتها في ذهنية وخيال شاعر تونس الكبير أبو القاسم الشابي، جاءت وكأنها لسان حال كل إنسان يتوق إلى الحرية والانعتاق، ورسم معالم الطريق لشعب تونس والشعوب المستضعفة الأخرى لتكون كلمات هذه القصيدة الخالدة، نشيدًا وطنيًّا وكلمات تجدد إرادة الأمة التونسية عبر شبابها بوسائل عصرية. حقًّا أن إرادة الشعوب لقادرة في كسر قيود الظلم وتحطيم آلات التسلط وعقلية الاستبداد والإقصاء، وإن هذه الإرادة الجمعية في الوقت الذي تشعل فيه مشاعر الجماهير بالغضب في وجه الطغيان وتحطمه من جهة، فهي تنير ، من جهة أخرى، شموع الآمل في النفق المظلم لتبصر الشعوب طريق الحرية، وتحقيق إرادة الأمة الجمعية الواعية  التي تستدعي ماضيها التاريخي الإيجابي المشرق  ، لتتكئ عليه في أوقات الشدة كإرث حضاري تستعين به في التفاعل مع أحداث الواقع المعاش، وتستنير به في استشراف المستقبل الواعد، الذي يؤسس على مطالب الجماهير الحقيقة، وإرادتها الجمعية، المنبثقة من قيمها ومنظمتها الفكرية، ومكوناتها الوطنية حتى يتحقق التغيير الجذري الذي لا يقبل الترقيع وأنصاف الحلول.  وتلك شعلة وعبرة  توافقية وطنية نقتبسها من تونس الثورة التي أبحرت فيها سفينة الديمقراطية عبر تياريين سياسيين  وطنيين  معتدلين .

العبرة الثالثة

إن بناء الأمم ومسيرة النضال وسُنن التغيير ،هي عملية تراكمية تُؤسس للتغيير الحقيقي  عبر  بناء قواعد راسخة وأفكار متزنة ورؤية واضحة. و بالجُهد و العرق والدماء والنضال، يُهدم بنيان الواقع المرفوض ويُبني أسس المستقبل  المرتقب المطلوب.

ستة عقودٍ تقريبًا وثورة تونس تبني الأساس في التصورات والأفكار والمشاعر والاحتكاك الإيجابي بين مختلف مكونات المجتمع. وعندما اكتملت شروط التغيير ، أصبحت نفسٌ إنسانية واحدة، تُجرح في كرامتها وتُحرم من حقها في العيش الكريم، وعربة خضار، تكفي لتحطم حصون الديكتاتورية بعسكرها وسلاحها وتحالفاتها ولتشعل النار فيها ، ولتحرق النظام الفاسد ومؤسساته ورموزه، وتكون هذه النار  بردًا وسِلمًا وحُرية  وديمقراطية على الشعوب.

نعم إن ثورة تُونس فتحت لنا هذه الأفاق من الآمل، وزدنا يقينا أن نضالنا لم ولن يذهب سُدًى،  بل يُؤسس لغدٍ مُشرق، حتى يكون أساسَ بنياننا الوطني ومنظموته القيميه والفكرية راسخة وقادرة، في تحمل البنيان الشامخ المتعدد في المكونات والمعتقدات والثقافات والأفكار،  والحرية في التعبير والتنظيم والسياسة والثقافة،  بنيان علاماته البارزة المواطنة ودولة القانون والمؤسسات، … بنيانٌ يستوعب الكل ويؤمن لهم المطالب العامة والخاصة، بالعدل والمساواة والتوازن في التنمية، ويحقق التعايش والسلام. وحين تكتمل وتنضج هذه الشروط وهي قطعت شوطا كبيرا في واقعنا الإرتري، سيسقط الطاغية بصرخة أو طلقه أو أجل محتوم مكتوب .

ليكتمل حلم الحرية وامانة الشهداء في عرس ديمقراطي مهيب في شارع الحرية في غد ارتريا المشرق .

ونغني مع عاشق ارتريا الشاعر احمد سعد:

وغدا تعود الدار

وتغرد  الأطيار

ونغني للأحرار

وحتى يتحقق ذلك ويتحرك الشعب وينطلق ،لابد من أن تنضج الفكرة وتتضح الرؤية وتتعزز الثقة في ذهنية الفئة الشبابية الوطنية المدركة، عبر حوارات وطنية مسؤولة وعملية، لتكون هذه الفئة هي المحرك، وحلقة وصلٍ بين الهيئات والأحزاب والجماهير، لندخل الوطن بعهود ومواثيق تحقق الصالح العام، ونبني وطنًا حرًّا قويًّا مزدهرًا،  ودولة القانون والمؤسسات، لتكون ارتريا حقا سويسرا  القرن الأفريقي.

 

محمد نور صالح  كراني

2016  /07/13

 

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=37480

نشرت بواسطة في يوليو 16 2016 في صفحة المنبر الحر. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010