جنيف .. عناق في حضرة الوطن المُغَيَّب
بقلم/ بَكْرِي دُنُّوسْ
الوطن أم تلد أبناءها أحرارا ، فيجتمعون في حبها ، ويتفقون في الوفاء لها ، ويتفاعلوا سويا من أجلها .
وهذا حال الإرتريين مهما تقاذفتهم الأمواج هنا وهناك ، وفرقتهم المعاناة في مختلف البلاد إلا أنهم لا يغفلون ولا يتناسون الوفاء للوطن الأم ، ويجتمعون في حب التراب ومهد الأجداد الأُوَلْ ، وعشق التراب والبحر والشجر والحجر .
منذ الوهلة الأولى التي خرج فيها تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة والنظام الإرتري يتخبط كالمخمور بحثا عن سبيل للخروج من هذه الأزمة ، والإفلات من العقاب ؛ خصوصا بعد خروج تقرير اللجنة الأخير التي ذكرت فيه (أن جرائم الإسترقاق والسجن والإختفاء القسري والتعذيب والإضطهاد والإغتصاب والقتل والجرائم اللاإنسانية الأخرى أرتكبت كجزء من حملة ممنهجة واسعة النطاق لزرع الخوف وردع المعارضة ، وفي نهاية المطاف للسيطرة على السكان المدنيين الإرتريين منذ العام 1991م عندما سيطرت السلطات الإرترية على الأراضي الإرترية) .
لذلك فإن الجبهة الشعبية في الفترة الماضية حشدت كل الطاقات ، وسخرت مخابراتها وبلوماسيتها داخل وخارج الوطن لتشويه سمعة التحقيق وإفشال التظاهرات ، وهرولت إلى حلفائها وداعميها لتتسول بينهم وتتوسل إليهم لإرسال رسائل وعرائض تنتقد تقرير اللجنة ، وأكثر ما أرق أفراد المافيا الأفورقية هي الحملة الإعلامية التي أطلقها النشطاء الإرتريين وأجنحة المعارضة الإعلامية التي تدعوا للمشاركة في تظاهرة جنيف_2 ، وأخذوا يحذرون على لسان أبواقهم الإعلامية بسحب الجنسية من المشاركين في التظاهرات ، وبدأوا بتقديم بعض التنازلات ولأول مرة حيث أعترف النظام على لسان وزير الخارجية عثمان صالح بوجود معتقلين سياسيين وأكد أنهم على قيد الحياة !
وعلى الرغم من كل ذلك كانت إرادة الشعب الإرتري أقوى بكثير ، فهذا الشعب يمتاز بعنفوانه الجارف لبلوغ الغايات ، ونيل الحقوق ، وهو متعود على الوقوف في وجه الدكتاتوريات ، فقد هبطت أفواج الإرتريين وتجمعت كل أطياف الشعب من أستراليا والشرق الأوسط وأمريكا وكندا وأروبا ، وتجمهر الشباب الواعد النشط المتطلع للحرية من كل أنحاء العالم ، وهتفوا جميعا بالحرية ورحيل الدكتاتور ونظامه ، وإطلاق سراح الوطن المغيب بمن فيه ، ومعاقبة المجرمين .
موقف جنيف_23_يونيو سيظل حدثا تاريخيا خالدا ، ومشهدا وطنيا خالصا ، جمع كل فئات الشعب الإرتري ، وأطيافه المتباينة ، وألوانه الثقافية الزاهيه التي رسمت ألوان الوحدة الوطنية والتعايش والمحبة والتلاحم والوفاء للوطن ولدماء الشهداء الأبرار.
تحركت صفوف المتظاهرين من مكان تجمعهم الأول في صفوف طويلة وهم يهتفون بسقوط الدكتاتور ورحيل النظام وتقديمهم للمحاكمة إلى أن إلتحموا جميعا في ساحة مبنى الأمم المتحدة عند نصب الكرسي المكسور، حيث لم تسعهم الساحة لكثافة الأعداد الهائلة التي تدفقت في المكان ليتزاحموا في أطراف الشوارع المجاورة للساحة .
كانت المنصة مشرفة بكل من تكلموا فيها بدءا من القس/ شنودة الذي أثلج صدور الحاضرين بحديثه الموجز عن التعايش الديني الأزلي بين الإرتريين والوحدة الوطنية ؛ ليتعانقا بعدها هو والشيخ/ عمر الذي تلاه مثنيا على كلامه ومتحدثا بشرح مستفيض لمعاني التسامح الديني والمحبة والوحدة التي هي ديدن الكيان الإرتري بكل تبايناته الممتزجة بالإخاء الوطني والمرتبطة بالنضال الطويل جنبا إلى جنب ، وقدم الفنان المناضل/ أبرار عثمان كلمة صادقة للأجيال بضرورة الوحدة لصناعة المستقبل وإسترداد كرامة الشعب .
كان عناقا صادقا في حب الوطن ، بعد فراق طويل بين أعضاء الجسد الواحد ؛ فما كان لهذا الجسد الواحد إلا أن تفاعل مع بعضه البعض ليشتكي آلامه ويصرخ بصوت واحد ليوصل لكل العالم مأساته ومعاناته الطويلة .
ومن اللحظات الأكثر خلودا في تلك الملحمة التاريخية هي وقفة الصمت حدادا على أرواح الشهداء ، حين انحنى الجميع وأنصتوا لصوت الساكسفون الحزين ؛كانت لحظة دَمَعَتْ فيها العيون ، وحَزِنَت فيهاْ قلوب كل الحاضرين ، فليس هناك إرتري لم يفقد من إسرته شهيدا فأكثر في حرب الإستقلال الذي سرقته العصابة اللعينة .
كان يوما جامعا لكل شتات الشعب الإرتري وفئاته شيبا وشبابا ، رجالا ونساء ، وصبيانا وصغارا في جو عائلي فريد افتقدناه طويلا ، تعانق الأخوة بعد طول فراق ، وتفاعلوا معا ، وهتفنا بصوت واحد ، ووقفوا في حر الصيف السويسري الحارق ، وزلزلوا مبنى الأمم المتحدة بل جنيف كلها بهتافاتهم وصياحهم المدوي ، ليجلسوا بعدها في الحدائق المجاورة ليتفقدوا بعضهم ، ويطمئنوا على بعضهم ، ويتفاكروا ويقووا عزيمتهم ، ويوحدوا جهودهم حتى الخلاص من هذا الدكتاتور القاتل الذي يعتقل الوطن .
شَهِدْ كل المشاركين على الإرادة القوية التي يملكها أولئك الشباب الثائرون بقوة ، فقد كانت هتافاتهم مجلجلة ، وحناجرهم لم تتوقف أبدا ، وظلت تزلزل الأرجاء حتى آخر لحظة ، كانت أصواتهم تخرج من منتصف صدورهم بحرقة وألم وحنين للوطن وقوة وعنفوان .
هذا الجيل من الشباب الذي ينبض حيوية ونشاطا وقوة ، ويتمسك بعزيمة وعنفوان الأجداد الذين رسَّخوا معاني الشجاعة والبسالة والتضحيات ؛ هو جيل قادر لإستعادة الحرية والكرامة للشعب الإرتري إذا تم توظيفه وإعداده جيدا ، وتوجيهه لهدف واحد هو حرية الوطن ، واسترداد كرامة الشعب ومكانته بين الأمم .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=37414
أحدث النعليقات