حالة احتقان: مصطفى محمد محمود
القصة الحائزة على المركز الأول في الدورة الثالثة لمسابقة (محمد سعيد ناود) للقصة القصيرة التي تنظمها سنويا (مكتبة أغردات العامة على الانترنت) 2017م
محمد سعيد ناود رائد الرواية المكتوبة بالعربية في الأدب الارتري الحديث حيث كانت روايته “رحلة الشتاء ” التي صدرت في بيروت في سبعينات القرن الماضي أول عمل روائي كتب باللغة العربية في الأدب الارتري ، إلى جانب العديد من المؤلفات المتنوعة.
يعتبر ناود أحد الآباء المؤسسين للعمل النضالي ضد الاستعمار الأثيوبي في ارتريا من خلال تأسيس وقيادة (حركة تحرير إرتريا) التي شكلت أول تنظيم ثوري ضد الاستعمار الأثيوبي . توفي في العام 2010م
كان وجهه محتقناً بدرجة مألوفة فالعادة كان أن يحتقن… مط شفتيه بازدراء كعادته سب كل من حوله ؛ ابتداء من أُكرة الباب ، وانتهاء بالطاولة .حملهم مسؤولية ما يحدث كانت الغرفة خالية من جنسه تماما.
امتدت يده ، آليا ، نحو علبة تبغ وحين كانت دوائر الدخان ترتفع في سماء الغرفة كان ينظر إلى يده فتراءت له غريبةً عنه و لما كان ذلك شيئا طبيعياً لم يحز ذلك في نفسه.
درجت يده ، منذ زمن بعيد ، على كتابة كل ما يرد على مكتبهِ من فواتير لأنه لم يكن من مهمته أن يسدد إيصالاً أو يقبض ثمناً ؛ مهمته كلها كانت أن يراجع لا أن يكون مركز حركة لهذه الإيصالات ولا أن يكتب لها وجه صرف.
كان يحس أنه محصورٌ في ذلك الشريط الضيق الذي تتراص أرقامه فوق بعضها و حين يضج كان يسب أكرة الباب والمنضدة و مطفئة السجائر والملفات التي تتراص على المكتب ممتلئةً بإيصالاتٍ تم تسديدها أو تنتظر المراجعة.
اعتاد الناس رؤية وجهه محتقناً, وحين تلم به نوبة ضغط دمٍ ويبدو شاحباً كان زملاؤه يطلبون من المدير بأدبٍ شديد أن يهبه أقلاما جديده ، فرفاق العمل لا يحبون أن يروه في صورة غير طبيعية أبدا.
آه… القطار المتجه نحو الجبل بدا له مكتظاً لدرجة تثير الاختناق . رائحة العرق والعطور البلدية التي تفوح من أجساد نساء, كن يحملن سلالهن وقد بدت من تحت أقمطة قماشها الأدوات الخشبية التي تستخدم في الطبخ ، وبعض مواقد الحديد وأشياء أخرى …الواقع أنهن كن يحملن الحياة. وثمة رجال ينتظرونهن بلا شك في محطة القطار . وكلما ارتفعت ثيابهن كن يعدلنها بدلال ساترات الجزء البادي من تلك السوق النحيلة اللامعة كالخيزران.
سقف القطار كان مملوءً بالبشر ، والقمل ، والغبار والعطور البلدية ، وروائح العرق كانت ترتفع احيانا مع أصوات شتائم بذيئة وسباب سوقي ثم نظرات شزر أو احتكاكات تولد رغبات تموت بالحر ، أو تتقد بينما كان الليل ساحراً إذ كان ما يعرف بالفتنة مختبئاً ما بين روائح العطور البلدية ونسمات العشيات.
انتهى مسيرهم حين توقف القطار واستقبلهم رجل أعلن لهم عن ميعاد الرحلة نحو جبل البارود.
جبل البارود:
سحب نفسا عميقا من رائحة التراب وروث البهائم وطفق يحدق في المدى الخالي تماماً من بقايا الخريف. لم يكن المدى يابساً بل كان اخضرَ حين سأل أمه وهو صغير :
هل سنترك حقول الحمص و الشعير للشتاء دون حصاد ؟
تجاهلت أمه سؤاله فباغتها: أفضل أن يأتي أبى إلينا.
اتسعت حدقتا أمه محذرةً إياه من المضي في الحديث الذي لا ترغب فيه ، حين كانت تستقل آخر المركبات المسافرة إلى الغرب . كانت عيناه معلقتان بآخر منعطف للطريق اليتيم القادم من القرية إلى المدينة . لم تكن بنت عمه هناك فانحنى و دس رأسه في حجر أمه ونام.
أفاق من ذكرياته التي كانت تسافر به الى سنوات طفولته الأولى وتذكر قوانين العمل الجديدة القاسية همهم : لكن الأمور كانت تسير.
المدير بدا متجهما ، لكنه طيب، فقد أتاح لهم10دقائق في منتصف الدوام الأول ليتمكن الموظفون ، بعد رشف الشاي الساخن جداً ، من إطلاق زفرات طويلة تشبه الآهات ، لكنّه أكّد على ألا تزيد مدة الزفرة عن ثلاثين ثانية ، وجعل لمهمة عد الثواني رجالا على هيئة نساء يوزعن الشاي ، أو نساء في هيئة ملاعق يدرن في أعماق أكواب الشاي بزعم إذابته ، لكن في الحقيقة كن يتفحصن جزيئات عناصر الشاي للتأكد من خلوها من مسببات عسر الهضم والقيئ أو الحساسية من بق الفراش . كان المدير يحرص على تنبيههم بان عمى الألوان ليس مرضا خطيرًا فلا يقلقنَّ أحدٌ من ذلك. كان المدير طيبا جدا يخاف عليهم مما يعلمون ومما لا يعلمون.
ذاكرة الألم :
حين أصابه الدوار من تكرار الأوراق أمامه ؛ تذكرها بعينيها العسيليتين . كانت من رحمٍ نازفٍ مثله تماماً .عيناها بحلاوة إطلالة شمسٍ تسترق النظر بين طيات الفجر, رقيقةً لا تمل النظر إليها ولا تمسكه إلا حين تغيب وتسبل هي أجمل رمشين.
كل الأشياء هنا حلوة يا حلوتي كالربيع الآتي بعد أيام . هذه الأشجار التي ترينها عارية كعري العالم الذي لا يتورع أن يواري سوءته ستخضر وتخضر كزنجي أورثه خط الاستواء عينين داميتين.
كانت تنظر باحثةً عن الغد ، عن الشمس عن أحلامه ، عن كل شيء وتبتسم حين لا تجد نهاية للمدى
واصل هو بعد أن غمس قلبه في بحر عينيها الواسعتين : وهذا الطريق الممتد بلا نهاية سينعطف إلى السماء مرتفعا كهامة جدي حين يمسح عن هامته العرق المتفصد ويتكئ على معوله ذي العود اللامع.
باغتته : من الذي يمسك بمعول جدك الآن؟
تجاهل سؤالها ودندن بأغنية قديمة تمتدح جمال عيون البنات حين يردن الماء من مرب. ابتسمت فيما هو يشرح لها معنى كلمات الأغنية .. كانت تريد إجابة عن معول جدّه ، أما ابتسامتها فقد حملت معنى واحدا : ” جبان”.
الحزن يغوص في أغواره فينخره . كان منفردًا مغروسًا في أحشاء الثلج كسمكة ميتة والفجيعة تتسرب في شرايينه مثل شيطان رجيم. همس: هنا ..ال..مست ..ق.. بل..يم..تد اااااكثر إشراقا …أليس كذلك؟
عيناها الجميلتان حملتا معنىً واحدا: جبان.
خرج صوته مبحوحاً لائقاً بمساحات الصدأ التي علت حنجرته .. أنظري لوني هذا تموت النساء هنا كي يمتصصن هجيره .هل تذكرين ماريانا؟
لقد كانت تبكي عارية في غرفتي حين أشعلت لفافة تبغ وتشاغلت عنها بصحيفة ….وجدي ؟؟؟؟؟ ههها لقد ضربوه بسبب ذات اللون فقد كانت النساء تستلذ الغزل إلا من إفريقي.. جدي المسكين كان جندياً للطليان الفاشيين.
جاوبته بنفس الابتسامة وقالت شيئا حمل نفس المعنى وهي تنظر إلى الأشجار العارية وتغطي رأسها بقبعة صوفية حمراء داكنة. انفجر فيها : بحق الجحيم قدري أني لا ارغب أعينهن الزرقاء والخضراء!
حدق في عينيها الساهمتين الواسعتين وتاه هناك وحين ابتسمت لشروده في عينيها قال: أدمنت التوهان منذ أن أطلت امرأة في مدينة ما من بين فتحة صنعتها رياح الخريف في سياج من القصب أمعنت النظر فينا … حينها كنا نبحث ونفتش عن الطمأنينة والأمن ، أمي كانت قلقة فالجبل بعيد عنا الآن وجئنا منه بأحذية بلاستيكية سوداء وأعين مندهشة ، وحقائب حديدية فيها رائحة تراب احمر. كنت تائها حينها أمسكت بثوب أمي بقوة كنت تائها وتعباً وحين دلفنا لباحة دار تفصلها عن المارة جوالات خرقة كان أبى يمسك بإبريق ماء يتوضأ منه وحين رآنا صمت وكف عن الحركة وهمهم بكلمات بعضها عن الله والأخرى لم أتبينها حين احتضننا وبكى. آه لا اذكر من ليلتي الأولى هناك سوى أعماق تضطرب بقطار يرتج ويدوي آخره في المدينة و أوله يوغل في أحشاء شمس تنبت في خاصرة جبل بركاني.
هذا الجبل يلعلع في رأسي أنا وجسمي المنحول يحتاج إليك يا امرأة من صميم المواجع …الابتسامة ذاتها : انت هارب وجبان.
آه لا تبتسمي فحين ارفع أشرعتي ستندمين…
أنا هنا بمحض قدرٍ اختارني كي أعود إليها هناك في حقل الحنطة سأجدها بعينيها العسيليتين وروح بنشوة أذكار المولد ،حينها أرجو أن لا تحزني يا رائعة..
الصداع اللعين ، الورق المتناثر أمام مكتبه ، وصورة قديمة لأخيه الذي استشهد في حرب القبائل .
قال له داويت : قالوا انه كان يوزع رصاصه على كل الاتجاهات و تلاشت كلمات داويت حين تذكر أخاه في المقهى يجلس أمام الأمهرية الفاتنة التي كانت تبيع الشاي لسائقي الشاحنات يغازلها بفجاجة : سأجعل أخويك يعودان حافيين في أرض الجبل .
لن تستطيع قالت له ، الرئيس قال أن البحر سيبتلعكم وتأكلكم حيتانه .
ضحك أخوه حين كان يناقش هو صديقه عن الهجرة ورغبته في أن يمتلئ بالنشوة أن يكون ممتلئ البطن معظم ساعات اليوم . ضحك أخوه بشدة . قهقه حتى سعل واحمرت عيناه فقدمت له ” أبابا ” بائعة الشاي كوب ماء شربه وحين هدأ قال: ستظل تطير ككيس خرق في مهب الريح ,أما أنا فساوي إلى جبل يعصمني من الرياح في سفحه.
تمتم وهو يضع رأسه بين كفيه وينظر إلى صورة معلقة فوق الجدار لمقاتلين يرتدون أردية قصيرة ويرفعون راية فوق قمة جبل : خدعوك ايها الراقد في سفح الجبل فالريح هنا اعتى يا مسكين.
إدريس جاءه بكوب شاي فرشف منه رشفات متتالية وزفر بعد ذلك.. وجاءت المرأة الملعقة واعلنت بابتسامة تجيدها لخبرتها في عمل الشاي وفحص جزيئاته أن كأس الشاي القادم سيتأخر خمس دقائق أخرى لأن زفرة مكتومة ابتلتعها لكنها حتما ستخرج في شكل حمى او صداع او بواسير او نزلة شعبية . كومة الاقلام والاوراق أمامه تتلون في شكل ديدان.
كان مذاق الشاي الذي علق بلسانه يختلف كثيرا عن مذاق شاي أبابا الامهرية ؛ فذاك كان لذيذاً جداً ، وهي كانت حنونةً جداً معه ,جمعهم في منافيهم حبهم التعيس لأوطانهم الأتعس فأدمنوا مناكفاتٍ سخيفةٍ لا يستغنون عنها ولا عن الجلوس والاستئناس لبعضهما بين حين واخر في مقهاها المنزوي في ركن قصي من سوق الحبوب، الذي ينكفئ عند منتهى سوق النسوان بزبائنه المتنوعين من الرجال الذين يشتركون في الإعجاب بأبابا والشاي اللذيذ ودعاباتها اللطيفة.
كان هو يغيظها بذكر اسماء الرجال الذين ينسلون الى مقهاها و ينفثون في حكاياتهم بطولات ذكورية حين يتحدثون فتتشاغل عنه بتأجيج نار موقدها وتتمتم بمثل شعبي اثيوبي يجمع بين المال والطريق الى السماء.
بنكهة النعناع كانت تصنع الشاي دائما وتقدمه دوماً بطريقة ودودة جداً اليه حين يخلو المكان من غيره من الزبائن ….تعوّد ذلك منها حين يروق مزاجها وتتوق لحديثه الشيق عن حبه القديم فينطلق جواد ذكرياته ما بين الجبل وبنت عمه بثغرها الصغير المبتسم وخديها المرتويين..
عم يس ، أبوها ، كان يحبها جداُ وكان يقول له دائماً وهو يشير معسكر الجيش في طرف المدينة : حين يرحل هؤلاء ستكون هي لك.
سمع وهو صغير أن عم يس قد بصق على ضابط في مخفر الشرطة وحبس بعد ذلك لمدة عام.. خرج صوت من بين طيات الذاكرة: تعال لنلعب الشرطي وقطاع الطرق. العسكر كم يكره هذا الدور. يبدو ان قطاع الطرق هؤلاء طيبون ثم إنه إذا انتحل دور الشرطي فسيخيل له أن الناس ينظرون الى هامته الملوثه بالبصاق … فتحسس جبهته. ليس ثمه بصقة ، كذلك كان الناس لا يحفلون بالأطفال الذين يحملون بنادق خشبية ويدقون الارض بأقدامهم العارية يحاكون صلف العسكر. أتجه الى عتبة بابهم الصغير وهتف في رفاقه الصغار: لن العب معكم. وانضم الى الصبية الكبار الذين كانوا يراقبون الجمع الذي يركض خلف الكرة في شارع المسجد المنكفئ على أحزانه في أقصى الحي المهترئ السقوف والطرقات. أبوه كان يقول أن البيض اهتموا بتنظيف المجاري والطرقات واستخدموا لذلك أيادي الأجساد السمراء المعروقة ذات الملابس الزرقاء والأحذية البلاستيكية المعنقة أما الان ، فإن الكرة إن سقطت في المجاري القذرة فسيضطر الصبية الى التفرق أملاً في كرة أخرى في صباح اخر. جاء ابو البنت (العم يس)وهو يمشي كعادته منتصباً كشجر القلاميطوس وبدت نظارته الدائرية فوق انفه الضخم قليلاً كشيء جاء ليكسر حدة النظرات القوية النافذة وعمامته ملفوفة بعناية علي راسه ، بينما التف ثوبه الابيض حول كتفيه وانسدل على ظهره مغطياً معظم سترته السوداء التي تعلو جلبابه الأبيض الناصع .
داعب عم يس بنته بكلمات غابت عن الذاكرة وأخرج قطع حلوى وزعها بينهما ثم أخذ بنته وحملها على كتفه ضاحكاً وأنزلها عند مدخل داره فجلست هناك بينما كان يتأملها من طرف الطريق وأمامها الخشبة التي كانت تحاول إعطائها اليه ليمثل دور الشرطي الصلف ولم يفعل.
راقبت أببا عينيه الممتلئتين اثناء سرده والتفتت عنه مانحة اياه فرصة أن يمسحهما لتستغرق في الاستماع اليه …
أبوها ، العم يسين ، قرر أنه سيركب البحر بأسرته ولن يعود الا بعد أن يذهب العسكر الي حيث أتوا… ……البحر ….البحر …..يا أببا يخنقني البحر يجتاز صدري حارقاً لاهباً ويخنقني بشوكتيه المفتوحتين ككلابتين قويتين.
انت يا أببا لا تفهمين أن هذا البحر سبب مصيبتينا أنا وأنت….كان ملكاً لنا وأحببناه نحن ونحبه كل يوم , أعطانا أسمنا يا أببا ….كانت لا تفهمه…
(وسنكسبه لونه من جديد)….. جاء رد أخيه من بعيد خافتاً إذ كان يشعل لفافة تبغ وينفخ دخانها في سماء المكان…
أخوه كان محترفاً في النفاذ الى مفاصل الألم الصميم ، فحين هم أن يشرح له أن الوطن هو الدنيا كلها وان موطن الانسان يكون حيثما يستريح…. كان أخوه يسرد لأببا كيف أن عمه حين ركب البحر تاق من جديد لأرض لا تقتلعه فيها ريح ولا يكسره فيها نوء فعاد واختار لنفسه صخرة تحت رأسه ونام طويلاً بعد أن فقأ العسكر عينيه وقطعوا أذنيه وذبحوه كشاة في العراء امام جمع من الناس فهتف وهو يصارعهم انه يشرفه ان يدفن في بلده فباطن ارضه اشرف من ظهور بلاد الاخرين ولكنهم لن يتشرفون بقبور اوطانهم ابداً وطلب ممن حضر يوم موته ان يبلغوه في قبره.. ساعة أن يرحل الغرباء . دفنه عمال الصحة في طرف المدينة فقد كانت أوامر العسكر أن يترك في العراء لكن العفونة فاحت…… فاحت لدرجة أن والدنا ترك المدينة وتبعته رائحة الجسد المتحلل طاردته الى أن جاء الى هنا وجئنا نحن…. كان اخوه مؤلماً في سرد التفاصيل يوغل في احشاء الفجيعة ليمسك بعصب الألم ويثنيه عن الرحيل الى البعيد حيث لن يشتم رائحة جسد يتهرأ او غبار احمر.
آآهـ يا زمن ، جاء تأوهه لافتًا للنظر ، هذه المرة ، فالتفت داويت وادريس بحدقات متسعة حاول داويت تلطيف الجو: هل تحن اليها؟ منذ متى صرت تعشق هكذا؟
تشاغل عنهما بالكتابة على إيصال واستمرأ ادريس المزحة: يقولون أن سريرك في الغرب كان دائم الدفء……………
تداخل ادريس: هل الحب هناك سلعة مفقودة؟
وهل النساء يحببن السمر كثيراً؟
غاص في ذكرياته من جديد ، فقد أضحت عالمه المفضل وعاصمه من الحديث… حين تركها كانت هي التي تحضه على ألا يرجع اليها, قالت له: عد لبنت عمك هناك أما أنا فانتظر أبي هنا واخوتي وحين تعود بلادنا الينا سأعود.
هناك ابن عم لي يحارب هناك ، كان شعره فاحما مثل شعرك تماماً….. قبل وصولي الى هنا كانت لحيته قد نبتت قليلاً لكن ابي قال في رسالته الاخيرة ان ابن عمي قد صار قائدا لفصيلة كاملة و ان لحيته الان قد نمت وكثفت كثيراً وقد صرح انه لن يحلقها قبل ان يتزوجني. عد و حارب لأجلها ستحبك عد سوِّ قبر عمك واقرأ على روحه الفاتحة كل يوم حين تمر بجانب المقبرة.
تذكرها وهي تجهز حقيبته وتضع فيها معجون الحلاقة : لحيتك تنبت بسرعة كان من المستحسن ان تشتري واحداً اخر او ربما اثنين… همهم حينها: لن يكون هناك وقت.
المسافات والرحيل والنشوة.
الجبل يحمل ثعباناً يتلوى صاعداً للأعلى والجميع هناك نحيفون سمر وعروقهم بارزة ، أما وجوههم فهي دائماً حادة النظر والملامح.
كل شيء يحمل حرارة ما ويعكس حدة ما. تبودلت السيجارة الوحيدة بين الشفاه النهمة ، وحين أخرج علبة تبغ أمريكي ذي ماركة شهيرة انطلقت صافرة من أقصى الشاحنة وخرجت تلك التي كان يظنها فتاة وعدلت من ردائها القصير ثم أخذت منه سيجاراً اشعلته وتوسدت ارض الشاحنة واضعة سلاحها تحت رأسها وتظاهرت بالنوم غير مبالية بتعليقات المقاتلين المشاغبة.
التؤدة كانت سمة الرحلة اكتفى السائق بالألفة بينه وبين الطريق فلم يشعل مصابيح الشاحنة . عمَّ سكون لا يخدشه إلا صوت الشاحنة الذي نادراً ما يخبو او يعلو فاكتسب بذلك سمة مشابهة للسكون ، وفي عمق السكون كان جابر يقرأ في الأوجه الكالحة حكايات طويلة.
اه سأجعل بذاري في قلب أرضي الخصبة بصخورها الحمراء القانية فالجميع يتوق لأن يربط نفسه بصخرة الجبل أو يغرس نفسه كشجرة (عركوكباي) تغوص في أغوار الأرض حيث لا نوء يقتلعها ولا ريح تكسرها.
أحس أن الرحلة تجذبه لمدارات ؛ تجذب و تقوى جاذبيتها كلما تقدمت الشاحنة ، أما هناك فقد كان القطار يقتلعه يركض ويقتلعه و حينما كان يتطلع الى وجه أمه ليتفرس ملامح الطريق كان رأسه يدور ويدور فينكفئ في حجر أمه وينام .
أخذ الرجل المكلف باستقبالهم يجمع كل مظاهر المدنية من حاجياتهم معجون الأسنان والفرشاة ومعجون الحلاقة والمشط ال….ال….تحسس لحيته النابتة بشكل سخيف ثم نظر الى معجون الحلاقة بحركة لا إرادية إلا أن المسئول هتف: الى الأمام….
تحركوا ببطء نحو الأمام واصطفوا جميعاً بشكل غير متناسق. هز المسئول رأسه وقال بمغزى عرفوا معناه فيما بعد: أمامكم الكثير لتتعلموا النظام… ” المعارك طاحنة البحر العقرب سيبتلعكم…..هكذا قالوا.. حاولوا أن تخنقوا البحر وتعودوا من جوفه أقوياء إذا ابتلعكم….. كلوا أوراق الشجر المرة ليكتسب لحمكم مرارة أوراق السدر اللزجة فيلفظكم البحر مردةً وجناً وشياطين, الحيتان لن تجد لحمكم مستساغا صدقوني لكن لحمهم سيكون شهياً قهم يأكلون لحوم البشر ويلعقون دمائهم… ضحك القائد حتى اهتزت ذخيرته ثم قال: أما أنتم فماذا ستفعل الحيتان بأعظمكم اليابسة؟ كان جابر مخموراً وما زال ينكفئ على قدح السوا ، وادريس يترنح محاولاً ان يرقص على أنغام لحنٍ يجول بخاطره ، فيما كان داوييت منزوياً يعيد تزييت سلاحه وصيانة خط التنشين ليضبطه مع فوهة السلاح. هتف جابر مردداً ما كان يقوله أخوه الذي مات في حرب القبائل : اللعنة على من يكذبون باسم الله وباسم الشعوب.
حين انطفأ الاتون:
الأعداء كلهم هربوا وهجر كبيرهم عرشه.المجد للصامدين والشهداء…تخندق الجميع يرقبونهم وهم يزحفون مرضى وجرحى ومشوهين أكلتهم حيتان البحر حتى التخمة و لفظتهم الى الشواطئ. العفونة اجتاحت المدينة وعمل الجميع على دفنهم وحين كانوا يهيلون التراب على الجثث كانوا يدفنون الآمهم وجراحهم التي كانت كالسرطان طيلة عقود طويلة تمتص عافيتهم و تهتصرهم وتقتلعهم.
بدأ الرقص مع اخر جثة دفن . الطبول كانت سيدة الموقف والغناء امتد حتى ساعات الصباح الأخيرة بل أن الجميع كانوا يرقصون وهم يبيعون ويشترون ويجامعون زوجاتهم وعشيقاتهم والأطفال كانوا يكتبون في كراساتهم وهم يرقصون حتى الشهداء بدت أرواحهم البيضاء التي كانت تحوم حول خارطة الوطن المعلقة فوق مبنى بلدية أسمرا ترقص وتدور خلف بعضها وتهتز بإيقاع الطبول.
الخطباء ، والمشاة في طوابير العروض العسكرية و جابر و إدريس كانوا كذلك يرقصون والشعراء كانوا يلقون بشعرهم فيتلقفه الجمهور بأذن واعية وقلوب حزينة…
هلا سائلة تيجان الجبال؟
حين نفضنا عنها الغبار وصدأ العفونة / لم يكن مهماً ان لما تقوله معنىً فقط قل او قل فقط..
شاعرٌ اخر: دعوا الجبل يرتفع بتينه الشوكي
يعمد أكفنا بدماء قانية
ويصلبنا على أحجاره شهداء وشذاذ افاق وشحاذين
حمى الخطب انتشرت والمذياع كان لا يفتأ ينقل أخطاء إملائية ويبث ذلك في قواميس الناس واللغة فتضحي حديثاُ مقدساً يشربه الناس مع الشاي في الصبح ويضعونه تمائماً تحت وساداتهم فيكون اخر ما تقع عليه أعينهم قبل النوم.
كان داويت منكفئاً على كأسه الأخيرة حين علا في المكان ضحك البنت التي كانت تدعى (باريستا) فقط لطول امتهانها الحرفة والتي لم تكن تخفي انها جاءت الى الدنيا نتيجة لنزوةٍ عابرة لتاجرٍ يمني استقر لوقت قليل وارتحل الى بلده….هي لا تعرفه ولم تسع يوماً لمعرفته ، وامرأة حماسية هي أمها التي أورثتها هذا البار بعد أن جمعت مالا يكفيها من مهنتها السابقة وماتت بعد أن تابت بأيام قليلة وأفشت بأسرارها لقسيس كنيسة صغيرة تجاهل بنتها بعد أن ماتت الام فتجاهلت باريستا بدورها القسيس وكنسيته وانغمست في عالم لا دور لتعاليم الرب فيه إطلاقاً.
باريستا كانت تحنو حنواً غريباً على داويت وجابر وإدريس, فهي تتغاضى مثلاً عن كل بقية حساب عجزوا عن دفعه و تسندهم واحداً بعد الاخر الى اخر الطريق لتودعهم وتمسح على رؤوسهم بحنان مرددة جملتها المألوفة: يكفي لقد شربتم اليوم ما يكفل لشيطان مريد ان يدعوا للصلاة.
جابر اعتاد على الصمت في كل الأوقات و الايام الماضية لكن شيئاً ما كان يحز في أعماقه كان شيئاً حاداً مؤلماً كموسى صدئة تقطع دواخله فتخرج من أذنيه صراخاً و عويلاً وروئً قلقة….
عمه الراحل كان يرى جميع أولياء الله في منامه وحين يصحو كان يشرق بحبٍ جديدٍ وأعمق لتراب الجبل ألاحمر اما رؤاه فقد كانت تمتلئ بأدخنة قطارٍ شيطاني الوجه ودوارٍ يمتد حتى أوقات صحوه الكئيبة.
إدريس تحول الى كاتب ماهرٍ صاغ مقالات دعائية رخيصة فأختير مديراً للمبيعات في شركة تبيع كل ما في الوطن وتشتريه, أما داويت فاختار علم الاجتماع واختار تخصص ذا بعدٍ اقتصادي فيه فاصطفاه الرئيس مستشاراً ومعيناً لتوظيف الكوادر على خلفيات طائفية ، موظفاً في ذلك جزءً من معرفته في علم الاجتماع الذي درسه على نفقة الدولة.
كان جابر لا يدري محتوى مهن صاحبيه لكنه كان يلحظ أن بريقاً ما كان في أعينهم صار يخبو كل يوم بمقدار محسوس وأنهم صاروا أقل مرحاً ورغبة في صداقته. ومنذ ذلك الحين اكتسب هو وجهاً محتقناً وارتفاعاً في ضغط الدم و مؤخراً انتابته نوبة خطب جارفة لكنه كان خطاباً مغايراً لنسق الخطب الراقصة….انفجر فجأة بينما كان يحتسي كأسه في مرة نادرة مع رفيقيه اللذين صارا نادراً ما يجالسانه ابتدره بـ: يا ابناء الحرام ويابنات الرذيلة…
فتبادل داويت وادريس النظرات حين وصل في خطابه لذكرى مذبحة عونا فمؤتمر أدوبحا والحرب الأهلية …ثم أعلن على الجميع أن يخففوا من غلواء الركض خلفاً والهروب الى جذوع الشجر لامتصاص اكسير التطاول الممزوج ببويضات مخصبة لديدان التيناسجيناتا والعناكب والثعابين الأفروآسيوية الأصيلة وأسماك قرش البحر القاتلة… فالشياطين من مختلف انحاء الارض تحتاج لهذا الاكسيرالذي استهلك الكثير منه في هذه السنوات ، اذاً فالأمر لا يعدو كونه ارجاء للأمر حتى يُتمكن من مزج الاكسير ويتسنى توزيعه على جميع سكان الارض بحصص متساوية ثم ختم حديثه بهتاف حار” المجد للأوثان للطوطم الأزلي وجميع قبائل الانس والجن” التفتت باريستا اليهم وجاءت مسرعة اليه بعد ان فرغ من خطبته مسحت على راسه بحنان وهمست في أذنه بان الوقت قد أزف وأن العسس سيأتون لإعمال القانون. …..همس باكياً: هل ناضلنا لكي نخاف من العسس؟
الشارع الأسفلتي ، شهد ثلاثة يترنحون أحدهم كان يهذي كثيراً يصرخ ويهمهم يضحك ثم يبكي. وفي اليوم التالي التقوا جميعاً عند بوابة المبني الذي تسير فيه كل شئوون البلد تجنبوا النظر إلى بعضهم البعض وعند منتصف اليوم دعي داويت وادريس الى مكتب المدير وأمرهما ان ينشغلا بما يجب عمله و نسيان يوم البارحة وحذفه من تاريخ حياتهما تماما الى حين اقناع جابر بقبول حافز ترقية تافهة مقابل ان ينضم الى الحزب الحاكم أو أن يبتلع لسانه أو أي خيار آخر.
الإحتقان في وجه جابر كان هذه المرة فوق العادة فتلطفت المرأة الملعقة معه كما أُمرت وهي تضع كوب الشاي أمامه لكن جابر امتنع عن شرب الشاي وطفق ينظر عبر نافذة المبنى الى عمال السكك الحديدية الذين كانوا يعيدون الحياة الى موتور قاطرة من مخلفات الطليان.
المصدر : ايلاف
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=38718
نشرت بواسطة فرجت
في فبراير 1 2017 في صفحة الصفحة الثقافية.
يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0.
باب التعليقات والاقتفاء مقفول
أحدث النعليقات