حول فصل الدين عن الدولة
محمد محمد علي همــــد
كثر الجدل والحديث في السنوات الأخيرة عن مفهوم ونظرية فصل الدين عن الدولة أو ما يعرف ( (بالعلمانية ) أو (العالمانية ) – كما أرجح تسميتها- وهي النظرية التي نشأت وتبلورت مثل كثير من النظريات والرؤى الفلسفية في أوربا ، ولأنها نشأت في ذاك المجتمع وفي زمان وظرف سياسي واجتماعي معين كانت بالتأكيد نتاجه وتعبيرا عنه ، وإن كان هذا لا يمنع ظهورها أو تطبيقها في مجتمعات بشرية أخرى تحت مفهوم ونظرية التطور الاجتماعي والاقتصادي الواحد للبشرية كلها، مع اختلاف الحقب من مجتمع لآخر .
ولكي نفهم هذه النظرية – وبالتالي مناقشة إمكانية تطبيقها في مجتمعاتنا – لابد من الرجوع إلى جذور نشأتها والظروف الموضوعية ( سياسية ، عقائدية إقتصادية ألخ )التي أدت لبلورتها حتى رأى مشرعو تلك الأمم ومفكروها الأخذ بها لحل معضلاتهم وتناقضاتهم .
وقد كان أول ظهور لهذه النظرية والمطالبة بتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة في العام (1648 ) وتحديدا في مؤتمر ( وست فاليا ) الخاص بمناقشة ووضع حد للحروب الدينية التي كانت تعصف بأوربا حينذاك . والكلمة الإنجليزية لهذه النظرية ( Secularism ) مأخوذة ومشتقة من الكلمة اللاتينية ( Seculum) وتعني العالم لغة ، والانتماء إليه ماديا –ولا إلى شئ سواه ( غيبيات) – فلسفة ونهجا في حل إشكاليات ومعضلات هذا العالم ، عليه فإن الترجمة العربية لها تكون ( العالمانية ) نسبة إلى العالم وليس ( العلمانية) – بكسر العين – نسبة للعلم – أو( العلمانية ) بفتح العين نسبة للعلم .
على العموم عندما تبنى المجتمعون في( وست فاليا ) مبدأ فصل الدين عن الدولة ، كان خلفهم ذلك المشهد الكارثي الذي خلفته الحرب وأمامهم نفق معتم ومستقبل مظلم إن هم لم يتخذوا تلك الخطوة الجريئة ضد الكنيسة أو (الدولة الكنسية والمذهبية ) والتي كانت هي السبب في إشعال تلك الحروب وما آلت إليه أوربا وشعوبها في تلك الحقبة التاريخية ووصولها إلى مفترق الطريق .
والذي كان معروفا وقتها أن الدولة كانت تمارس السلطتين الدينية والسياسية وكان لها كنيستها ومذهبها الديني ، وبالتالي كانت تعادي وتضطهد الأديان الأخرى وتنكل بكل من يخالف دينها ومذهبها ، وكان المشهد السائد وقت ذاك أن دين الملك هو دين الدولة وكان يمسك بالسلطتين الدينية والسياسية ويكرس إحداهما للأخرى ويفرضهما على شعبه فكانت مقولة ( الرعايا على دين ملوكهم ) .
إذًًا كان الملك يتمتع ويستأثر بالسلطتين السياسية والدينية وبالتالي فأي دين أو مذهب يخالف مذهبه يعتبرا مرفوضا وجرما يعرض معتنقيه للاضطهاد والحرمان من حقوق المواطنة . من هنا فإن الكثير من المفكرين يرى أن فصل الدين عن الدولة أستن وجاء لحماية الأديان من تغول السلطة السياسية وليس العكس كما قد يتبادر إلى الأذهان أو يعتقد بعض مثقفينا، والواقع حينذاك يؤكد أن السلطة السياسية وبما تمثله و تقوم به من دور ديني كانت – كما أسلفت – تضطهد باقي الأديان والمذاهب الأخرى ، وجاءت فكرة ونظرية ( العالمانية )- والتي يمثل فصل الدين عن الدولة فيها العمود الفقري – جاءت لتحد من سلطة وتغول الدولة على الأديان وتحجيم دورها في السياسة العامة فقط وأن تترك للعباد أن يختاروا ما يعبدون ويعتنقوا من دين وأن تقف موقف الحياد من كل الأديان وبأنها تمثل وتعبر عن كافة المذاهب ولكن دون أن تمارس الأنشطة الدينية وأن تؤكد حق المواطنة لجميع رعاياها دون أن يميزهم دين أو مذهب وأن تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات وليس الدين أو غيره كما كان سائدا ، إذاًً مبدأ فصل الدين عن الدولة جاء إنصافا للأديان ونصرتها حيث أشيعت الحرية الدينية والمذهبية وحرية الإعتقاد وهو ما أدى إلى ظهور الدولة القومية .
وهنا يجدر التأكيد أن فصل الدين عن الدولة وحياد الدولة من معتقدات رعاياها لايعني الوقوف موقف العداء من الدين ، كما لا يعني الحياد تجرد الدولة من الدين مطلقا ولكن يعني فصل المهام والواجبات وتقاسمها ، بمعنى أن لا تتدخل السلطة السياسية في شئون الكنيسة والدين وكذلك أن تكتفي الكنيسة أو السلطة الدينية بممارسة سلطاتها الدينية فقط ، كما لايعني مطلقا عدم التعاون بينهما .
ولأن السلطة السياسية هي تعبير وصوت للمواطنين يجب أن تحمل في وجدانها ثقافة وروح من تمثلهم وتعبر عنهم ولأن الدين هو أحد وأهم المكونات الثقافية والوجدانية للمجتمعات لذا يجب أن يكون أيضا حجر الأساس في وجدان الدولة ، وهذا مانراه واضحا في أغلب – إ ن لم نقل كل- دول أوربا العالمانية حيث الصليب متصدرا أعلامها وأن كل مواليد هذه الدول يجب تسجيلهم في الكنيسة واعتبارهم أعضاء فيها .أيضا نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية يتصدر دولارها عبارة ( IN GOD WE TRUST ) وأنها توظف قساوسة وأخيرا أئمة في جيشها : كما أنه ليس من باب المصادفة أن يكون الرئيس جون كينيدي والذي لم يتم ولايته باغتياله هو الرئيس الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا كما أننا نجد معظم الرؤساء الأمريكان يبدءون خطبهم بعبارات دينية بل أن الرئيس كلينتون كان يفتتح جلسات الاجتماعات الرسمية لحكومته بالصلوات والابتهالات وكلنا يتذكر عبارة الرئيس بوش ووصفه لحربه ضد الإرهاب بالحرب المقدسة وغير ذلك من الدلالات والإشارات التي تؤكد انسجام الدولة مع تطلعات ووجدان شعوبها وإذا نظرنا إلى بريطانيا مثلا نجد أن الملكة يطلق عليها رسميا ملكة بريطانيا وحامي الكنيسة .
هناك أيضا الهند – بلد أكبر ديمقراطية في العالم – والتي رغم – عالمانيتها تحترم المشاعر الدينية لسكانها وتسمح للديانات الأخرى بأن تسير أمور المؤمنين بها في بعض القضايا المتعلقة بحياتهم بالرغم من تعاطفها الواضح والمباشر مع الهندوس ولكنها لم تتغول على ديانات الأقليات كالمسلمين مثلا الذين يحتكمون إلى الشريعة في أحوالهم الشخصية والدولة في الهند هي التي تقوم بتأهيل وحماية هذه المحاكم دون التدخل في شئونها .
هناك أيضا الدولة العالمانية الوحيدة في الشرق الأوسط –كما يحب أن يطلق عليها الغرب – ونقصد بها إسرائيل . فهذه الدولة وبالرغم من فصلها للدين عن السياسة تماما إلا أنها بنيت وتأسست على الدين ، بل وتستمد شرعيتها منه ، ولكن مؤسسات الدولة الرسمية لاتمارس أية أنشطة دينية بل تترك هذه المهمة للمؤسسات الدينية وتجري العملية السياسية بمنأى عن الدين وإن كان حاضرا وبشدة ويلغي بظلاله على هذه العملية ويوجه بوصلتها وذلك لأن السياسة والبرامج السياسية تستهدف المواطن وتعبر عنه .
من هنا نخلص أن فصل الدين عن الدولة لايعني أبدا إزدراء الأديان أو الإلقاء بها في سلة المهملات ولكن يعني تحديدا أن لاتمارس السلطة السياسية أو تتدخل في تحديد دين معين للمواطنين أو تنحاز لدين معين على حساب أديان ومذاهب أخرى .
كان هذا عن الغرب ، أما إذا عدنا للشرق الإسلامي نجد أن هذه الفكرة قد طرحت منذ أمد بعيد وربما كان أول من طرح ذلك المفكر الإسلامي الشيخ محمد عبدة حين قال ( لاسياسة في الدين ولا دين في السياسة ) وكذلك مقولة الزعيم سعد زغلول حين نادى بأن الدين لله والوطن للجميع . فهل ياترى كان هؤلاء يقصدا ويناديان بتهميش واستبعاد الدين من حياة الشعوب ؟ بالتأكيد لا ولكن كانا يطالبان بتحديد مساحة كل من السلطة الدينية والسياسية . أيضا من المفكرين المعاصرين نجد المفكر محمد عابد الجابري والذي يرى بكل وضوح أن المقصود من فصل الدين عن الدولة هو فصل الكنيسة عن الدولة ولكن ليس الدين هكذا إطلاقا وتعميما وذلك باستناده إلى الظرف الموضوعي الذي ظهرت فيه هذه النظرية ويرفض التعميم وينادي باستبدالها بكلمة الدولة الديمقراطية .
وإذا نظرنا لواقعنا الإرتري بنظرة منطقية وواقعية بعيدا عن سياسة النعامة والتي تنكرواقع الخطر الماثل أمامها بدفن رأسها وسمينا الأسماء بمسمياتها لوجدنا ذاك التداخل بين السلطة السياسية والدينية وأن السلطة السياسية تمارس وتنفذ أجندة دينية بعباءة مدنية وتكرس ثقافة ودين طائفة ومذهب واحد في إرتريا والأمثلة والوقائع على ذلك كثيرة ، بل إننا نجد إنه من الصعوبة مع البراهين التي تفرض نفسها أن نثبت عكس ذلك .
ولأن البدايات تنبئ وتبشر بالنهايات وكانت بدايات هذه السلطة الحاكمة اليوم هي ( نحنان علامانان وسلفي ناظنت ثم قمبار ) فهاهي النهايات أيضا تؤكد تلك البدايات وهانحن نجد أن الكنائس ولمذهب معين تنتشر كانتشار النار في الهشيم حتى في المناطق الموغلة في الريف الإرتري بغض النظر عن عدد المسيحيين الذين يقطنونها ، في حين أنك تمر بسلسلة من الإجراءات التعجيزية ليس لبناء مسجد جديد بل حتى لترميمه ، إغلاق المعاهد الدينية والتضييق عليها وتصفية وإعتقال المعلمين والمشايخ فيها ، فرض اللغة التجرنية ومحاربة اللغة العربية مفتاح تعلم الإسلام وفهمه ، تغيير التركيبة السكانية في المناطق الإسلامية وتمكين التجرنية وأصحاب ذاك المذهب إقتصاديا ، التضييق على سكان المنخفضات والمسلمين حتى يغادروا البلاد ، رفض إستقبال أكثر من نصف مليون لاجئ معظمهم من المسلمين في السودان حتى لا يؤثروا علة التركيبة السكانية في إرتريا ، قانون الجنسية والذي ينص في إحدى فقراته على منحها لكل من مكث في البلاد لمدة عشرة أعوام حتى لو كان ذلك في فترة الاحتلال وطبعا هنا المقصود هم المسيحيون وبدلا من محاسبتهم لأنهم جاءوا مع قوات الإحتلال وتحت حمايته وأستو لو على المدن بعد أن غادرها أهلها وكانوا صمام الأمان له أعطوا الجنسية ، كل ذلك وغيره ألا يعني أن الدولة في إرتريا هي دولة دينية ولكن بقفازات وأقنعة مدنية .
وهنا قد يتساءل متسائل أن النظام يمارس قهره وتسلطه حتى على مسيحيي المرتفعات الأرثوذكس ، فعلا ذاك وصحيح ولكن ليس لنفس السبب الذي يحارب ويضطهد به الآخرون ولكنهم يحاربون لعدم إيمانهم أو تقاعسهم في تنفيذ هذه الأجندة .
في الختام قد يكون فصل الدين عن الدولة حلا لمعضلاتنا كمجتمع متعدد الأديان ، وقد تكون الدولة المدنية غايتنا ، وقد تكون العالمانية ببعدها السياسي حلا لإشكالات الحكم في إرتريا ، وقد نختلف تماما مع الدولة العالمانية المطلقة ببعديها السياسي والثقافي والمتمثلة في الأنظمة الشيوعية التي تغفل البعد الروحي للإنسان وتتعامل معه ببعده المادي فقط ، وكذلك نختلف مع عالمانية فرنسا ذات الظروف الموضوعية الخاصة والمتعلقة بالثورة الفرنسية والتي باتت عبئا ثقيلا على الحريات وأسباب تململ ديني في مجتمعها . نحن مع الدولة المدنية التي تفصل صلاحيات السلطتين ولكنهما تقفان في موقع خدمة الإنسان بتركيبته المادية والروحية وتعملان على تلبية تطلعات الإنسان الإرتري وتعملان في تناسق وتوافق ، نحن مع الدولة المدنية التي تعبر وتتوافق مع الدين والإيمان . نحن ضد الدولة العالمانية التي يحس جزء من مواطنيها بالغبن الطائفي . نحن ضد الدولة العالمانية التي تحاول أن تزج بالدين – أيا كان – في دورة الماضي . وتفرغ الإنسان من محتواه الروحي .
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=6817
أحدث النعليقات