دموع الاحزان

حامد عبدالله

عمى”ارحو” شيخ هرم تقدم به السن، وتجاوز السبعين عاما من عمره، وبدت عليه علامات الكِبر؛ فاحدودب ظهره، ورقت عظامه، وتقوست سيقانه، وعلا الشيب ما تبقى من شعر رأسه، وابيض شاربه وشعر حاجبيه بالكامل..، ورغم تقدمه فى العمر، فهو يتمع بذاكرة قوية، وبحيوية يحسد عليها؛ فيواظب على أداء صلواته الخمس فى المسجد،ويحرص بالذهاب الى المسجد القريب من داره حتى فى عتمة الصباح الباكر ليؤدى صلاته مع الجماعة،ويبقى يتلو ماتيسر له من القرآن الكريم حتى يلوح ضوء الصباح ومن ثم يذهب الى السوق لقضاء حوائجه. وذات صباح كان يمشى الهوينة متكئا على عصاه، واذا به يشعر بحركة سير منتظمة لا تخطئها اذناه،تشبه بالضبط مشيته عندما كان مجندا صغيرا فى الجيش الايطالي، واراد ان يتبين مصدرالحركة المنتظمة، فتوقف برهة عن سيره البطئ،واحال عصاه من يمناه الى يسراه، ووضع كفه اليمنى فوق حاجبيه، وبدأ يحاول رؤية الاشباح المثير للغبار..، فخذله نظره الضعيف من رؤية الجيش السائر بانتظام شديد، فالتفت ناحية كتفه اليمنى لعله يجد من يعينه..! وكانت ساعئذ تسير “روبلى” بمحاذاته، وهى تحمل سلة غلال نصف فارغة تقصد مطحنة الغلال القريبة..، وتوقفت هى الاخرى بالقرب منه، والقت عليه التحية :”صباح الخير يا عمى..!” ورد التحية بمثلها :” صباح النور..، أأنت “روبلى”؟” وعاجلها بسؤاله عن الجيش السائر بانتظام عسكرى عهده فى شبابه الباكر..، فردت عليه بنت ابن عمه “روبلى”:..،هؤلاء قوات الامم المتحد ..ياعمى..!” استغرب الرجل..:” قوات الامم التحدة..، وهل للامم المتحدة جيش..، وهل ينوون غزو بلادنا كما فعل الطليان..؟”،  قاطعته :” لا ياعمى..، هؤلاء قوات حفظ سلام,جاؤا للفصل بين قواتنا، وقوات الجيش الاثيوبى فى مناطق الحدود المتنازع عليها..، انسيتم… ؟” زادته اجابة “روبلى” استغرابا :”..،قوات حفظ سلام؟!..، قوات فصل بين الجيوش؟!..، عن اى سلام يتحدثون؟ واى سلام يحفظون؟ وبين اى جيوش يفصلون؟ “

    لقد انتهت الحرب على كل حال،ومات من مات هناك، وعاد من عاد من الجنود، ولم تبق مشكلة تشغل البال ..، فقط المفقودون لم نجد لهم اثر..، اين ضاعوا.., والسؤال عنهم ممنوع بقوة المزاج؟. ويبدو لى هؤلاء ضلوا الطريق، وتاهوا فى فهم حقائق الامور، ولم يجدوا خبيرا من اهل البلد يرشدهم الى مواقع الاشتباك الحقيقية فى الوطن الارترى..، والأمن هنا: فى مدننا ..وفى بوادينا مضطرب عكس ما يقولون، وحتى السلم الاهلى بيننا والذى كان يبدو راسخا، بات مشكوكا فى استتباب رسوخه الموهوم!، والحرب الحقيقية تجرى رحاها بشدة هنا فى شوارعنا،وفى حاراتنا،..، والدماء تملأ غرف نومنا يسفكها ملثمون يقتحمون حرمات منازلنا فى الليالى المظلمة؛ فيقتلون من يقتلون،ويخطفون من يخطفون، ويزجون بالجملة فى غياهب السجون الرجال والنساء من الابرياء..!

   نحن نعرف الجانى، ونعرف الضحايا، نعرف انسابهم،ونعرفهم بالاسماء والالقاب والهوية : ” محمد”اشحقو”، وموسى”راقى”، وادريس “ابعرى”، واحمد “اكلى”، واحمد “شيخ فرس”، ومحمود “شريفو”، وهيلى”درع”، و”كيكيا”،-صالح وابن عمه حسن- وحامد “حمد”، و”سنبرا”، واحو، وجرمانوناتى،  ومحمود “ديناى”، وسعيدو، ومريم، واستير، وطعمى..، هؤلاء نفر قليل من الاف ضحايا الاختطاف العشوائى فى حرب الشوارع الفتوحة منذ استقلالنا وحتى اليوم، وهؤلاء قد خُطفوا من منازلهم، او من مزارعهم، اومن محلات متاجرهم،او من قاعات المحاكم، او من مسارح الغناء فى ليالى العرس،او من مكاتبهم، او من مدارسهم وهم يلقون دروسا تربوية فى خُلق التسامح وفضائل المحبة بين الناس, اوانتزعوا من تحت قباب معابدهم : خُطفوا ائمة مساجد من ساحات محارم المساجد وهم خاشعون يئمون المصلين فى صلوات الفجر..،او قساوسة يؤدون صلوات المحبة فى كنائسهم!.

   القتل، والخطف جرائم ضد الانسانية يُعاقُب مُرتكِبوها بقوة القانون والاخلاق، وشرائع الامم المتحدة تلزم حفظ الأمن، وحماية حقوق الناس من التعدى الجائر، ومن الانتهاكات الصارخة، وتلاحق قضائيا مُختطِفوا الطائرات المدنية, وتعاقبهم عقابا عادلا,وامامنا تجربة الجناة فى حادثة اختطاف طائرة “بان اميركان” المدنية،واسقاطها فوق قرية “لوكربى” الاسكتلندية،وكيف قُدموا الى المحاكمة الدولية فى “لاهاى”، ونَزلَ بهم العقاب العادل، فما بال الامم المتحدة لجانى يخطف وطننا بكامله، ويشن غاراته الليلية, فَيُروع شعبا آمنا أيا من كان، وفى كل مكان من ارتريا..،

  استرسل عمى “ارحو”كلام انينه : “يا بنتى..”روبلى”..،اسمعينى..،اندهى لى..، نادى الطليانى بأعلى صوتك..، اريد ان اخبرهم بالحاصل؛ بحقيقة الحرب المفتوحة هنا فى القلب :” فى “صنعفى”، وفى “اسمرا”، وفى “كرن”، وفى “مصوع”,..، الحرب ليست فى اطراف الحدود؛ فى “بادمى”او فى” زال امبسا” اوفى ” ام حجر” اوفى ” بدة”،..، نايه..ناديه، اذاكانت مهمتهم حفظ سلام، وفصل حقيقى بين الجيوش المتحاربة؛ فعليهم ان يفضوا الاشتباك الدموى بين قوات “الملثمين” المدججين بمختلف انواع الاسلاحة، والذين يشنون غاراتهم الليلية بلاهوادة، وبين شعب مجرد حتى من السلاح الابيض..، “والله اقول لك : ” يا”روبلى” نادى اى واحد من جنود الامم المتحدة اريد ان ارشدهم الى مخابئ الجناة..، وانا اعرف الجناة خاطِفو الابرياء.اعرفهم بذاتهم وصفاتهم، واعرف عناوينهم، واريد ان يقبضوا عليهم، ويجروهم مغلولين الى ساحات القضاء الدولى فى لاهاى..،

   اخذت “روبلى”تحدق النظر بتركيز شديد على صفوف الجيش السائر بانتظام الى”زال امبسا”، وتبين لها من سحناتهم انهم من شبه القارة الهندية؛ من بنقلاديش او من الهند..، فردت على عمها بالقول: ” يا عمى..، هؤلاء العسكر من شبه القارة الهندية، وبالطبع لا يعرفون كلام الطليان ..، فبأى لغة تحدثونهم.., وانتم تعرفون ان الكلام معهم فى قاموس السلطة يعد من جرائم الخيانة العظمى.., فهيا بنا ياعمى انسوا الموضوع، ولا تضيعوا  وقتكم فيه..، هيا بنا ..،دعونى احمل عنكم “القفة..الزمبيل” واساعدكم فى قطع الطريق، واوصلكم الى بيتكم ..،”.

    اطمأن صاحب دعوة قوات حفظ السلام على سلامة رأسه، وبقاء نظامه، ولم يعد يخشى اقتحاما من قوة تأتيه من خارج الحدود، فامر بطرد القوات المدعوة، واخلاء مواقعها فى الحدود..،. ونسى عمى”ارحو” كلامه الذى افضى لـ”روبلى” وقوفا على الرصيف قبل سبعة اعوام مضت..،وانشغل بامور دنياه, واخذ يمارس حياته المعتادة،وحياته بدأت تسوء، وليس له من يعيله؛ فابنه الوحيد قد استشهد فى معركة تحرير مدينة “دقى محارى” وحفيديه لم يعودا من حرب الحدود مع العائدين؛ فاحدهم اخبروه باستشهاده,واما الاخر ما زال فى اعداد المفقودين..، وعادت امور حياته تشهد تدهورا،وغدت معيشته اليومية على باب الله الواسع.., وبات يعانى من امراض الشيخوخة،ومن وقت ليس بقصيرلم يقو العمل فى الطرقات مقابل الغذاء, فقطعوا عنه حصته من مواد الاغاثة الضرورية،ومنذ سنة لم يعد بمقدوره الذهاب الى “منحلته”فى “سويرة” للاعتناء بها،وهى مصدر رزقه الوحيدة..، ومن اربعة اشهر تقريبا انقطع عن صِلة ارحامه،ومن عودة المرضى، وحتى ابن عمه وصديق طفولته لم يستطع زيارته،وهو فى فراش مرض خطير بالمستشفى..، وفى مطلع السنة الجديدة- 2010-، وفى ليلة الخميس من شهر يناير الفائت شعر بألام فى مفاصله، واشتدت عليه نوبات سعال الربوالمزمنة، مما ألزمه البقاء فى الفراش على غير عادته، ولاول مرة فى حياته تغيب عن اداء صلاة الجمعة فى المسجد..، وفى ذلك الصباح من يوم الجمعة كانت تطوف سيارة بمكبرات الصوت تدعو الناس الى اجتماع هام، ويحذر الداعى من عواقب التخلف عن الاجتاع المهم..، وكان الصوت مزعجا منع الناس النوم وهدوءالبال..!

   انشغل عمى “ارحو”بموضوع الدعوة، وظل يفكر فيه، ماذا يمكنه ان يفعل ..، وهو شيخ هرم،ومريض متهالك..، ولم يبق من موعد الاجتماع الا ساعة ونصف الساعة, وبينما يقلب فى ذهنه خيار الغياب وما يترتب عليه من عواقب سمع صوت اذان العصر، فأزاح الغطاء من رأسه،وقام بصعوبة بالغة من فراش مرضه، فتيمم من الصعيد الطاهر، وادى صلاته قعودا فى بيته، وظل جالسا فى سجادته متجها الى القبلة يورد بسبحته، وبينما هو يسبح بحمد ربه سمع دقا عنيفا يهز باب بيته..، وفأجاة ، دفعت فتاة دميمة الباب بقوة ، فاهوته مكسورا،واقتحمت الدار بسرعة مذهلة ، فوجدت صاحب الدار عمى ” أرحو ” يطقطق بسبحته ، ويسبح بحمد ربه مرتبكا من هول صدمة المفاجأة ..، وخاطبته بغلظة ،وبأقلة أدب :”هوى..! ماذا تعمل ..، ألم تسمع نداء الدعوة الى الاجتماع ..؟! ” صرفت تهديداتها المبطنه وعادت ادراجها من حيث اتت ..!

   هرولت زوجة عمى “أرحو” مسرعة، وقرفصت على طرف السّجادة تغالب دموع الضعف والخوف، فوضعت يدها على كتف زوجها، وأخذت تحدثه بحرقة والم :” ألم أقل لكم “كَوحِى”[1] فتاة دميمة،  وعديمة الأدب والاخلاق ، ويا “يربى”[2] لطف علينا ، ولوكان اقتحامها لدارنا بعد مغيب الشمس وفى منتصف الليل تحديدا ، لكانت مصيبتنا أعظم وقطعا لكنا بين قتيل ومخطوف ، ولحسن حظنا قلت خسائرنا وانحصرت على كسر الباب ، ولس مُهمًا انتم تصلحونه غدا بيدكم ..، سلمتم لى .. انا من لى فى هذه الدنيا غيركم ..، هيا بنا الآن نذهب الى الاجتماع..، دعونا لا نتأخر ..همتكم ..، وتعرفون أن الغياب فى عرفهم جريمة مابعدها جريمة ..،هيابنا اتبعونى نذهب ..نذهب .!

   أستوعب عمى “أرحو” درس الأقتحام ، وفهم نصائح زوجته، ولم يجادلها لتبرير الرفض كعادته ، فاستجمع قواه الخائرة، وبصعوبة شديدة نهض من جلسته، وشعر بثقل جسده النحيل على ركبتيه المتورمتين من الرطوبة،  فارتجفت أوصاله، فارتكزعلى عصاه خوفا من السقوط، وانتعل سِفِنجتِه بعجل، وترك عمامته رمز الهيبة والاحترام معلقة على ركن سريره الخشبى المهترئ، و بخطى متعثرة اتجه ناحية الباب المخلوع، وسبقته اليه زوجته وأزاحت له الباب جانبا، وخرج بشق الانفس متجها الى مكان الاجتماع، فوصل بعد جهد مضنى، وهلاك الروح ..، ووجد المكان مزدحما بالرجال والنساء، ولم يجد كرسيا يجلس عليه، فوقف خلف الصفوف مُسنِدا ظهره على الحائط ..، ولم يتحمل ألام ركبتيه، وشعر بدوخة وبدوران الرأس ، فاهتز جسده المنهك ، وكاد أن يهوى ساقطا بأعلى قامته ، وفى اللحظة المناسبة أنقذته “روبلى” من السقوط المحتوم، وأجلسته على كرسيها :” دفى أبًّ”[3]..، اجلس ياعمى مستريحا ..؟!”

   دخل “سرقى ” مزهوا،  تتقدمه “كَوحى “مهرولة امامه، ويحيط به صبيه وفتيات، فنهض الحضور قياما لجلاله ، واستقبلوه بتصفيق فاتر،وبزقاريد منافقة !.أعتلى “سرقى”المنصة وبدأ يحدث الناس عن قرار مجلس الأمن، وأخذ يتوعد بهزيمة أمريكا وحلفائها، ويهدد بضرب يد من حديد لكل متخاذل عن مقاومة القرار الجائر..،وحماية الوطن المستهدف بمؤامرات العالم الحاقد كله ..،وشرع يشرح حيثيات القرار الجائر، ويفصل بنوده ..!                         فهم عمى “أرحو”مرامى القرار جيدا ، ولم يجد فى حيثياته شيئا من جرائم القتل، والخطف، وهى الجرائم الحقيقية التى تَستَوجِبُ فى رأيه قرارات الأدانة، واصدار الاحكام العادلة بحق الجناة من اى هيئة جدية ومحترمة، فاستخف به وبأصحابه،ولم يعره أهتماماً..، وسخرمن دعوة ” سرقى ”  لمقاومة القرار، والدفاع عن الوطن المستهدف ..!، فاطبق شفتيه ببعض ، ومط شفًّته السفلى وأمس يحدث نفسه ممتعضا :” قال “سرقى” الدفاع عن الوطن ..؟! أندافع عن وطن حولتموه الى بركة من دموع أحزان تبتلعنا بالكامل …؟!”.

Ghadam61@yahoo.com

حامد عبدالله

 


[1] . من الأسماء الجديدة معناها بالتجرنية حجر أصم.

[2] .  يربي:  معناها  يا ربي بالساهو وتنطق بكسر الياء وفتح الراء.

[3] . ديفي  أب: ديفي معناها اجلس ومعناها عمي.  اجلس يا عمي.

روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=2437

نشرت بواسطة في مارس 13 2010 في صفحة الصفحة الثقافية. يمكنك متابعة اى ردود على هذه المداخلة من خلال RSS 2.0. باب التعليقات والاقتفاء مقفول

باب العليقات مقفول

الأخبار في صور

تسجيل الدخول
جميع الحقوق محفوظة لفرجت 2010