رحل المعلّم لتبقى أعماله…
بقلم: عبدالفتّاح ودّ الخليفة-المملكة المتّحدة
فى جمعة 22 من نوفيمبر 2013 جاء الخبر بأنّ المعلم (صالح محمد محمود) إنتقل إلى جوار ربّه رحمه الله … وقبله بأيّام أيضا إنتقل إلى رحمة الله مناضلون عرفتهم عن بعد منهم (المناضل جعفر على أسد) الذى لمحته وهو معتقل يقوده حارس فى منطقة (عليت) ومعه مناضل آخر هو (حامد صالح تركى) تلك كانت أولها وآخرها، ثمّ المناضل/ على محمد إسحاق/ والمناضل/ محمد نور قبريس النقابى المشهور والمعروف فى جبهة التحرير الإرترية رحمهم الله جميعا فيما قدّموا من تضحيات فى صناعة هذا الوطن المشروع….
هكذا يرحل كلّ يوم عظيم من عظماء الوطن دون أن يكحل عينا برؤوية الأرض التى ذاق الأمرّين فى سبيلها وتغرّب حتّى بعد فجرها الكاذب ..وحتّى الأجساد الطّاهرة لم تجد مترا ولا شبرا ترتاح فيه بجوار الآباء والأجداد… ولا أملك إلاّ أن أقول {حسبى الله ونعم الوكيل فى هكذا دولة ولا أقول وطنا} لأنّ الدولة هى الّتى تسقى اليوم هذا الوطن المكلوم من نهر الحنظل…ولا نقول فى هذا المقام إلاّ قول الحقّ عزّ وجل : ولا تدرى نفسّ بأىّ أرض تموت …وقوله تعالى: { … يا أيّها النّفس المطمئنّة أرجعى إلى ربّك راضية مرضيّة فادخلى فى عبادى وأدخلى جنّتى) صدق الله العظيم..
عرفت هذا الأستاذ الـ (صالح) والـ (محمود ) فى عام الخدمة الوطنية 1981.. فى معسكر (لكوييب) فى الرّكن الشمالى الغربى من بركا… كان حينها نائبا لرأيس إدارة مكتب التعليم المناضل الفذّ (محمود محمد صالح)…..
كنت أرى الأستاذ نحيفا رفيعا غارقا فى هموم شعبه وقضيّته لا يجلس ولا يرتاح إلا لماما عيناه تحكى عن طول السّهر وعبئ العمل ….لايطيل فى الحديث، إن تحدّث لتقويم معوجّ أو لتصريف أعمال يوميات النّضال .. كلّ أحاديثه توجيهات وكل كلامه حكم وفى صميم الهم التعليمى والوطنى…فى (لكوييب) كنت أهتمّ لحديثه وأرغب فى الجلوس إليه ، وفى الغالب الأعمّ لا أجده فى مكتبه لأنّه دائما فى ترحال فى تفاصيل هموم التعليم لأجد عضوى الإدارة (زمنفس يمانى) مسؤول محمو الأميّة والمناضل (حدقو فسهاطين) سكرتير القسم وشتّان بين (حدقو ) و(زمنفس)….
بعد إكمال دورة التدريب والتثقيف قبيل إستلام برنامج أداء الخدمة ، طلب الأستاذ المعلّم الـ (صالح ) أن أبقى فى المعسكر لأنه يريدنى أن أكمل ما بدأه زميل آخر لى هو (مختار عبد الصّمد ) فى ترجمة بعض الكتيبات من التقرنية إلى العربية… بدأت العمل هناك وبدأت الحرب الأهلية اللعينة فرحلنا بكتبنا وحنقنا وغضبنا إلى (ساوى إدريس دار) بالقرب من معسكر السّخرة اليوم …ولكن فى عزّ الظّهريات تأتى ( سيّارة تايوتا) تحمل الأستاذ الـ (صّالح )…يمرّ على الٌأقسام كلّها قبل أن يرتاح وقبل أن يدخل مكتبه.. أذكر حديثه المؤثّر دائما “جدودكم وآباءكم إختارو اللغة العربية عن دراية و عمق فى التفكير فحافظوا عليها أنتم تغنيكم عن غيرها، يجب أن لا يلتبس عليكم الأمر..العربية خيارنا وهى لغة الوطن وإهمالها عمدا أو بغير قصد قد يصيب نصف الوطن بشلل إن لم يكن كلّه” رحم الله الأستاذ الـ (صالح) فقد كان ثاقب الرّأى ولا ينطق إلاّ فى الصّالح…
عندما يأتى للمعسكر يسألنا عن ما فعلنا وإين وصلنا بكلمات قليلة تعنى الكثير .. وبإختصار شديد..قال مرّة : لم يحالفنى الحظ لمعرفة التقرنية كتابة وعندما دخلت (جامعة أدّيس اببا) تعلّمت الأمحرية فيها فى السنة الأولى لأنها كانت شرط القبول ونلت فيها أعلى الدّرجات…
كان يخاطب زملاءه فى القسم بالتقرنية إلاّ واحدا كان دائم الحضور هو (عثمان محمد نور كيكيا) لأن الأستاذين (جابر سعد ) و (محمود محمد صالح )عضوى الإدارة الآخر ين كانا دائمىّ السّفر بحكم المهام ومسؤولية الملف الخارجى فى إدارة (قسم التعليم) وفى الإجتماعات الرّسمية يصوغ الأستاذ الـ (صالح )رآه باللغة الإنجليزية حين يتعذّر غيرها ..
لم أرى شخصا أو معلما فى همّته وخنقه على العربية لأنّى كنت أرى الترجمة الفعلية للأقوال وفى الحال ..يحكى عن البدايات والصبا والصغر فى قري (غرب مديرية سنحيت) وشرقى بركا و(حقّات )… والدراسة الإبتدائية فى كرن فى نفس موقع مدرسة كرن للبنات حتى فجر التّحرير لتصبح (مدرسة الفجر الإبتدائية).. ويقف فى محطّة مهمّة فى حياته عنوانها (جامعة أدّيس أببا) ) وهو أب لثلاث…ولكنّى لم أدرى حينها أن زوجته من أسرة جارة لى فى مدينة (كرن) ….
إذا تحدّثنا عن مجاهدات _جبهة تحرير إرتريا_ فى الرّقى بالتعليم نجد السّرح الشّامخ مدارس الـ (يونيسكو) و(مدرسة التّأهيل التّربوى) وفى كلاهما تجد بصمات الأستاذ (صالح) واضحة وآخرون معه وكان أوّل مدير لمدارس اليونيسكو التى .. كان التدريس فيها بالإنجليزية، و العربية كانت مادة تدرس مثل غيرها….
وأحيانا كان الأستاذ يختار من طلاب الخدمة الوطنيّة من لهم الكفاءة فى تدريسها فى القسم المتوسط أذكر منهم الموظّف فى الأمم المتحدة اليوم والذى يتحفنا بمقالاته الرصينة فى موقع (عركوكباى دوت كوم) من إقليم دارفور الأستاذ/ محمد عيسى سعيد….
الأستاذ الـ (صالح) كان دائما وأبدا يسهر للنهوض بالتعليم إلى أعلى المستويات وكان ذالك همّه الأول وكأنّه خلق وسخّر ليكون معلّما ومربّيا ، وعندما كان معلّما قبل الخروج إلى الثورة عمل بهمّة لإنتزاع الظلم والحرمان الموجّه والمقصود للمنخفضات فى التّعليم فى عهود الإستعمار الغابرة ، فضمّنه رسالة تخرجه من جامعة (أدّيس أببا) فى العام 1972 حيث كانت فى : “أسباب تخلف التعليم فى منخفضات إرتريا” وقد قرأنا وقرأ هو بنفسه جزأ غير يسير منها لنا لأنها كانت فى مكتبه وبها كان يستدلّ بالأرقام فى حورات سياسة التعليم والمناهج فى (جبهة تحرير إرتريا) ….
وعندما كنّا نعمل على ترجمة كتيبات التربية الوطنية من التقرنية إلى العربية كان أحيانا يحتدم الحوار بينه وبين طاقم الإدارة وواضعى الكتب وإدارة المناهج حول سياسة التعليم لأنّه كان يرى يعينى معلّم مخضرم ومربّى مجرّب بعدم جدوى إقحام تفاصيل السياسة والنطريات فى مناهج الأطفال وكان يستدلّ فى ذالك بكتب سياسة التعليم فى كثير من بلدان العالم….كان يريد أن تكون مادة التربية الوطنية مادةّ تزرع حبّ الوطن وسموّه ، وعلياءه وتأريخه فى أفئدة النّشأ الصّغار…
لم يوفّر الأستاذ (صالح محمد محمود) يوما جهدا فى الرقّى بالتّعليم عامّة و باللغة العربية خاصّة رقىّ يناسب تأريخها فى أرض الهجرتين ويوازى حبّ شعب إرتريا لها ليترجم غرامه لها بها، بلهجة إرترية فيها رائحة التراث القريب والبعيد ولتحكى عن التمازج الإنسانى بين أقوام دولة إرتريا ولتكون مربط الفرس فى قصةّ وحدة لسان غير النّاطقين بالتقرنية…
إداريا كان ينوب عن الأستاذ فى تصريف شؤون التعليم المناضل والمعلّم (سابقا) (زمنفس يمانى ) وينوب (زمنفس ) الأستاذ المناضل (عثمان محمد نور كيكيا) أحد قيادات الإتّحاد العام لطلبة إرتريا حتّى السّبعينيات والذّى تفرّغ للنضال الميدانى منذ عام 1976 ولا زال يعمل فى نفس المجال فى وزارة التربية والتعليم فى (أسمرا) حماه الله وأطال لنا فى عمره…..
الصورة أعلاه إاتقطها الكاتب (محمد سعيد عيسى ) تجمع العاملين فى مكتب التعليم يتوسّطهم (المعلّم) (صالح محمد محمود) .. وعن يمينه (حافظ عيسى محمد هاشم) وعن يساره المرحوم (إدريس على سعيد) والمناضل (بابكر_ كاتب على الآلة الكاتبة) والجلوس: فى اليمين المناضل (عبدالواسع موسى حقوص – خريج جامعة بغداد كان قد أتى لتوّه متفرّغا للتنظيم) ثم كاتب هذه السّطور وبلا إفتخار…
كان يريد الأستاذ إبدال (طلاّب الخدمة الوطنيّة ) الذين يأتون غالبا من (السودان) و(سوريا) والـكويت) و(العراق) لتدريس اللغة العربية بـ (معلمون) من صميم التجربة فكان قد إهتدى إلى إنشاء (مدرسة التأهيل التربوى ) لتكون نواة كليّة لتخريج المعلمين فى المستقبل فكان له ما أراد وقد إهتمّ إهتمام خاص بالآنسات كحلّ وطريق أفضل لمساهمتهنّ فى النّضال عن طريق تعليم وتربية الصّغار…. سحب منهنّ أعداد غفيرة من الدفاعات والعيادات العسكرية والشعبية ، ممّا كان يسبب له إحتكاكات بعضها حقيقى وغيرها مفتعل مع قيادات الجيش والإدارات … وجمع فيها طللاب آخرون من الأجهزة وجرحى حرب التّحرير وإختار لها أكفأ المعلّمون وأحسنهم وكان أوّل فصل فى العام (1978)….. وفى ثلاثة أشهر درس الطلاب منهج عامين كاملين ومع بداية السنة الدراسية كانوا معلمين أكفاء فى (هبرو) و(حلحل) و(مشلل) و(تقوروبا- أب حشيلا) و(منصورة ) و(حركوك)و (مقراييب) و(برعسولى) و(طيعو) وغيرها فى كلّ الأقاليم والقرى والمراكز الإدارية المحرّرة فى عهد الثّورة ..ويبدوا هنا قد تأثّر المعلّم الـ (صالح) وإستفاد من تجربته فى التحصيل العلمى عبر الدّورات السريعة والممركزة التى إبتدعها الإنجليز…
وبشهادة الكثيرين كان التعليم فى تلك المدارس متقدّما ومشجّعا وكان تعليما وطنيّا تتباهى به جبهة التحرير الإرترية وتفخر .. وبرنامج (محو الأميّة ) فى الجيش كان من أنجح أعمال (جبهة التّحرير الإرترية) ومكتبها التّعليمى … ووراء كلّ ذالك النّجاح ثلّة من رهبان الوطن وعلى رأسهم الأستاذ الـ (صالح) والـ (محمود ) دوما ….(صالح محمّد محمود إسماعيل)
فى العام 1980 تطوّرت (المدرسة المعسكر) فى (لكوييب) بقدوم المعلّم الأستاذ الشهيد (عبدالقادر إدريس كرّار) بعد تخرّجه من كلّبة التربية فى جامعة الخرطوم فأصبح مديرها و أوجد له الملعلّم الـ(صالح) معلّمون أكفّاء من طلاّب الخدمة الوطنية فمنهم من قام بالهمّة لعام وغيره لعامين، فى تدريس هؤلاء الجنود (المعلّمون) ولكن فى نهاية عام 1980 إبتلعت الحرب الأهلية اللعينة خيرت شباب إرتريا وعلى رأسهم يا حسرتى!!! وندمى !!!! مدير مدرسة التأهيل التربوى الأستاذ( عبدالقادر إدريس كرّار) ولأنّ الأستاذ (صالح) كان يعمل بحكمة “يجب أن يستمرّ التعليم ويبقى ما بقيت إرتريا على وجه البسيطة” …إستعان بأستاذ مربّى ومناضل آخر هو (صالح فكاك)_ خريج جامعة بغداد _ المشهور والمعروف بين أصدقاءه بـ (راكى).. والذى كان مشرفا على التعليم فى الوحدة الإدارية الخامسة ….
و لكن مدافع الحرب الأهليّة لم تساعد المدرسة على الإستقرار فقد تركت ثلّة من الطلبة مقاعد الدراسة (تحت الشّجر) لتلتحق بالوحدات العسكريّة ومنهم من إستشهد فى سبيل الدّفاع عن الجبهة الأمّ…
وضغط الحرب أيضا ترك مكتب الشّؤون الإجتماعية ومعه (مدرسة التّأهيل التربوى) يتقهقران إلى منطقة (ساوى- إدريس دار) و(ساوى-عد عمر) وكنت معهم من ضمن المنسحبين..وزاد ضغط (الحرب اللعينة) فأضّرت المدرسة للإنسحاب للمرّة الثانية وتوغّلت غربا إلى معسكر (ربدة –باشميل) …. عندما أذكر تلك المدرسة وطلابها وفصولهم الأولى تحت الشّجر ومقاعدهم الحجر…أذكر كيف حبّب فيهم (المعلّم ) الـ (صالح) التعليم فأتوا إليه وإلى مدرسته من (طهرا) و(هبرو) و(تبح) ومن (أرّاق) و(حلحل) ومن عموم السّاحل وأتى بعضهم من الوحدات العسكرية ليعود لها معلّما كما أتى آخرون من (زولا) وإرافيلى) ومن قرى كلّ أكلوقوزاى ..
وفى (كركون) إنضمّ إليها كثير من طلاب مدارس شمال وجنوب (دنكاليا) فكانت المدرسة تنطق كلّ لغات إرتريا و تكتب وتقرأ العربية ومن حظّى السعيد كلّفت هناك بالتّدريس والإشراف على أمسية ثقافية كانت تنظّم فى مسائيات يوم الخميس من كلّ أسبوع لطلاب المدرسة ويشارك فيها (جرحى حرب التّحرير ) لقرب معسكرهم من المدرسة ، كنت هناك برفقة الأساتذة (محمود محمد قلبوب)(1) (عمر الدين إبراهيم)(2) فكّ الله أسره.. والمربّى الجليل (صالح فكاك-راكى) مدير المدرسة.. ثمّ جاءت خطوة (خور راساى) فى 25 مارس 1982 فطارت الكتب وجلس الشيطان بين الفصول وأصبحت المدرسة شلليات (لغوية) وغادرت الثقة (المدرسة المعسكر) وإحتقن الحال وتشرذم التعليم بحجم تشرذم (الجبهة )وحينها حملت همّ سلامتهم أكثر من تعليمهم إلى أن حانت ساعة مغادرتى للمعسكر إلى الجزائر لمواصلة التعليم…
فى غربتى كانت تأتينى الأخبار تواترا عن طلاب (مدرسة التّأهيل التّربوى) فمنهم من دخل الجامعة فى (دمشق) ومن واصل الدراسة فى السودان ، ومن أكمل ليعمل فى مجال دراسته وبعدهم راسلنى من مواقع تواجده بعربية نظيفة وسليمة .. وحينها فقط تأكدت يقينا بأن جهد الأستاذ الـ (صالح) لم يذهب هدرا …هذا قليل من كثير ما خصّ تجربتى ومعرفتى بالأستاذ رأيت أن أدوّنها وفاءا له ولأعماله الجليلة التى يشار إليها بالبنان رحمه الله رحمة الأبرار مع الصّديقين والشهداء والأخيار…
______________________________________________
هوامش
1- المعلم محمود محمد قلبوب تخرّج طبيبا من سوريا وعمل لفترة فى (مندفرا)..
2- المعلم: (عمر الدين إبراهيم) تخرّج أيضا طبيبا من (سوريا) وعاد للوطن مع التحرير كان خير معين للمعلّمين والإدرايين فى المدرسسة فى (ربدة) وفى (كركون) لكفاءته العلمية وإجادته للغات (إنجليزى عربى-تقرى تقرنية وساهو) بحكم مولده فى معقل النضال ووعاء اللغات و محور كلّ الإثنيات الإرترية مدينة (قندع)…عمل منذ فجر التحرير فى مستشفى (كرن) فأحبّها وأحبته وكان يرى فى (كرن) توءم (قندع) دخل كلّ بيت وبلا حواجز عرفه الكل يرسل لهم الأدوية فى المنازل ليقيهم الوقوف فى الصفوف هاتفته مرة وبعدها إختفى من (كرن) مع زميله (الدكتور عبدالله جمع) لأسمع أخباره فى (سجن) قلعة القاش (بارنتو) وقبل عام نقل وزميله إلى سجن (سمبل) المشؤوم ومعه زميله (الدكتور عبدالله ) ولا أقول فى قصّتهم إلا أن صمودهم فى صراع الإقصاء لم يعجب أصحاب الحكم والمغرمون بالتفرّد فى الحكم والوجود فى هذا الوطن فكّ الله أسرهم جميعا والفرج أت لا محالة وتلك حتمية الـأريخ ودوام الحال من المحال….
روابط قصيرة: https://www.farajat.net/ar/?p=39858
أحدث النعليقات